تصميم أحمد بلال، المنصة
رحلات نزوح متكررة خاضها أهالي غزة بحثًا عن الأمان والاستقرار

النازحون من غزة: الهجرة من الموت إلى المجهول

منشور الأربعاء 28 أغسطس 2024 - آخر تحديث الأربعاء 28 أغسطس 2024

مع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اضطرت سوزان عيد(*) للنزوح من غزة إلى رفح، وفي نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023 تمكنت من العبور إلى مصر، رفقة زوجها وستة من أبنائها، بعدما دفعت نحو 30 ألف دولار لتنسيق دخولها عبر شركة هلا، المملوكة لرجل الأعمال إبراهيم العرجاني.

الأم الأربعينية حملت خلال رحلة النزوح القليل مما خف وزنه وغلا ثمنه، بعدما فقدت أسرتها مصدر رزقها الرئيسي إثر تدمير غارات الاحتلال مكتب السيارات الذي يملكه زوجها، لكن سرعان ما تبددت تلك المدخرات.

"اتضحك عليَّ من سمسار استأجر لي شقة في مدينة نصر بأكثر من 30 ألف جنيه شهريًا. وعرفت بعد هيك إن الإيجارات أقل بكتير ولكن بعد ما راح أغلب اللي حيلتنا على مصاريف إيجار وتصليح الشقة والاحتياجات اليومية"، تقول سوزان لـ المنصة.

جانب من منزل سوزان في القاهرة

لاحقًا، اضطرت سوزان وأسرتها إلى التنقل بين ثلاث شقق بأماكن مختلفة في القاهرة الكبرى، مع كل مرة كان يفاجئها الُملاك برفع قيمة الإيجار "رحلة النقل من الشقق مثل النزوح في غزة بحثًا عن الأمان".

"في غزة كنا أهل عز وبيتي كان مفتوح للجميع، هلا فِش اللي يكفي مصاريف الإيجار بس، فما بالك بالأكل والشرب والملابس وباقي المصاريف التانية"، تعبر سوزان عن حجم التغير الذي طرأ على حياتها بعد الحرب.

سوزان واحدة من 115 ألف فلسطيني عبَروا إلى مصر منذ اندلاع الحرب، يعاني معظمهم من أوضاع معيشية متدهورة، في ظل غياب مصدر مالي ثابت، وعدم قدرتهم على العمل، فأغلبهم يحمل تصاريح إقامة مؤقتة.  

تشير الأمم المتحدة إلى أن 9 بين كل 10 أشخاص في غزة نزحوا مرة واحدة على الأقل، وفي بعض الحالات 10 مرات، منبهةً إلى أن الحرب في غزة تستمر في خلق "مزيد من الألم والمعاناة".

"يا رب تجيب الخير ونرتاح كلنا ونرجع غزة، اللي ما حدا عارف امتى موعدنا معها. القصة كلها على بعضها فيها عزة نفس مكسورة"، تترقب سوزان انتهاء الحرب وإنهاء مرارة الاحتياج في أرض الغربة.

موتى مع وقف التنفيذ

"والله العظيم إحنا هون ميتين مع وقف التنفيذ. الوضع من سيئ لأسوأ. تعبت نفسيًا ومضغوطة بشكل رهيب ودموعي محبوسة طول الوقت، واتمنيت أستشهد أنا وولادي بغزة. أهون من هالوضع"، تقول سارة سالم، التي تُقيم في حي المنيرة بالقاهرة.

قبل اندلاع الحرب بنحو شهر، وصلت سارة إلى مصر رفقة ابنتها للعلاج من آلام في الرحم، لكن الرحلة العلاجية التي كان مخططًا ألا تتجاوز الشهر تحولت لإقامة إجبارية بعد اندلاع الحرب، توقفت المبالغ المالية التي كان يرسلها زوج سارة لتوفير ثمن الإقامة والعلاج، كما أسرَت قوات الاحتلال ابنها من مخيم جباليا، ولا تعرف مصيره إلى الآن.

"ماتتصورش أديش إحنا تعبانين ومنهارين وخايفين ومتوترين وقلقانين. يا دوب عايشين على قد توفير فلوس لإيجار البيت والأكل والشرب". تقول سارة لـ المنصة إن صاحب المنزل الذي تقيم فيه "ما راضي يصبر علينا ولا يوم زيادة، ليه بيتعاملوا معنا بوحشية وما حدا بيراعي ظروف الواحد. الزلمة طالب زيادة ألفين جنيه واحنا مضطرين نطلع".

تُجمِع نحو سبع أُسر تحدثت معهم المنصة على أن الإيجار الشهري للمسكن هو العبء الأكبر في مصروفهم الشهري، تليه تكلفة الاحتياجات اليومية من مأكل ومشرب في ظل الغلاء والتضخم، وتكاليف العلاج للمرضى منهم.

"احنا اجينا مصر بالشتا وما معنا أي أواعي (ملابس) صيفي ولا قطعة واحدة، ما كنا متوقعين أنه هنقعد كل هالفترة. أنا والله حاولت وجبت غيارات للصغار من البالة بس في شغلات ما بينفع أجيبها بالة بالأخص إلي ولبنتي الكبيرة"، تحكي أم محمد، التي تقيم حاليًا في مدينة السلام بمحافظة القاهرة.

تعيش المرأة الستينية في شقة صغيرة بصحبة 14 فردًا من عائلتها تنوّعت طريقة دخولهم لمصر ما بين العلاج من الإصابة، والتنسيق عبر شركة "هلا".

خلال الأشهر  الماضية، أكدت تقارير إعلامية تحصيل شركة "هلا" المملوكة للعرجاني آلاف الدولارات مقابل السماح للفلسطينيين الراغبين بالخروج من القطاع بالعبور إلى مصر، وهو ما نفته الأخيرة في يناير/كانون الثاني الماضي على لسان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية ضياء رشوان.

"دخلت مع أخوي مرافق لعلاج في كتفه ويده بعدما اتصاب في قصف منزله واستشهدت مرته وعياله كلهم، وبعدها دخلت بنتي الحامل بالتنسيق مع أولاد خالها. ربنا يعلم احنا عايشين إزاي، المصاريف اليومية مش قادرة عليها، وبنتي اضطرت تولد قيصري وضعفت وخست خالص لأنها ما بتتغذى كويس"، تقول أم محمد لـ المنصة.

معاناة العمل والمرض

أتى إبراهيم عزوز(*) إلى مصر رفقة والديه وأشقائه الثلاثة عبر التنسيق أيضًا. تحت ضغط المعيشة وتلبية الاحتياجات الأساسية، اضطر عزوز للعمل بدون أوراق رسمية في أحد المطاعم المملوكة لرجل أعمال فلسطيني بمدينة نصر.

في رحلة البحث عن العمل، واجه عزوز عدة مصاعب "كانوا يطلبوا مني أوراق وشغلات تانية ويقف الموضوع لأنه ما معي غير ورق الإقامة المؤقتة".

يفتقر سكان غزة النازحين لمصر إلى الوثائق اللازمة لتسجيل أطفالهم في المدارس أو فتح شركات أو حسابات مصرفية أو السفر أو الحصول على تأمين صحي، فيما تفتقر الأونروا إلى تفويض قانوني للعمل في مصر، حسب دياب اللوح السفير الفلسطيني بالقاهرة.

تؤكد الأسر الفلسطينية الذين تحدثت معهم المنصة أن السفارة الفلسطينية منحتهم مبلغًا ماليًا يُقدر بأربعة آلاف جنيه يُصرف لمرة واحدة فقط. خاصة وأن الحكومة الفلسطينية تعاني من أزمة مالية حادة نتيجة حرمانها من أموال المقاصة التي جمعتها إسرائيل.

مبادرات أهلية لا تكفي

قبل اندلاع الحرب، دخل ياسر صبحي مع زوجته، مصر، للعلاج إذ يعاني من مشكلة في شرايين القلب، تتطلب فحصًا طبيًا دوريًا.

"أدوية القلب تكلفني ألفين جنيه شهريًا، ناهيك عن مصاريف إيجار الشقة وتكاليف المعيشة"، يقول ياسر الذي تجاوز السابعة والخمسين، ويقيم في حي فيصل بمحافظة الجيزة، موضحًا أنه اضطر إلى اللجوء لجمعية "مرسال" الخيرية لمساعدته على إجراء عملية قلب مفتوح.

رغم قبول ملفه في الجمعية تستغرق الإجراءات وقتًا طويلًا لتحديد موعد كشف طبي "حالتي مستعجلة وبضطر ألجأ أحيانًا لأطباء على نفقتي الخاصة".

حتى الآن، قدمت "مرسال" المساعدة المالية لـ2075 فلسطينيًا، منهم 747 أسرة، و1123 طالبًا، و205 أفراد، حسب باهر محمود، مدير العلاقات العامة في مرسال. كما استفاد 1118 شخصًا من كروت المساعدة الغذائية. 

ويعد صبحي واحدًا من 454 شخصًا يتلقون المساعدة الطبية من مرسال. بينما يوضح مدير العلاقات العامة في المؤسسة الخيرية خلال حديثه مع المنصة أن الجمعية لم تتمكن من مساعدة نحو 4 آلاف فلسطيني قدموا طلبًا للمساعدة. 

"العامل الأكبر راجع للتكلفة المادية، لأن خدمة إخواتنا الفلسطينيين جزء من حجم أعمال ضخمة نقوم بها في مرسال على مستويات متعددة" يقول محمود.

أما مؤسسة "أبواب الخير" فقدمت المساعدة لنحو 660 شخصًا من أهل غزة في مصر، من 463 طالبًا و197 عالقًا بإجمالي تكلفة 2.3 مليون جنيه، وفق ما قاله ماجد مكرم، مدير التسويق في الجمعية لـ المنصة لكن "عدد اللي في قائمة الانتظار غير محصور لأسباب كتير، منها إننا مش بنسجل غير الحالات المقرر مساعدتها بس، لأن في حالات ممكن تبعت أنها محتاجة وتكون غير مستحقة، لازم نتعرف على الحالة بشكل مباشر ونتأكد من استحقاقها، وثانيًا الأعداد بتكون كتيرة والاحتياج مش بيخلص".

مبادرات فردية

في محاولة لتدارك الاحتياج المتزايد للأسر الفلسطينية، أنشأ هشام إسحاق، وهو مصري فلسطيني يعيش في حي إمبابة منذ 20 عامًا، مبادرة بمشاركة 15 شخصًا من أصدقائه وأقاربه لتوفير الإيجارات والاحتياجات المالية والطبية.

يقول هشام لـ المنصة "في بداية الأمر كنا قادرين نجمع فلوس ونساعد 500 أسرة فلسطينية، دلوقتي مع قلة المبالغ اللي بنجمعها ومع الغلاء الكبير قل العدد حتى وصل لـ167 أسرة فقط".

نازحون فلسطينيون يصطفون في طابور للحصول على مساعدات غذائية من مبادرة في إمبابة

مبادرة أخرى أطلقها أحمد مصطفى رفقة عدد من أصدقائه في حي فيصل، يساعدون من خلالها 30 أسرة فلسطينية على دفع إيجارات مساكنهم، وتكاليف المعيشة، لكنه يشكو من عدم قدرته على جمع التبرعات الكافية، يقول لـ المنصة "بعد ما كانت الناس كلها متحمسة ومتعاطفة وبتساعد، دلوقتي غصب عنهم بقوا يقولوا عيالنا أولى، بسبب إن كل حاجة أسعارها ارتفعت".

على الجانب الآخر، ورغم الجهود التي قدمها التحالف الوطني للعمل الأهلي، الذي يتمتع برعاية حكومية، لإرسال آلاف من شاحنات المساعدات إلى معبر رفح خلال الأشهر الماضية، فإنه لم يطلق مبادرات مماثلة لمساعدة الأسر الفلسطينية في مصر، حسب ما أكده مسؤول في إحدى الجمعيات الخيرية المنضوية تحت مظلة التحالف. 

يقول المسؤول الذي فضّل عدم ذكر اسمه أو اسم الجمعية التي يعمل بها "احنا بنشتغل بشكل فردي وفقًا للحالات اللي بتجيلنا، لكن التحالف مقدمش لينا أي أسماء أو حاول ينسق معانا في مساعدتهم". فيما أعلنت وزارة التضامن الاجتماعي تقديمها خدمات التسكين والإعاشة والتغذية والدعم النقدي لبعض أُسر الجرحى.

وبينما تستمر معاناة فلسطينيي غزة في مصر، تنتظر سوزان عيد انتهاء الحرب وعودتها إلى غزة "نموت على البطيء بس نموت ببلادنا ونندفن فيها، ما نموت بالغربة. نعيش زي ما أهل غزة عايشيين. بس أعيش ببلدي ووطني، عايشيين معاناة أيوة لكن بكرامة".


(*) اسم مستعار بناءً على طلب المصدر