عام بلا زيتون فأشجار فلسطين حزينة
لم تتمكن الحاجة آمنة سويطي "أم رياض" من بلدة بيت عوا، جنوب محافظة الخليل، من إخفاء رهبتها أمام جنود الاحتلال الذين سمحوا لها أخيرًا بالوصول لأرضها بعد منع استمر عامين.
"مرقوني بنجوا فيي (أمعنوا النظر) ما عرفت شو أحكي ظليت ماشية"؛ تقول آمنة في فيديو انتشر لها على السوشيال ميديا، وتظهر عليها مشاعر الفرح والابتهاج بعدما عبرت من تحت الحاجز الإسرائيلي.
هرولت المرأة السبعينية إلى أرضها وهي ترتدي ثوبها الفلسطيني المطرز بالأخضر الذي اهترأت بعض رسوماته على منطقة القبة "الصدر"، فالنساء الفلسطينيات خاصة كبار السن لا يخرجن بغير أثوابهن التقليدية حتى وإن كن يردن الذهاب للعمل فيخترن الثوب الأقدم أو الذي تهرأ من بعض مناطقه، فهن لا يهجرن ملبسهن العتيق في دلالة على تمسكهن بممتلكاتهن وهويتهن.
ساعتان فقط لجني الزيتون
"أخدت تصريح بساعتين بس، أقطف زيتون أرجع"، تقول أم رياض التي القتها المنصة بعد أيام من السماح لها بالوصول لأرضها، وهي تشير إلى التصريح الذي يقصد به تنسيق الارتباط المدني الفلسطيني الذي تتولاه الهيئة العامة للشؤون المدنية.
كانت هذه المرة الأولى التي تزور فيها أم رياض أرضها التي لا تتعدى مساحتها نحو 500 دونم (أي ما يعادل 119 فدانًا) منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتقع بين بوابتين مغلقتين ومستوطنة "نيجو هوت" الإسرائيلية.
لكن آمنة كانت أمام مشهد شديد الإيلام لم تتمن أبدًا أن تراه، فالأرض المزروعة بمئات من أشجار الزيتون ودوالي العنب لم يبق منها سواء أشلاء شجر بعد قطع المستوطنين لأغصانها ليطعموا بها أغنامهم. كما أحرقوا الدوالي واستولوا على البئر وسحبوا منه الماء.
"ركبني الهم" تقول أم رياض، "شو بدي أسوي صرت ألطم على خدودي"، فأغلب الأشجار كانت من النوع الروماني القديم زرعها الأجداد في حرب الأيام الست عام 1967، و"ما بقي منها إشي".
"يا حسرتي الشجرة اللي في أول الأرض كنا نظل نجد الزيتون عنها 3 أيام"، تتذكر المرأة السبعينية حصاد أرضها قبل الحرب، وتتابع بغصة "كنا نقطف زيتون الأرض كاملة وكانت العيلة كلها تروح أولاد وبنات وكناين وأحفاد ونظل أسبوعين وزيادة ويادوب نلحق".
مذبحة الأشجار
حسب أرقام هيئة مقاومة الجدار والاستيطان نصب الاحتلال نحو 916 حاجزًا وبوابة تطوق مناطق الضفة الغربية وتحول دون وصول الفلسطينيين إلى أراضيهم. كما وثقت في تقرير صدر هذا العام ما يزيد على 1880 اعتداءً على أراضي الفلسطينيين وثرواتهم الطبيعية خلال السنتين الماضيين ما أضر بآلاف الدونمات.
بلغت الاعتداءات التي استهدفت الأشجار الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر، 1132 عملية، استهدفت 48 ألفًا و728 شجرة، من ضمنها 37 ألفًا و237 شجرة زيتون.
وتشير دراسة بحثية إلى أن الاحتلال عكر صفو موسمَي قطف زيتون متتاليَين، 2023 و2024، إذ تعتاش نحو 100 ألف عائلة في الضفة وقطاع غزة، كليًا أو جزئيًا، على موسم قطف الزيتون، من خلال بيع زيته الذي يُعد مصدر دخل لهم.
لم تقف المأساة عند فقد المحصول إنما وصلت للتخلص من المزارعين، فخلال هذين الموسمين قُتل 29 فلسطينيًا بدم بارد داخل حقول الزيتون على يد ميليشيات المستوطنين المسلحة والمدعومة حكوميًا، تحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي.
الأسوأ منذ سنوات طويلة
مأساة أم رياض يعيشها آلاف الفلسطينيين من بينهم المزارع بشير الصوص الذي تقع أرضه في وادي المخرور غرب مدينة بيت جالا، جنوب الضفة الغربية.
تمُنع دوريات الاحتلال بشير من الوصول إلى أرضه التي تبلغ مساحتها 80 دونمًا، بالتالي فإن حصاد الزيتون مهمة شبه مستحيلة، محفوفة بالمخاطر، "اضطريت أنا والعمال الأجرية نبات في الوادي منشان ما يرجع الاحتلال يقطع طريقنا"، يقول لـ المنصة وهو يشير إلى أن الوضع هذا العام أقل حدة من العامين الماضيين لكن الخطر لم ينته تمامًا.
وساهم تكرار اعتداءات الاحتلال ومستوطنيه في انخفاض محصول الزيتون والزيت هذا العام، وتشير التقديرات الرسمية الأولية لوزارة الزراعة الفلسطينية إلى أن إنتاج زيت الزيتون لموسم 2025 "لن يصل إلى ثلث أو ربع الموسم الماضي، أي 7-9 آلاف طن فقط" حسب ما أفاد به الناطق الإعلامي محمود فطافطة. عادة ما يطلق الفلسطينيون وصفًا لموسم قطف الزيتون حسب كمية الإنتاج، فتُسمى السنة التي يكون فيها إنتاج الزيت والزيتون كبيرًا "سنة ماسية"، أما عندما يقل الإنتاج فتسمى "سنة شلتونية"، لكن فطافطة يستبعد أن توصف هذه السنة بذلك "هي أسوأ، الشلتونية بنقولها على الموسم اللي بنجني فيه 50% من المتوقع وإحنا بنتكلم السنة هاي عن أقل من ربع المحصول"، يقول لـ المنصة.
ويشير إلى أن هذا العام هو الأسوأ منذ 15 عامًا على الأقل "تعددت الأسباب؛ التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار وعدم توزعها على مدار الموسم، بالإضافة لحرمان الاحتلال آلاف المزارعين من الوصول لأراضيهم وحرثها وتسميدها والاهتمام بها"، لافتًا إلى أن عام 2022 كان الإنتاج أكثر حملًا، إذ بلغ الناتج الإجمالي 36 ألف طن حسب أرقام وزارة الزراعة.
حزن الأشجار
يضيف المزراع صلاح أبو علي من قرية الولجة شمال غرب مدينة بيت لحم سببًا آخر لتراجع محصول الزيتون هذا العام بشكل غير مسبوق "إحساس وحزن أشجار الزيتون على إخوتها في قطاع غزة التي أحرقها قصف الاحتلال".
يستند أبو علي في ذلك إلى الموروث الشعبي الفلسطيني، فشجر الزيتون يشعر بصاحبه وبما يحدث حوله، ويؤكد لـ المنصة أنه لم يفارق أرضه طيلة سنوات عمره الـ52 ولم يشهد تراجعًا في المحصول مثل هذا العام، إذ طالما أعطت أرضه زيتونًا وزيتًا بوفرة حتى في السنوات الشلتونية. فعائلته تملك مئات الدونمات من أشجار الزيتون.
يحتاج السوق المحلي الفلسطيني عادة ما يقارب 18 ألف طن زيت زيتون باستهلاك سنوي يقدّر من 3 إلى 3.5 لتر زيت للفرد الواحد، والباقي يصدَّر إلى السوق الخارجية، خاصة البلدان العربية.
رغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فإن اعتداءات الكيان الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية والمزارعين والأشجار لا تزال مستمرة، ونفذ جيش الاحتلال ما مجموعه 2350 اعتداءً خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، استكمالًا لمسلسل الإرهاب المتواصل من قبل دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني وأراضيه وممتلكاته.
وأوضح تقرير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أن الاعتداءات تنوّعت بين الاعتداء الجسدي المباشر، واقتلاع الأشجار، وحرق الحقول، ومنع قاطفي الزيتون من الوصول إلى أراضيهم، والاستيلاء على الممتلكات، وهدم المنازل والمنشآت الزراعية، في وقت تُغلق فيه قوات الاحتلال مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية بذريعة "الأمن"، بينما يجري تمكين المستوطنين من التوسع داخلها.
"اليوم لا في زيتون ولا إشي"؛ تقولها أم رياض عاجزةً عن وصف مشاعرها، لتقرر العودة إلى منزلها بلا حيلة أو قوة لا شيء معها سوى أكياس الزيتون الفارغة وكومة من الخيبات.


