صورة معدلة من تصوير أنصار أطميزة، المنصة
بشرى الطويل

تمارين مراوغة الجنون.. يوميات أسيرة محررة من سجن الدامون

منشور الأربعاء 29 يناير 2025

يرتبط سجن الدامون الإسرائيلي لدى الأسيرة الفلسطينة المحررة بشرى الطويل بلونين، هما الرمادي والبني، فالأول لون الشاباص، الزي الموحد للأسيرات الذي تفرضه عليهن إدارة سجون دولة الاحتلال، واللون البني وهو لون الفرشات المتراصة بجانب بعضها لضيق الزنزانة وكثرة عدد السجينات فيها.

 المنصة التقت بشرى في مدينة رام الله، وأجرتْ معها هذه المقابلة بعدما أُطلق سراحها في 19 يناير/كانون الثاني الحالي ضمن الدفعة الأولى لصفقة تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وحكومة الاحتلال الاسرائيلي، لتتحرر أخيرًا من سجن الدامون المخصص للنساء الفلسطينيات، الذي يقع على جبل الكرمل في مدينة حيفا.

الاعتقال السابع الأسوأ

هذه ليست المرة الأولى التي تُعتقل فيها بشرى، بل السابعة، وتتمنى أن تكون الأخيرة، إذ اعتُقلت بتاريخ 7 مارس/آذار الماضي، وحُكم عليها بـ6 أشهر حكمًا إداريًا دون تهمة أو محاكمة، وجُددت بـ6 أشهر أخرى، قاست خلالها من "الروتين القاتل" الذي كان أول ما خطر على بالها إجابةً على سؤال المنصة كيف كنت تقضين يومك في السجن الإسرائيلي.

تجيب الأسيرة المحررة بأن يومها "يبدأ بصلاة الفجر وبعدها بنستعد للعَدَد والنوم بيصير مستحيل مع أصوات السجّانات والأسيرات اللي إجي دورهن بالفورة (وقت التريض) الصبح عندي ببلش الفجر".

لدى بشرى ساعة واحدة فقط يوميًا،إن لم تكن معاقبة، للخروج من الزنزانة، إذ يمكنها اختيار إما التجول في مساحةٍ صغيرةٍ بين زنزانتين، أو الاستحمام بشكل سريع بما تيسر لها من الماء البارد غالبًا وقطرات قليلة من الصابون، على أن ينتهي الاستحمام خلال 10 دقائق، بما في ذلك مدة ارتداء ملابسها حتى تسمح لزميلات أخريات بالاستفادة من هذه الفرصة النادرة، أما إذا داهمهن الوقت فإن الحمام يتأجل لفورة اليوم التالي إن وُجدت.

في تمام الثامنة يحين موعد الفطور، ويتكون من قطعة صغيرة من اللبنة وقطعة من التوست الأسوأ على الإطلاق، حسب وصف بشرى، وفي بعض المرات يضيفون خيارًا "متعفنًا" مع الوجبة.

بعد تناول الإفطار، تصلّي الضحى وتنتظر دورها في قراءة وحفظ القرآن من بعض المصاحف القليلة التي تتداولها الأسيرات، بعدما صادرت إدارة السجن الكتب الأخرى والأوراق والأقلام والراديو، ولم يبق سوى نسخ من المصاحف أغلبها ممزق أيضًا.

هذا الوقت القليل الذي تقضيه بشرى في قراءة القرآن، حُرمت منه فيما بعد لأن نظارتها الطبية كُسرت لدى تعرضها للضرب على يد قوات الاحتلال بالسجن في إحدى نوبات القمع.

نسيِتُ ملامح وجوه أهلي بسبب الضغط النفسي والظروف الصعبة التي كنا نعيشها

في تمام الساعة 11، يحينُ موعد صلاة الظهر مع وجبة الغداء، التي تقتصر على شوربةٍ يغلب عليها الماء إلى جانب البطاطس أو الأرز غير الناضج، ويكون على السجينات الاكتفاءُ بها والانتظار حتى يحين موعد العشاء في الساعة الثالثة والربع، وهي لا تختلف في السوء، مع تغيّرات بسيطة، إذ يضافُ الحمص والطحينية التي تتسبب في مشكلات صحية للقولون والمعدة.

تقضي بشرى يومها مع المشاعر السلبية، التي تنعكس عليها من اللونيين الرمادي والبني اللذين لا ترى سواهما، وهو  ما يتسبب في حالة من الخمول، تقول "ما فيه تنشيط للذاكرة، ما فيه تنشيط للعقل، وهاي الأمور كان عائدها النفسي صعب علي لأنه ما بزبط أنه يمر يومي بدون ما يكون فيه إنجاز".

الخمول العقلي والفراغ اللذان تعيش في ظلالهما تطورا معها "حتى وصل الموضوع إني نسيت ملامح وجوه أهلي، بسبب الضغط النفسي والظروف الصعبة إللي كنا نعيشها".

إضافة إلى الفراغ القاتل والتعب والخمول، لا تحصل بشرى على فرصة جيدة للنوم، فأصوات السّجانات الإسرائيليات اللواتي يتفقدن السجن كل 15 دقيقة وصراخهن غيّب النوم عن جفونها.

انقطاع عن العالم

نظارة السجن

تحاول الأسيرات كسر حالة الملل والخمول بتبادل الحديث، فتبدأ إحدى الأسيرات بتذكر حرب الإبادة في قطاع غزة وتصاعد الأحداث، وغالبًا ما تكون هذه الأحاديث مبنية على التوقعات، نظرًا لانقطاعهن عن العالم، إذ يقتصر ما يصل إليهن على بضع معلومات مقتطعة ترد عبر المحامين أو خلال المحاكمات، وينجر هذا الحديث إلى تحليلات وقصص أخرى.

كانت بشرى أيضًا تسترق السمع ليصل إليها الحديث من زميلاتها الأخريات في الزنازين المجاورة عبر "الأشناف"، وهي كلمة عبرية تعني النظارة، أي الفتحة أعلى باب الزنزانة، لكن إدارة السجون نزعت هذه المتعة البسيطة في أن تطمئن الأسيرات على بعضهن البعض ويتبادلن الحديث عبر هذه الفتحة وغطتها بالبلاستيك.

مع ذلك استفادت الأسيرات من ذلك، لأن الغطاء البلاستيكي منع دخول بعض البرد الذي ينخر أجسادهن خلال فصل الشتاء.

مصادرة الكتب والأوراق والأقلام لم يُثنِ بشرى عن أداء دورها التوعوي، فكونها أسيرة سابقة، وجّب عليها أن تستغل وقتها في توعية زميلاتها ورفع معنوياتهن. كما دربتهن على كيفية التعامل مع اللقاءات الصحفية بعد الإفراج عنهن، كونها درست الصحافة بالإضافة إلى تجاربها الست السابقة في الخروج من الأسر وما يليها من لقاءات.

لم تكتفِ بذلك لكنها درّبت السجينات أيضًا على الدبكة الشعبية، تقول "كنا في كل مرة نخترع طبلة من أداة بالزنزانة. فيه أسيرات صوتهن حلو كن يغنين وأنا أدرب على الدبكة وكنت احكيلهم اتخيلوا حالكم داخلين على الاستيدج يلا، حتى في إحدى المرات دخلت المجندة بعد ما سمعت الصوت وانصدمت باللي شافته دبكة بلا موسيقى أو إيقاع كانت علامات الذهول مبينة على وجهها تركتنا وراحت".

مُحرضة وقيادية في مقابر جماعية

بشرى "المحرضة والقيادية"، حسب ما توصّفها به إدارة السجون والمخابرات الإسرائيلية، لم تستقر في زنزانة واحدة فقد كانت تُنقل كل فترة بين الزنازين ذات الأرقام (11،9، 12) كإجراء عقابي، ورغم امتعاضها من ذلك فإنها رأت في ذلك جانبًا إيجابيًا "ع قد ما كنت أزعل لما ينقلوني عن زميلاتي اللي اتعودت عليهن إلا إنه كنت انبسط لما أشوف وأتعرف على زميلات جدد وثقافات جديدة ووعي جديد وأستفيد من كل تجربة نقل".

الأسيرة بشرى الطويل في اللقاء الذي أجرته الزميلة أنصار أطميزة

لم ترَ بشرى في تلك الزنازين سوى مقابر جماعية للأحياء، تضم كل منها 5 إلى 10 أسيرات يوحدهن دعاء "اللهم ثبت علينا العقل والدين" من هول ما يعانينه.

تحاول الأسيرات الخروج من هذا الضيقِ بخلق أجواء ترفيهية، في إحدى المرات صنعت أسيرة "ورقَ لعب" من كرتون ورق الحمام إلا أن المجندات صادرتها بدعوى أن الأسيرات في سجن ومحرومات من الترفيه، وفي مرة أخرى، استطعن تهريب قلم واستخدمنه في لعبة تُسمى "الغمزة".

"رسمنا عين على الأوراق باستثناء وحدة نرسم عليها عينين تنتين واللي بتطلعلها لازم تغمز وحدة واحنا نعرف مين غمزت وكانت هاي اللعبة تنقلنا لعالم آخر من الضحك والفكاهة"، تشرح تفاصيل اللعبة.

 

الفرج آتٍ لا محالة  

تتذكر بشرى اليوم الذي حصلت فيه على حريتها هي وزميلاتها المحررات، فقبل أن تعرف بالقرار، راودها شعورٌ بأن الفرج آتٍ، تقول "قمت الفجر مطمئنة، ما نمت بأواعيي زي بقية الأسيرات بس كنت حاسة إنه اليوم راح نطلع، خاصة إنه كان عدنا علم بتنفيذ الصفقة، يوم الأحد، كل شوي الأسيرات يسألوني شو الوضع شكله مش اليوم أحكيلهم طولوا بالكم راح نطلع اليوم، كان عندي خبرة لأنه أنا طلعت بصفقة تبادل الجندي جلعاد شاليط الوفاء للأحرار، وبعرف ممارسات إدارة السجون بهاي الصفقات بيوهموك إنه فش إفراج بيظلوا لآخر لحظة لبين ما تيجي التعليمات". 

صدق حدس بشرى، وسمعت اسمها ضمن الأسيرات المحررات، وخرجت من سجن الدامون مع 68 أسيرة أخرى قبل انتهاء مدة محكوميتهن، لكن معاناتهن لم تنته، إذ لا تزال آثار الاعتقال الصحية والنفسية والاجتماعية تلقي بظلالها على حياتهن، فبشرى خسرت 20 كيلو جرامًا من وزنها وتعاني آلامًا بمعدتها ومشكلات في الدورة الشهرية.

تتبع الأسيرة المحررة برنامجًا لزيادة كميات الطعام تدريجيًا حتى لا تتأثر صحيًا، وتحاول التعودَ على الحياة الطبيعية على مهل، وتتمنى استعادة تفاصيلها دون عجلة، وتريد الحصول على حريتها الكاملة التي تسمح لها بالعمل والسفر دون قيد أو شرط.