تصميم أحمد بلال، المنصة
الطلاق

ضغوط النهار وخيبات الليل.. مآسي الطلاق في خيام غزة

منشور الأحد 13 أكتوبر 2024

على مدار عام كامل من النزوح جراء الحرب الإسرائيلية المستعرة على غزة، فقدت ندى كل ما تملك؛ منزلها وذكرياتها وتجربتها الناجحة في تربية أبنائها، ثم خسرت زواجها.

ندى التي تبلغ من العمر 33 سنة، وترى زواجها وبيتها إنجازها الوحيد في الحياة، اصطدمت بالطلاق بعد مرور 8 أشهر على الحرب، تقول لـ المنصة "وصلت بنا حياة الخيمة البائسة إلى طريق مسدود وخلافات لا تنتهي وتراكمات لم تكن يومًا بالحسبان".

"في بداية شهور الحرب، كنت أقنع نفسي أني أكثر قدرة على التحمل، وأن ما يحدث من خلافات نتيجة الضغط الذي نعيشه، لكن ظلت المواقف تتراكم حتى لم يعد فضاء الخيمة يتسع لنا" تقول ندى.

ليالي الخيام الحزينة 

ذاتها الخيبات التي تتراكم في ليالي الحرب، كانت وراء طلاق "علاء" من زوجته، يقول لـ المنصة "في ليل الحرب تثور الخلافات دون مقدمات بيني وبين زوجتي بطريقة لا يمكن تحجيمها".

يؤكد "علاء" أن تداعيات الحرب السبب الوحيد للطلاق

يتذكر علاء (42 سنة) بداية الحرب "أخوتى وجيراني في الخيمة كانوا بيحاولوا بكل جهدهم يصلحوا ما بينا، بس مع الوقت صارت خناقاتنا وصراخنا سهراية المخيم، وما حدا عاد يقدر يتدخل".

لا يجد علاء أسبابًا حقيقيةً وراء قرار الطلاق، يقول "طليقتي تعبت من العيشة تحت القصف، بتشعل نار وتعجن الخبز وتغسل الملابس، حتى المي بتقطع إلها مسافات عشان تجيبها".

"أنا كمان تعبت من المصاريف مفيش دخل، والالتزامات كتير غير الاتهامات بالتقصير"، يستكمل علاء الذي يعتقد أن تداعيات الحرب هي السبب الوحيد للطلاق.

يتذكر علاء مشهد الطلاق بأسى "في ليلة اتخانقنا واتهامات وسباب، وللأسف ما قدرتش أسيطر على نفسي. ضربتها ورميت عليها اليمين. تاني يوم خبرتني إنها هتاخد عيلين من العيال وتروح عند أهلها بمخيم تاني وتتركلي الاتنين التانيين". صمت علاء على أمل أن يحل الأمر نفسه بمرور الوقت، لكنه فوجئ بها نفّذت خطتها "اتصلت مليون مرة على أهلها وكل مرة أبوها يقولي إذا ضلينا عايشين بعد الحرب لينا كلام".

متزوجان ومطلقان

قطاع غزة خلال أول يوم للهدنة بين إسرائيل وحماس في 24 نوفمبر 2023

 تُحمّل "صبيحة" هي الأخرى الحرب مسؤولية انهيار زواجها، تقول لـ المنصة "حياتي كانت هادية ومتزنة، جت الحرب قلبت الموازين، اكتشفت إني عايشة مع شخص متوتر حد الانفجار".

لا تبرئ "صبيحة" ما تشهده هي وزوجها من انتهاكات يومية وقتل وترهيب وتدمير وتجويع، من التغيير الذي طرأ على شخصيته تقول "الأحداث أكبر بكتير من أنه يستوعبها عقله الهادي".

انعكس هذا التوتر على حياتهما سويًا "طاقة الغضب والتوتر والخوف كان يفرغها فينا أنا والعيال، كان عندي أمل إنه يجي وقت ويتعود". 

تغيّر الإبادة شكل وبنية المجتمع الفلسطيني

لكن ذلك لم يحدث، بل زاد وأصبح عنفًا لفظيًا وجسديًا وطردًا وإهانة، وصل حد الشكوك والتهيؤات وتوجيه اتهامات "في ليلة اتهمني إني خرجت من الخيمة عشان أتفرج على راجل تاني في الخيمة اللي جنبنا، وهو عارف إني كنت واقفة نص ساعة في طابور الحمام".

لم تتحمل "صبيحة" الاتهام، تركت الخيمة إلى خيمة إخوتها "لساتنا متجوزين بالقانون، مشان أوضاع الحرب ما بتسمحش نخلص إجراءات الطلاق، بس واقعيًا إحنا مطلقين. أهلي مش قابلين راجل أهانهم قدام الناس". 

تقول رائدة أبو عبيد، متخصصة في علم النفس التربوي، إن ما يحدث فى غزة الآن يندرج تحت ظروف الأزمات غير العادية بما تحمله من ضغوط نفسية وتوتر وخوف "الإبادة التي يعيشها السكان تغير شكل وبنية المجتمع الفلسطيني دون أي تخطيط مسبق، وسيستمر ذلك لسنوات طويلة".  

تداعيات الحرب

من واقع عمله يرصد الشيخ أحمد البحيصي، الذي اعتمدته السلطة الفلسطينية خلال الحرب لإجراءات الأحوال الشخصية، حالات انفصال يومية، يقول لـ المنصة "كل يوم بقابل أسر انهارت أمام الظروف القاسية التي نعيشها، بعضهم بيمشي في إجراءات الطلاق كاملة، وبعضهم يعلن الانفصال دون الإجراءات القانونية، فيما يتجه كثيرون للحصول على فتوى شرعية لتلفظهم بالطلاق تحت وطأة الظروف الطارئة".

خيم النازحين الفلسطينيين في قطاع غزة بعدما أغرقتها الأمطار، 28 يناير 2024

تضيف رائدة لـ المنصة "الخلافات موجودة بين الأزواج في الظروف العادية، والناس بتسميها ملح الحياة، لكن مع الإبادة الملح بيصير نار كاوية تحرق القلوب والعقول"، موضحة أن شدة التراكمات النفسية والمعنوية والجسدية أيضًا، تخلق إنسانًا على حافة الانفجار.

انعدام الخصوصية وحياة الخيام دفعا العلاقات للانفجار

ترى رائدة أن المشاعر المسيطرة على الفلسطينيين هي الخوف والتوتر والقلق والشعور بالعجز والمذلة والحاجة والاحتياج الجسدي والمعنوي، بالإضافة إلى "انعدام الخصوصية الزوجية أو الحياتية في الخيام، ما يدفع غالبية العلاقات للانفجار والوصول إلى طريق مسدود".

ترصد رائدة انتشار الخلافات الزوجية في غالبية مخيمات النزوح في مواصي خانيونس ورفح "قصص الطلاق والخلافات الزوجية لا تنتهي أبدًا. هناك طريقتان للتعامل معها، إما حالة من الخرس الزوجي غير المشروط والمفتوح على قاعدة التحمل من أجل العائلة، أو الوصول إلى النهاية بالطلاق والانفصال وهذا ما نشاهده بشكل يومي أمام أعيننا".

تعتقد المتخصصة النفسية أن الهيكلية الاجتماعية للأسر الفلسطينية هي من أكثر الهياكل تضررًا في هذه الحرب، ويعيش الشعب الفلسطيني إلى جانب الإبادة المادية إبادةً حقيقيةً لغالبية العلاقات الاجتماعية والأسرية جراء الحرب المستمرة منذ ما يقرب من السنة.

تشرح "الطاقة البشرية العملاقة يللي أهدرت من أول يوم في الحرب ما بتتجددش وأي كان شكل الصمود وقوته عند الغزاوية، فهو بدأ ينهار ويعمل شرخ كامل في العلاقات الزوجية والأسرية والعائلية".

علم اجتماع جديد

يستبعد محمود عبد العزيز منصور، أخصائي علم الاجتماع، قدرة العلم على تقييم ما يحدث على الأرض من حالات طلاق وانفصال معللًا ذلك لـ المنصة "حرب الإبادة اللى بيعيشها الغزاوية اتخطت كل الحدود والمقاييس والتجارب اللي عرفها العالم".

زادت حياة الخيام صراع الأزواج والانكسارات النفسية

يتوقع منصور أن نكون أمام علم اجتماع جديد لإنسان انتقل من قمة الحضارة الاجتماعية إلى أسفل درك فيها، بالتالي ما يمارسه من سلوكيات اجتماعية عادة نابع من ظروف قاسية لم يتحملها عقله البشرى، يقول "غالبية الأزواج اللي وصلو للطلاق هم نماذج اجتماعية مميزة قبل الحرب، تزوجوا بعد قصص حب ناجحة أو كانوا يمثلون قبل الحرب نماذج بيوت ناجحة وأسر صغيرة نموذجية".

"هذه الأسر الناجحة ما قدرتش تتحمل انحدار الحياة والعلاقة والحوار، وما كنش عندها الطاقة للتعاطي مع الأزمات والمتطلبات اليومية، فانتقل الزواج من مدرسة النموذج إلى صراع يومي بتزيد وتيرته كل ما يجي الليل بخيباته وانتكاساته النفسية، حتى يصلوا إلى الطلاق أو الانفصال"، يوضح منصور.

وجدت "ندى"، كما غيرها من أبناء غزة، نفسها ما بين الضغوط الصباحية التي لا يمكن حصرها والخيبات الليلية التي لا تستطيع تجاوزها. أصبحت أمام مفترق طرق، لا تعلم ما إذا كان سيجمعها الطريق مرة أخرى مع والد أبنائها، بعد انتهاء الحرب، أم لا.