تحت النيران المستعرة للحرب على قطاع غزة، اضطرت سمحة زيارة للنزوح مع زوجها وأطفالها السبعة من منطقة سكنهم القريبة من الحدود مع إسرائيل، إلى غرب المدينة. ثم أجبروا مرة أخرى على النزوح القسري باتجاه الجنوب. لكن مع كثافة وشدة القصف الإسرائيلي، اضطروا للجوء إلى مخيم النصيرات وسط القطاع.
غادرت سمحة ذات الـ44 عامًا منزلها وهي لا تحمل معها شيئًا، تقول لـ المنصة "اضطرينا نطلع من غزة، تركنا البيت وتركنا كل إشي ورانا، غير بس الفلوس المتوفرة حملناها وطلعنا فيها".
دفعت العائلة تكاليف تأمين خيمة وثمن بعض الحاجيات التي لم تكفهم إلا لبضعة أيام، نفدت فيها ما حملوه من أموال قليلة، ليبدأ زوجها عوض زيارة البحث الشاق عن مصدر دخل لتأمين طلبات أطفاله، الذين تتراوح أعمارهم ما بين السنة والنصف إلى الـ 18 عامًا، من مأكل ومشرب وحليب.
ومع الصعوبات التي يجدها زوجها في العثور على عملٍ يؤمِّن القليل من الاحتياجات، لا تجد سمحة من سبيلٍ إلا الاعتماد على المساعدات، التي إن وصلت إليها، فإنها لا تكفي.
مأساة سمحة وأسرتها تتكرر مع عشرات آلاف الأسر الغزاوية التي اضطرت لهجران منازلها، والعيش في المخيمات، معتمدين على المساعدات الإغاثية التي بدأت بالتدفق بعد أسابيع صعبة حاصر إسرائيل فيها القطاع بالكامل، وذلك عبر معبر رفح البري بعد مرورها من معبر العوجا وخضوعها لتفتيش الاحتلال الإسرائيلي، في وقت تضاعفت حاجة النازحين الذين تزايدت أعدادهم واضطروا للنزوح أكثر من مرة، امتثالًا لأوامر جيش الاحتلال وصولًا إلى مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، على الحدود مع مصر.
مع هذا الوضع المتأزم، لم يبق من أمل إلا في المساعدات الضئيلة التي تصل القطاع، الذي يواجه أبناؤه المنكوبون صعوبات جمة في الوصول لها.
ليس هذا فقط، ولكن اعتماد الأهالي على المساعدات خلق أوضاعًا غير طبيعية، من بينها اضطرار البعض للحصول عليها بالقوة، مع عدم عدالة في توزيعها بين المناطق والمخميات، بالإضافة لقيام سوق سوداء للاتجار فيها وبيعها للمحتاجين والقادرين على الشراء.
ممنوع الوصول
مع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أغلقت إسرائيل كافة المعابر مع قطاع غزة ومنعت دخول البضائع والمحروقات والمواد الطبية والإغاثية، فضلًا عن قطع المياه والكهرباء، ما دفع أكثر من مليوني فلسطيني للاعتماد في طعامهم وشرابهم على ما هو متوفر في الأسواق والمخزون البسيط لدى التُجار.
ومع تصاعد العملية البرية الإسرائيلية في القطاع، دمرت قوات الاحتلال أطنانًا من المواد الغذائية في المخازن، وجرّفت مئات الأفدنة الزراعية ومزارع الدواجن والأبقار، ما تسبب بفقدان السكان أغلب الموارد المتاحة لإطعامهم، ما تركهم عرضة للجوع.
وحذرت مؤسسات دولية عدة من خطورة الوضع في غزة وما قد يسببه من مجاعة، الأمر الذي تزامن مع فقدان آلاف العمال لأعمالهم ودخلهم اليومي الذي كانوا يعتمدون عليه للحصول على الحد الأدنى من احتياجاتهم قبل الحرب، وفقدان الآلاف لمنشآتهم التجارية ومنازلهم.
وأوكلت مهمة استقبال واستلام المساعدات الإغاثية من الخارج لمؤسستين؛ الأولى وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين/الأونروا والثانية جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وفيما بعد بدأت بعض الجمعيات والمؤسسات تتعاون معهما في عملية التوزيع، إلا أنّ هذا لم يضمن وصول الإغاثات لجميع النازحين في مخيمات النزوح القسري، حسب مريم عرفة، التي نزحت إلى مخيم بجوار معبر رفح البري من الجانب الفلسطيني.
تقيم مريم، البالغة من العمر 51 عامًا، في خيمة من بين عشرات الخيام بجوار بوابة المعبر منذ أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي. تقول لـ المنصة "كل يوم بمر من قدامنا عشرات الشاحنات المليانة مساعدات غذائية وطبية، وما حصّلنا منها إشي غير مرتين عن طريق مؤسسات دولية".
ما حصلت عليه مريم وأبناؤها الخمسة وزوجها كان عبارة عن 33 علبة غذائية تقتصر على اللحم والبازلاء والحمص والخضروات المشكلة، بالإضافة إلى الحلاوة الطحينية. تقول "ماكفيتش غير كام يوم، وبعدها صرنا مضطرين نشتري رز وطحين وغيره عشان نوكل".
وتعددت مطالبات العديد من الدول والمؤسسات الدولية للاحتلال الإسرائيلي بالسماح بزيادة كميات وعدد شاحنات المساعدات اليومية التي تدخل إلى قطاع غزة، لتصل إلى قرابة 500 شاحنة يوميًا، في الوقت الذي تدخل أقل من 180 شاحنة في أفضل الحالات منذ بداية الحرب، إلا أنّ الاحتلال لم يستجب لأي من الطلبات والضغوطات الدولية، ما اضطر بعض الدول لإرسال مساعداتها عبرّ جسر جوي لكن بكميات بسيطة لا تُذكر.
حيل النجاة
تضطر سعاد حسين(*) من المُخيم ذاته الذي تقطنه مريم، لسلوكِ طرق غير شرعية، فترسل اثنين من أبنائها لأخذ بعض المساعدات من الشاحنات المارة بالقوة، لتتمكن من تأمين الطعام لأطفالها بعدما فقدت زوجها الذي قُتل مؤخرًا إثر قصف جوي، وفقدت معه أي مصدر دخل يساعدها في توفير احتياجاتهم من مأكل ومشرب.
تقول سعاد لـ المنصة "يمكن مش صح اللي بنعمله، لكن بدنا ناكل، وبدّيش ولادي يموتوا من الجوع. احنا ما وصلنا مساعدات غير مرتين، مخيمات ومناطق أخرى وصلها مساعدات من أكثر من جهة. الفائض منهم باعوه وانتشرت بالأسواق".
وتبدي سعاد حزنها لأنّها حتى فكرت في شراء هذه المساعدات، التي تباع في الأسواق لأضعاف أسعارها الطبيعية ما قبل الحرب، لا يتوفر لديها أي مصدر دخل أو مال يُمكنها من الشراء.
قدَّرت مؤسسات دولية ارتفاع عدد الغزيين في رفح إلى أكثر من مليون و400 ألف نسمة بعدما كان يقطنها قبل الحرب أقل من نصف مليون نسمة.
تجارة الحرب
مع تفجر الأوضاع في القطاع، بدأت تظهر تفاوتات في توزيع المساعدات، بين من يحصل على كميات ضئيلة لا تكفي، ومن يحصل على كميات تفيض على حاجته، ومن هنا ظهرت تجارة الحرب.
وبينما اشتكى كثير من الغزيين في عدد من المخيمات المنتشرة من عدم وصول المساعدات بما يكفي احتياجاتهم اليومية واحتياجات أُسرهم وأطفالهم، حتى إن العديد منهم لا تتوفر لديهم المفارش والأغطية الصوفية لتمنحهم بعض الدفء في فصل الشتاء، كانت هناك مناطق ومخيمات ومراكز الإيواء أوفر حظًا في استقبال المساعدات، مثل بعض مراكز الإيواء في المدارس، وبعض المخيمات الداخلية وسط وغرب رفح.
وهو ما أكده عدد من النازحين الذين استلموا مساعدات إغاثية وغذائية متنوعة من عدة جهات، بل إنّ بعضهم استلم حصصًا من الخضروات الطازجة قُطفت مما تبقى من الأراضي الزراعية.
أبو حسين(*)، وهو رجل خمسيني نازح من شمال القطاع، استلم حصصًا غذائية وأغطية وفُرُشًا، تزيد عن حاجته، لكنه لم يمانع في استلامها. يقول لـ المنصة "صحيح هي فايضة عن حاجتي، لكن كمان الحصص الغذائية ما بتشمل كل الاحتياجات، وبضطر أبيع جزء منها في السوق وبسعر غالي عن الطبيعي عشان أوفر فلوس وأشتري اللي لازمني".
يبيع أبو حسين ما يفيض على حاجته، ليشتري ما لا تتضمنه المساعدات التي تصله، من خضروات وسكر ولحوم وملح وبيض وخميرة لصناعة الخبز، وأسعار تلك الأصناف بلغت أكثر من 10 أضعاف سعرها الطبيعي ما قبل الحرب، بالتالي لا سبيل آخر أمامه للحصول على احتياجاته، بعدما فقد مصدر دخله، حيث كان يعمل في مجال البناء باليومية، وبالكاد كان يستطيع توفير احتياجات أسرته قبل الحرب، دون أن يتمكن من ادخار جزء منه ليوم أسود، حسب قوله.
يقول أبو حسين الذي يقضي معظم يومه في البحث عن مساعدات جديدة "احنا لا بدنا مساعدات ولا زيادتها، يوقفولنا الحرب، ويسمحولنا نستورد البضايع زي ما كنا بنعمل، ونرجع نشتغل ونكسب من عرق جبينا ويكون عنّا دخل يومي، نشتري منه اللي بدنا إياه، وبكفي".
أما بالنسبة لسمحة فإن الحال يبقى على ما هو عليه، فهي لا تملك إلا انتظار وصول المزيد من المساعدات تكفيها وأطفالها السبعة، فلا مال لديها يمكنها من شراء الكميات التي تباع بأسعار الحرب المبالغ فيها، لتبقى مهددةً بشبح المجاعة مثلها مثل آلاف الغزيين.