بمظهرٍ أنيقٍ وثيابٍ مهندمةٍ وَصَل أشرف أبو عيادة، مزارع من وادي غزة، قبل ساعة من الموعد الذي حددته السفارة الفلسطينية في الثامنة مساء يوم 26 مارس/آذار الحالي للراغبين في العودة للقطاع، أمام الحديقة الدولية بمدينة نصر، حاملًا حقيبتين فقط التزامًا بتعليمات السفارة، كانت إحداها عبارة عن "carry cot" تحتوي مستلزمات الأطفال حديثي الولادة أحضرها خصيصًا لحفيده الذي ينتظر مولده في غزة بعد أيام.
لم يُبدِ أبو عيادة ترددًا بشأن قرار العودة إلى غزة رغم الحرب، يقول لـ المنصة "أنا عايش هنا في مصر والحمد لله الأمور تمام، بس صدقني كل الوقت قاعد على الأخبار، يعني أسمع خبر من هنا وخبر من هنا، اتعقدت من كتر الأخبار، ما بقدرش أطلع، لأن الأخبار صعبة جدًا".
أبو عيادة وصل مصر في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي قبل الحرب بأربعة أيام "سجلت في السفارة رغبتي في العودة منذ 5 شهور وتلقيت قبل يومين فقط اتصال منهم بموعد ومكان المغادرة".
على مدار ثلاث ساعات استغرقها تحميل حقائبهم إلى السيارات التي ستقلهم إلى معبر رفح البري، عايشت المنصة حالة الترقب والتجهيز للرحيل بين العائدين قبل تحركهم من القاهرة، ورصدت اختلاط مشاعر الفرح والشوق لرؤية أهاليهم المنتظرين على الجانب الفلسطيني من المعبر، بمشاعر القلق من عدم تسهيل سلطات المعبر مرورهم بكل حقائبهم التي حملوا فيها القليل من المساعدات، دون أن يكون لاستمرار الحرب أي أثر على قرارهم بالرحيل مرددين "رايحين على أهلنا وأرضنا".
دوافع الرحيل
لم يخف أبو عيادة الرجل الأربعيني مشاعر الأسى جراء أخبار الحرب التي عززت قراره بالعودة "أنا بتعذب كل يوم، بيتي هناك اتدمر واتجرف تجريف، مش بس بيتي كمان بيت أخوي وبيت عمي وأهلي سابوا البيت وقاعدين بخيمة في رفح".
قطعت حديثه امرأة فلسطينية تستجديه لترسل معه بعض الأدوية لشقيقتها وابن شقيقها المريضين برفح، إذ تعاني الأولى أزمة نفسية فيما أصيب ابن شقيقها الرضيع بحالة جفاف حادة تحتاج إلى محلول غير موجود بغزة.
متحرجًا، اضطر الرجل لقبول الطلب، قائلًا "والله أنا سايب خمس أو ست شنط في بيتي هنا وقفلت تليفوني قبل وصولي علشان ماحد يكلمني يقولي خد حاجة معاك".
اشترطت السفارة على المسافرين تقليل عدد الحقائب مع كل راكب، رغم عدم اقتناع أبو عياد "مفترض السفارة وسلطات المعبر تسمح للعائدين بحمل أكبر قدر من الشنط معهم لأن أهلنا منتظرينا، وهنوصل نلقاهم كلهم مستنيننا على المعبر بإيش نفرحهم وإيش نقولهم"، غير أنه التزم بالتعليمات كيلا يعرقل مروره إلى داخل غزة.
وفيما كان أبو عيادة يدوّن رقم هاتف الشخص الذي سيسلمه الأدوية داخل رفح، عرضت عليه المرأة التي بدت متلهفةً قبول أي مبالغ مالية مقابل التوصيل، غير أنه رفض مكتفيًا بدعواتها الباكية "الله يجبر خاطرك ويفتحها عليك".
العودة مخاطرة
لم ينكر الشاب وسام الراوي(*)، أحد سكان قطاع غزة، الذي حضر لمقابلة قريب له ضمن المسافرين ليرسل معه بعض الأغراض لأهله، أن هناك خطرًا داهمًا يحيق بكل الموجودين داخل القطاع والوافدين إليه، مدللًا لـ المنصة "عندي 3 أصدقاء سافروا في بداية الحرب وقت ما السلطات المصرية فتحت المعبر بعد الحرب بثلاثة أيام، واستشهدوا جميعهم بعدها بأسبوع مع عائلاتهم".
غير أنه لم يستغرق وقتًا طويلًا لإيجاد مبرر تزاحم الغزيين على العودة "الناس اتعودت على الوضع هناك، وفي الأول والآخر هو راجع لبلده" يقول وسام.
وسام الذي يحمل الجنسية المصرية كما والدته، كان قد اتخذ قرارًا بالعودة في بداية الحرب، يقول "عندي مركز تعليم حلاقة، شغلي وحياتي كلها أسستها هنا، كنت هبيع كل شي وأسافر، لكن أهلي في غزة قالولي لأ، أنت مجنون؟!" ليعدل عن قراره.
وعلى مقربة من وسام، وقف ماهر قاداس، من سكان شمال قطاع غزة، أكثر المناطق تضررًا من الحرب، باحثًا عن رفيق للرحلة مناديًا "حدا هنا من الشمال"، يشرح فلسفته في العودة إلى أرض الحرب لـ المنصة "الوضع الخطير في القطاع يجبرنا إنه نسافر نقعد عند أهالنا نموت معهم ونراعي شعورهم مش العكس".
يشعر ماهر، الرجل الخمسيني، بأن مشاركة أهله مأساتهم واجب عليه "حتى لو على حساب أرواحنا"، ويضيف "يعني إحنا صح هنا بمصر عايشين آمنين، لكننا في حكم الأموات لأن تفكيرنا وعقولنا وكل ما نملك مع أهلينا بغزة، يا نموت مع بعض يا بنحيا مع بعض"، مؤكدًا على أن القلق هو دافعه لركوب السيارة المتجهة لرفح.
وبدوره يقسِّم محمود سالم (*)، الطبيب الغزاوي الذي جاء لتوديع أقارب له ضمن المغادرين لـ المنصة فئات من قرروا العودة لغزة إلى نوعين؛ الأول "فيه رجال قدروا يخرجوا بعد الحرب وتركوا زوجاتهم وأطفالهم مش عارفين يدبروا حالهم هناك، بيقرروا يروّحوا علشان يا يجيبوهم هنا مصر يا يقعدوا معاهم هناك".
والثاني حسب سالم الذي تخرج في كلية الطب جامعة عين شمس "عبارة عن ناس حالها وقف هنا ومش قادرة مثلًا تدفع إيجار ومش لاقية الأكل ولا أي شي فبيقرر يروّح وهناك هيدبر حاله، على الأقل مافيش إيجار وهياكل من المساعدات، ويبقى جنب عياله ومرته وأهله".
"مشتاقين لعائلتنا ولبابا ومش خايفين من الحرب" بهذه الكلمات بررت ملاك الفرا، التلميذة بالصف الثاني الإعدادي، لـ المنصة سبب رحيل أسرتها عن مصر، مبدية سعادتها البالغة بقرار الأسرة العودة لغزة.
وتأمل ملاك في عودة الحياة لطبيعتها بالقطاع بشكل يمكنها من العودة لمدرستها في منطقة النواصي بخانيونس، قائلة "مدرستي اتدمر جزء بسيط منها لكنها باقية، وعمومًا يعني منطقة النواصي منطقة هادية وبعيدة عن القصف"، وبدت الطفلة وكأنها غير مُلمة بالأخبار المنشورة في ذات يوم المغادرة، التي تشير لتعرض تلك المنطقة لقصف إسرائيلي أسفر عن قتلى وجرحى، موضحة "إحنا جينا هنا من شهر ونص، لنعالج أسماء أختي محتاجة زرع كبد بس الدكاترة قرروا يأجلوها".
الغلاء أقسى من الحرب
لا ينشغل العائدون بنيران القصف بقدر ما يشغلهم الغلاء المترتب على الحرب، خاصة مع نقص الغذاء والدواء، إذ يقول الراوي "السلع غير موجودة في القطاع وسعر القليل المعروض مش بس بيبقى ضعف العادي لأ بيبقى عشرات الأضعاف".
حضر الراوي لتسليم ما يرغب في إرساله لأخته "طلبت عسل إسود اللي بيجيبوه للأطفال لأن سعره وصل 80 شيكل، يعني حوالي 1200 جنيه مصري".
السلع الأساسية كمياتها قليلة وأسعارها خيالية، كيلو السكر بـ70 شيكلًا (900 جنيه)، يقول الراوي "الناس مش معاها فلوس، واللي كان معاه قرشين محوشهم راحوا، واللي مستني مرتب بتاعه المرتبات ما بتكفيش، يعني أهلي هناك بياخدوا المعاش بتاع والدي الله يرحمه مش بيكفي أسبوع أكل وشرب، وباقي الشهر بيكملوه زي ما بتيجي تيجي"، خاصة مع قلة المساعدات التي تدخل للقطاع.
المصيبة عامة
يرى أبو عيادة أن الرأي العام داخل غزة الآن كله مع المقاومة، "سواء غصب عنه أو بخاطره هيكون معها، حتى لو فيه لوم على المقاومة على قرار الحرب فلن يظهر، لأن الخراب عام والمصيبة عامة وعلى الكل ما نملك غير نقول يارب". فيما يعتبر وسام الراوي أن اللوم "على الناس اللي قاعدين بره ومرتاحين ومبسوطين وعمالين يصدروا في قرارات والناس كلها بتموت جوه وماحدش سائل عليهم".
أما قاداس فإيمانه ثابت، يقول "المقاومة الفلسطينية تدافع عن الشعب الفلسطيني وتدافع عن الأرض ونحن معهم لحد التحرير".
ويعوِّل أبو عيادة على اكتفاء أمريكا بالامتناع عن التصويت وعدم استخدام حق الفيتو على القرار الذي تبناه مجلس الأمن بوقف إطلاق النار في غزة، متوقعًا إسهام القرار في تهدئة الأجواء نوعًا ما بالقطاع "ما دامت أمريكا لم تستخدم حق الفيتو في مواجهة القرار فممكن يكون هناك تفعيل إله، لأن العدو في الآخر بيلتزم إلى حد ما بالتوجيهات الأمريكية".
يتمنى أبو عيادة تفعيل القرار، لتنزاح غمة الحرب، ويتمكنوا من مواصلة حياتهم من جديد التي توقفت منذ أكتوبر الماضي.
(*) اسم مستعار بناءً على طلب المصدر.