في الخامس من أبريل/نيسان الماضي، خرجت سناء محمد، المُدرسة بكلية الدعوة الإسلامية في غزة، من معبر رفح الحدودي لتلقي العلاج في أحد مستشفيات محافظة البحيرة في مصر، بعد تدهور حالتها الصحية جراء صراعها مع سرطان الثدي.
من بين أبنائها السبعة اصطحبت سناء في رحلتها العلاجية أربعة تتراوح أعمارهم ما بين 28 و8 سنوات، أحدهم مرافق والباقون قُصَّر، وتركت ثلاثة آخرين ووالدهم في مناطق متفرقة بقطاع غزة "كانوا تمانية.. واحد منهم استشهد في شهر اتناشر اللي فات، كان في كلية التمريض وتطوع لإنقاذ الجرحى والمصابين ومات هو وابن أخويا وملاقيناش حتى أشلاءهم، عرفوهم من رِجل واحد منهم" تقول لـ المنصة.
خروج إجباري
لم تكن سناء تتخيل أن تخرج من غزة تاركةً نصف عائلتها بالداخل؛ زوجها وابنها محمد البالغ من العمر 24 عامًا في الشمال، بينما نزح ابنها مُصعب إلى دير البلح بعد إصابته، فيما تُقاسي ابنتها سندس البرد في خيمة برفقة أطفالها الثلاثة وزوجها بخانيونس، تقول "قلبي مقسوم نصين، لا بعرف أنام ولا آكل والضغط على طول عالي عليا من خوفي وقلقي على ولادي هناك، ومصعب جريح وقاعد لوحده في خيمة".
أسرة سناء التي فرقتها الحرب، ولا يعرف أحد متى يلتئم شملها من جديد، ليست وحدها التي تعيش هذه المعاناة. فبعد احتلال إسرائيل للمعبر وإغلاقه أمام العابرين من وإلى القطاع، تمزقت أسر كثيرة، فلم يعد باستطاعة ناصر عطا الله أن يرى أبناءه وزوجته.
ناصر الذي يمتهن الكتابة غادر قطاع غزة لحضور مؤتمر للكتاب والأدباء في سوريا، وانتهز الفرصة فمد إجازته بضعة أيام لزيارة من تبقوا من عائلته التي لم يرها منذ 20 عامًا، وبعد شهر اشتعلت الحرب فحاول العودة للقاهرة ومنها إلى غزة ليكون بين أولاده وزوجته في خانيونس، لكنه لم يستطع بسبب قصف مطار دمشق، فاضطر للعودة إلى القاهرة في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 مع اشتعال أوار الحرب.
"الأمور كانت صعبة ومُعقدة. وطلبت مني زوجتي وأولادي أفضل هنا (في مصر) وأحاول أخرجهم من القطاع، وبدأت في المحاولات لكن كلها باءت بالفشل حتى تم احتلال الجانب الفلسطيني من المعبر" يقول ناصر لـ المنصة.
يعيش الكاتب الغزاوي في غرفة مع أسرة فلسطينية بمنطقة عين شمس، في توتر وقلق بين متابعة الأخبار ومحاولات التواصل مع أسرته في غزة. "وقت ما الاتصال بينقطع بموت من القلق، لا بعرف آكل ولا أشرب، مفيش غير الأخبار مسمّر قدامها".
مثله تفعل سناء "بتمنى الصليب الأحمر لو يقدر يجيبلي بنتي وأولادي وزوجي"، فربما لو جمع شملها بأسرتها لاستطاعوا مساعدتها في نفقات علاجها ومصاريف أبنائها القصر "قاعدين في شقة في الجيزة والعيشة غالية والإيجارات أغلى وماعدتش قادرة على المسؤولية لوحدي".
نادرين الغرابلي وصلت هي الأخرى إلى مصر قبل احتلال إسرائيل المعبر بيوم واحد، برفقتها أولادها الأربعة وابنتان، لعلاج طفلها مريض قلب وضمور دماغي، فيما تركت زوجها نازحًا بمخيم النصيرات.
تسرد نادرين، البالغة من العمر 34 سنة، لـ المنصة أسباب خروجها "اتدهورت حالة ابني الصحية وانسد أنبوب التغذية، عمره 4 سنين، ما بيمشي ولا بيحكي، وحاولت كتير أعمله تحويلة طبية وضلت تتأجل لحد ما كان خلاص بيموت".
بدأت نادرين رحلة علاج صغيرها فور وصولها من عمليات جراحية إلى ما يليها من علاج طبيعي وجلسات تخاطب، وهو ما يكلفها مبالغ لا تستطيع توفيرها "مفيش مؤسسة تكفلت بالعلاج، وزوجي ما في مجال يجي على مصر بسبب إغلاق المعبر، وحتى لو فتح مفيش فلوس يدفعها للتنسيق عشان يخرج".
والتنسيق هو التعبير المتداول عن عملية دفع مبلغ مالي لشركة هلا للخروج من قطاع غزة باتجاه مصر، ويقدر المبلغ المطلوب بـ5 آلاف دولار. توقف التنسيق بعد احتلال إسرائيل معبر رفح.
في يوليو/تموز الماضي، أفادت الأمم المتحدة بأن هناك نحو 110 آلاف شخص غادروا قطاع غزة إلى مصر قبل إغلاق معبر رفح أوائل مايو/أيار الماضي، بعضهم ظل داخل البلاد والبعض انتقلوا إلى دول أخرى.
الحياة توقفت
يحمل ناصر همَّ أسرته المحاصرة داخل القطاع، "عندي 6 ومعهم زوجتي كل شوي تهجير ونزوح وتنقل وسط القصف المستمر".
لا يعمل أولاد ناصر في غزة ولا يوجد لهم مصدر للدخل، فالأكبر تخرج من كلية الحقوق ولم يصل لسوق العمل، والثاني لا يزال في كلية الهندسة وقضى عامًا كاملًا بدون دراسة بسبب ظروف الحرب، ولديه ابنة في مرحلة الثانوية العامة وتدرس الآن "أونلاين"، أما الصغرى وشقيقاها الآخران ففي المرحلة الابتدائية ويواصلون الدراسة عن بعد أيضًا.
"كل هادا صعب الإنسان يتحمله في وقت واحد"، يتلقى ناصر أخبار وفاة معارفه وأصدقائه وجيرانه كل يوم.
تعاني نادرين هي الأخرى ويلات الغربة التي حرمتها من وداع والدها الذي قُتل في غيابها "قلبي انفطر وماعدتش قادرة استوعب اللي بيجرا كأنه حلم طويل مش عارفين امتى نصحى منه". على الجانب الآخر يعيش زوجها خالد إبراهيم في دير البلح مع شقيقه ووالدته في مبنى تحت الإنشاء. يقول خالد لـ المنصة "حاولت أطلع معهم بس مقدرتش للأسف"، كان صديق له توسط لإخراج ابنه للعلاج رفقة زوجته وأبنائه، لكنه لم يتمكن من تسهيل الخروج له أيضًا.
يعيش خالد، كغيره من أبناء غزة، في ظروف غير محتملة، فبعد أن كان يسكن في الشمال ويمتلك محل ملابس، يوفر له قوت يومه، فجأة تبدل الحال وخسر مشروعه بعد حرقه على يد قوات الاحتلال، يقول خالد عبر رسائل واتساب "خسرت بضاعتي وكل ما أملك وحاولت أحافظ على زوجتي وأولادي وأبعدهم عن الخطر"، قبل أن يستدرك "رغم شعوري بالقهر من غيرهم".
تعيش سناء على أملِ أن يلتئم شمل عائلتها، وإلى أن يحين ذلك لم يعد أمامها في منفاها الإجباري سوى البحث عن عمل في ظل محاولاتها التعايش مع مرضها الذي يفتك بجسدها، وتولي مسؤولية أطفالها.