في عام 2005 انطلقت حملة مقاطعة إسرائيل/BDS، مستلهمةً روح حملة المقاطعة التي تبناها المؤتمر الإفريقي ضد سياسات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، والتي استمرت 35 عامًا، وتكللت بالنجاح حين وصل "المؤتمر" إلى الحكم.
الحملة المتعاطفة مع القضية الفلسطينية ضد ممارسات الفصل العنصري الإسرائيلية حققت إنجازات كبيرة على مدار عقدين منذ انطلاقها، وازداد زخمها بالأخص بعد العدوان الكبير على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وانعكس ذلك في نتائج العديد من الشركات الدولية المستهدفة بالمقاطعة.
نتائج المقاطعة عالميًا
يرى بعض الاقتصاديين أن المقاطعة الشعبية لا تأتي بثمار تُذكر، لكن التاريخ أثبت نجاح العديد من الحملات الشعبية، مثل حملة مقاطعة ركوب حافلات مونتجُمري في الخمسينيات، التي بدأت بواقعة شهيرة لرفض امرأة ترك مقعدها في الحافلة لرجل أبيض، انطلقت على أثرها حملة لوقف ممارسات الفصل العنصري في المواصلات العامة بالولايات المتحدة، التي استمرت عامًا كاملًا حتى كُللت بالنجاح.
وبالقياس على التجارب التاريخية السابقة، فإن آثار حملة مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل بعد الحرب على غزة تعكس واحدةً من أبرز تجارب التضامن الشعبي العابر للحدود. يظهر هذا الأثر بوضوح على نتائج أعمال الربع الأول من العام الحالي.
في حالة المبيعات العالمية لشركة مطاعم ماكدونالدز مثلًا، تراجع معدل نمو المبيعات للمرة الرابعة هذا الربع، وتحدثت الشركة بشكل صريح عن انخفاض مبيعاتها لأسباب منها "الصراع في الشرق الأوسط"، كذلك انخفضت المبيعات العالمية لشركة مقاهي ستاربَكس في نفس الربع بـ 4%، رغم أن الأخيرة تنفي لوسائل الإعلام أنها تُقدم الدعم للجيش الإسرائيلي.
قبل هذه النتائج بأسابيع، أعلنت ماكدونالدز في أبريل/نيسان الماضي استعادة حق استخدام علامتها التجارية/الفرانشايز من الشركة الإسرائيلية ألونيال، وهو ما يعكس توتر ماكدونالدز من أثر المقاطعة، فالشركة الإسرائيلية هي المسؤولة عن رد الفعل الشعبي الغاضب، بعد أن قدمت وجبات مجانية لجيش الاحتلال الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر.
ضَعف الإقبال على أفرع المطاعم والكافيهات المستهدفة بالمقاطعة رصدته وسائل إعلام مثل رويترز منذ شهور، وكانت نتيجته واضحة في حالة كنتاكي ماليزيا مثلًا، التي اضطرت لغلق مطاعمها مؤقتًا بسبب ما قالت إنه تحديات اقتصادية، أو غلق فرع كارفور في الأردن في مارس/آذار الماضي وافتتاح سوبرماركت محلي مكانه.
المقاطعة المحلية في مصر: النتائج وخطر الارتداد
لا شك أن حملات المقاطعة الشعبية في مصر أتت بثمارها على بعض المنتجات الأجنبية، بل وامتد الأثر إلى إنعاش علامات تجارية محلية، وهو ما يمثل فائدة مضاعفة من هذه الحركة الشعبية.
المثال الواضح على ذلك شركة المشروبات الغازية سبيروسباتس، التي تنقل وسائل الإعلام منذ العام الماضي بيانات عن ارتفاع قوي في أرباحها، في مقابل دعاوى مقاطعة علامات تجارية عالمية مثل بيبسي وكوكاكولا، وتؤكد سبيروسباتس أن الزخم لم يتراجع على مبيعاتها حتى الوقت الراهن.
كذلك تطلب شركة الآيس كريم فرايداي عمالة جديدة بفضل التوسعات، و"فرايداي" يجري تداول اسمها في جروبات المقاطعة بديلًا محليًا لهذا النوع من المرطبات عن براندات أجنبية.
انتعاش الماركات المحلية نتيجة طبيعية لما يشير إليه استطلاع رأي غير رسمي بأن مصر تأتي في المركز الثاني في الالتزام بالمقاطعة بعد الأردن، وهو ما يعكس قوة هذا التيار في مصر بالنظر إلى أن البلد الوحيد الذي يتفوق عليه يضم عددًا ضخمًا من السكان الفلسطينيين، وساهم في نشر الوعي بالقضية الفلسطينية قطاعات واسعة من الأجيال الشابة من الحركة الطلابية.
بل إن بعض الشركات المحلية باتت تعتمد في دعايتها على أن منتجها بديل عن الأجنبي، مثل مطاعم بازوكا التي تنتج وجبات شبيهة بكنتاكي وترفع شعار "كسر عقدة الخواجة"، أو الترويج لتقديم المساعدة للفلسطينيين مثل الشركة المنتجة لمياه أوه المعدنية.
وتزامنت حملات المقاطعة في مصر مع تصاعد أزمة شح النقد الأجنبي، التي بدأت منذ 2022، وبينما كنا نحتاج لوقت طويل حتى ننمي الوعي الجمعي بشأن ضرورة الحد من اعتمادنا على المنتجات والعلامات التجارية الأجنبية لوقف هذه الأزمة، اختصرت "المقاطعة" هذه المدة في فترة قصيرة، وجمعت قطاعات واسعة وراء مساندة المنتج المحلي.
لا تتوفر لدينا بيانات كلية لحصر الجهات المحلية المستفيدة من المقاطعة، لكن المؤكد أننا في أشد الحاجة للتمسك بالاستمرار في دعم المنتج المحلي، حتى وإن كانت أزمة الدولار شهدت بعض اليسر منذ مارس الماضي، فنحن لا نزال في حاجة لدفع النمو الاقتصادي، الذي تراجع بنحو النصف تقريبًا خلال العام المالي 2023 عند 3.8%.
تحقيق الأرباح هو الهدف الأكبر لأي مشروع إنتاجي أو استثماري، بالتالي فإن التحول في نمط الاستهلاك المصري نحو المنتج المحلي يخلق فرصةً لهؤلاء المستثمرين لسد فجوة توافر المنتجات الأجنبية، وعلى المدى الطويل يدفع بعجلة التنمية إلى الأمام.
في المقابل، فإن الارتداد عن هذا الوعي يرفع من مخاطر الاستثمار المحلي مستقبلًا؛ لأنه يُثبِت أن هذا التحول في نمط الاستهلاك كان مؤقتًا، بل ويرفع من تكلفة فرص الإصلاح الاقتصادي.