انتقلت الحرب الآن إلى مرحلة جديدة، يتحرك مركز الثقل نحو الشمال، فتخصص القوات والموارد والطاقة للجبهة الشمالية. كان هذا تعليق يواف جالانت وزير الدفاع الإسرائيلي عن تطور مسار المواجهة التي بدأتها إسرائيل مع حزب الله.
تصاعدت الأحداث في الأيام الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله، كثف الطرفان الهجمات المتبادلة على الحدود، بينما أعلن نتنياهو أن عودة سكان الشمال هدفٌ من أهداف الحرب؛ فتحداه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، أن يتمكن من فعل ذلك.
لكن يبدو أن نيران الحرب اشتعلت بالفعل ولم تعد مجرد هجمات متبادلة، فواصلت إسرائيل ضرباتها مستهدفة 1600 هدف في جنوب لبنان وسهل البقاع، وبلغ عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي منذ أمس، إلى 492 قتيلًا، بينهم 35 طفلًا و58 امرأة و1645 مصابًا، وسط موجة نزوح كبيرة من الجنوب، في وقت صادقت الحكومة الإسرائيلية، أمس، على إعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد
دارت عجلة الحرب بعدما دشنت إسرائيل جيل جديد من الحروب السيبرانية عالية الدقة والاستهداف على مدار يومين متتالين 17 و18 سبتمبر/أيلول الجاري. حيث انفجرت أجهزة الاستدعاء المحمولة بيجر/pager مع عناصر الحزب ما أدى لحصيلة مرتفعة من القتلى والمصابين سواء من لأفراد حزب الله أو المارة الذين تصادف وجودهم، تبعتها موجة تفجير أجهزة ووكي توكي/Walkie Talkie.
لعنة ضربات البيجر
تعددت التفسيرات وكيفية استهداف أجهزة أعضاء الحزب الذي يروج لقدراته الكبرى في التمويه والتخفي، لتكشف عن عجزه الآن أمام اختراقه بشكل فاضح.
هذا الاختراق ليس مربكًا لترتيبات الحزب الأمنية فقط، لكنه نقطة تحول في الحروب السيبرانية، التي تجاوزت هجمات القرصنة من أجل التجسس أو سرقة بيانات أو تعطيل أجهزة وخدمات، بل تحولت إلى حرب دموية حد القتل عن بُعد في فترات متزامنة وعلى مساحة كبيرة.
أشعلت الحرب السيبرانية المواجهة الشاملة فبدأ حزب الله استراتيجية العمق
أشعلت الحرب السيبرانية المواجهة المؤدية إلى الحرب الشاملة، وربما اجتياح إسرائيلي بري. تطل ذكريات حرب يوليو/تموز التي شنتها إسرائيل في 2006 على الجنوب اللبناني، مرة أخرى، لكنها قد تكون حربًا أكثر شمولًا، فلا تمانع إسرائيل من خوض معركة أوسع، ولم تعد تتجنب الحروب الطويلة، ففي غزة يكاد العدوان المستمر أن يتم العام.
لم يعد الحراك الإسرائيلي مجرد تصعيد بقصف على الجنوب. امتدت الأهداف لما أبعد من ذلك، إلى بيروت نفسها، مثل الغارة التي استهدفت القيادي في حزب الله علي الكركي، بعدما نجحت إسرائيل قبل أيام في استهداف دقيق لاجتماع محصن تحت الأرض لقادة وحدة الرضوان، التي تمثل النخبة في حزب الله مما أدى لمقتل إبراهيم عقيل، القائم بأعمال رئيس الوحدة وعدد من القادة الآخرين.
في المقابل طور الحزب بنك أهدافه بشكل مفاجئ. لم يكتفِ في ردوده بالشمال الإسرائيلي، منفذًا استراتيجيته في استهداف العمق الإسرائيلي، فقد تخطى منطقة الجليل، مع وصول رشقات صاروخية لشرق مدينة حيفا، واستهداف قاعدة رامات ديفيد الجوية، ومجمعات للصناعات العسكرية، ومطار مجيدو العسكري.
بدأت حزب الله مرحلة "حيفا وما بعد حيفا"، وهو أحد الشعارات الاستراتيجية لحزب الله الذي بدأ ضربات في العمق الإسرائيلي.
في مواجهة التحديات
رغم محاولات حزب الله التصعيدية في العمق الإسرائيلي، فإن الحزب الذي رفع راية الانتصار في حرب 2006 قد يجد نفسه أمام أزمة ثلاثية الأبعاد عليه التفاعل معها في هذه الحرب.
ينطلق التحدي الأول من أزمة أنظمة الاتصال والسيطرة، ففي وقت حرج تم ضرب جزء كبير من نظام الاتصال والسيطرة الهام لحركة أي قوات في معركة، ما يضع عبئًا مزدوجًا على القيادة لجمع المعلومات الميدانية، وعلى المقاتلين على الأرض لتلقي التعليمات.
يعوض حزب الله الفجوة التكنولوجية والاستخباراتية بصواريخ أكثر دقة
كان حزب الله تخطى تحديًا مشابهًا في انتظام الاتصال في 2006، عندما تبنى تكتيكات قتالية تعتمد على خلايا شبكية مرنة قادرة على الاندماج بسرعة في قوات أكبر، أو العمل بشكل مستقل عند قطع نظم الاتصال، وهو ما قد يكرره مرة أخرى في الحرب المرتقبة.
من جانب آخر، كشفت الهجمات السيبرانية الفجوة التكنولوجية والاستخبارية لدى حزب الله، رغم محاولاته السابقة مع إيران لشن هجمات سيبرانية على إسرائيل لاختراق الأجهزة الحكومية والمواقع الإعلامية، إما بتعطيلها أو بث دعاية مضادة، إلا أن هذه الهجمات لم تسفر عن خسائر في الأرواح وتم احتوائها سريعًا دون ضرر يُذكر، بينما كانت الهجمة الإسرائيلية السيبرانية مؤثرة ودموية.
استجابة لهذا التفوق التكنولوجي على مستوى العمليات السيبرانية والتفوق النيراني، يحاول الحزب تعويض ذلك بالتطور التسليحي، ففي الهجمات الأخيرة على حيفا استخدم صواريخ جديدة وطائرات مسيرة مسلحة بصواريخ أكثر دقة في الإصابات بالمقارنة بالمسيرات المحملة بالقنابل.
يكثف حزب الله هجماته لترميم صورته الذهنية
على صعيد الحرب النفسية، استطاعت إسرائيل التسويق لنجاحها الكبير، سواء في الاختراق السيبراني لأجهزة الاتصال أو الاختراق المخابراتي لاجتماع قادة الرضوان، وهو ما أحدث ارتباكًا في صفوف الحزب وأنصاره، والشارع اللبناني وربما في الشارع العربي كله. تحولت أجهزة الاتصال إلى جهاز قتل عن بعد، أو بتعبير نيويورك تايمز تحولت لحصان طروادة العصر الحديث.
وضعت إسرائيل حزب الله أمام تحدي مواجهة الحرب النفسية التي تؤثر في معنويات مقاتليه وأنصاره، ومواجهة الحرب التكنولوجية التي نجحت إسرائيل في تدشين عصر جديد لها. لذا كثف الحزب من استهدافاته لتصل نيرانه حيفا في إشارة لمستوى جديد من التصعيد العملياتي، وإعادة ترميم صورة الحزب التي تأثرت بفعل الاختراقات وإعادة تأكيد قدراته على الرد حتى بعد تلقي ضربات قوية.
لقد دخلنا مرحلة جديدة من المواجهة، أصبحت حرب الشمال واقعًا وليس مجرد تهديدات عابرة. ذهب الحزب لما بعد حيفا، وذهبت إسرائيل لما وراء بيروت.
تكمن المفارقة في أن كلا الطرفين يأمل أن يتراجع الآخر في اللحظة الأخيرة لتجنب الحرب الشاملة. إلا أن التصعيد المتواصل يدفعهما تدريجيًا نحو الزاوية التي يحاولان الهروب منها، حيث يصبح كل تحرك خطوة أخرى نحو مواجهة لا مفر منها، يحاول الجميع تفاديها.