يظهر وجه سلفستر ستالون متصدرًا الشاشة، في الخلفية مجموعة من اليخوت والمياه الزرقاء، يسأل بمنتهى الجهل "البحر المتوسط الحقيقي؟ أين هو؟"، يجيبه شخص آخر في ريعان شبابه "ساوث ميد، إيجيبت".
تمتزج صور شواطئ طويلة من الرمال البيضاء والمياه الفيروزية، مع مداخلة لصوت الشاب وهو يحكي عن اعتدال المناخ في مصر "هل تتخيل؟ الصيف تسعة أشهر في السنة"، تتدخل امرأة جالسة معهما على نفس الطاولة "وأكبر مارينا خاص في البحر المتوسط". فيعلق سلفستر بنفس جهل الأثرياء "بدأت أُعجب بهذا المكان".
يسرد بعدها الإعلان العديد من التفاصيل عن ضخامة حجم مشروع ساوث ميد في الساحل الشمالي، وطبيعة خدماته السياحية التي تستهدف طبقات شديدة الترف. قد يبدو كل هذا عاديًا كإعلان تليفزيوني عن استثمار سياحي في مصر، لكن المُلفت أن الحوار المشار إليه دار باللغة الإنجليزية وبلكنة أمريكية خالصة، وتُرجمَ للعربية كأنه إعلان غربي.
https://www.youtube.com/watch?v=wGSvhOuh86s&ab_channel=elbaytrealestateيأتي هذا التوجه في سياق رغبة الدولة في خلق إيرادات أجنبية، بعد أزمة نقد أجنبي طاحنة استمرت عامين تقريبًا، لكن الاندفاع نحو النقد الأجنبي قد تكون له آثار ثقافية واجتماعية أكثر عمقًا مما نتصور.
إيجيبت.. هوية جديدة
حتى في حالة إعلانات "طلعت مصطفى" المتحدثة بالعربية، كان الخطاب السائد أيضًا هو "العالمية"، حيث يبدأ أحدهم بعبارات حالمة لكريم عبد العزيز وهو يطل على البلاد من شرفة عالية ويتغزل في جمال أجوائها، بنظرة لا تختلف كثيرًا عن زائر أجنبي يشاهد البلاد لأول مرة من الطائرة، ثم يستعرض كيف تؤسس الشركة "العالمية" بنايات فاخرة، لا تشبه على الإطلاق نمط الحياة السائد بين المصريين.
لكن حسب الباحث، كان أول إحساس جمعي بهوية مشتركة بين المصريين أثناء الثورة العرابية في 1882، وإن كانت هناك تجليات سابقة لهذا التاريخ عن مفهوم "الوطن المصري" جاءت على لسان رفاعة الطهطاوي، في الثلاثينات من القرن التاسع عشر. نتحدث إذن عن هوية يمتد عمرها نحو قرنين، فهل نحن بصدد تفسخ هذا الشيء المعنوي المشترك بين المصريين؟
يتم تشييد المدن وفق نمط عمراني يحقق لهم جودة الحياة التي ينشدونها بينما يتم استبعاد المصريين تمامًا من هذا المشهد
على الرغم من أن مفهوم الهوية كان دائم التغيّر على مدار هذين القرنين، من حيث فخر المصريين بكونهم عربًا، أو تراجع هذه الروح العربية لصالح الوطنية المصرية، لكننا نعيش حاليًا تغيرًا أكثر عمقًا.
نعم لدينا حاليًا قطاع يرى أنه ينتمي لمصر وآخر لـ"إيجيبت"، باللكنة الأمريكية التي نطق بها ستالون. وبدأ الاثنان ينفصلان لغويًا وثقافيًا إلى حد كبير من حيث التعبيرات والمعاني، في تفاوت لا يختلف كثيرًا عن الفجوة بين قيمة الجنيه والدولار، وقيمة الإنفاق الشخصي للفرد في كلا الفريقين، ونمط الحياة والاستهلاك.
مستبعد لأنه مصري
التغير الذي نراه في الهوية المصرية لم يأتِ من فراغ، لكنه يعكس تحولات كبيرة في هيكل ملكية الأصول لصالح الأجانب، نحن بصدد نوع من الاستعمار المكاني وليس فقط الثقافي.
في سلسلة مقالات من يملك القاهرة؟ التي نشرها مرصد العمران في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2022، يقول الباحث يحيى شوكت إن نحو 50% من أراضي القاهرة، التابعة للشركات العقارية التي حصرتها الدراسة، مملوكة لغير مصريين.
وحالة ساوث ميد ليست سوى امتداد لتلك الظاهرة، إذ إنه حتى الأعمال الإنشائية المملوكة لمصريين يكون بعضها موجهًا للمشترين الأجانب. يتم تشييد المدن وفق نمط عمراني يحقق للأجانب جودة الحياة التي ينشدونها، بينما يتم استبعاد المصريين تمامًا من هذا المشهد.
تجلت حالة استبعاد المصريين إثر هذا الانقسام الهوياتي بشكل واضح في إعلان ظهر مؤخرًا على فيسبوك لإحدى الشركات العقارية.
الإعلان كان يروج لمشروع رأس الحكمة، وهو المشروع الذي أنقذ مصر من إفلاس وشيك عبر حزمة استثمارات ضخمة لصندوق أبوظبي السيادي، وحظَت رأس الحكمة برواج مشابه لساوث ميد من حيث استهدافها بالأساس للأجانب.
الصادم في الإعلان المشار إليه أنه اشتمل على عبارة "فقط للأجانب وأصحاب الجنسية المزدوجة أو الجنسية الثانية أو جواز السفر الثاني أو الجنسيات المتعددة"، مصحوبة بصورة جوية للمشروع.
تداول الناس الإعلان مصحوبًا بسيل من اللعنات والتعليقات الغاضبة على السوشيال ميديا، ولاقى فيديو ظهر فيه شاب يقول "فيه ناس بتتقتل عشان رافضة تبيع أرضها، وفيه ناس تانية أرضها بتتباع وقاعدة ساكتة ومبياخدوش منها نص جنيه" انتشارًا واسعًا. في النهاية سحبت الشركة إعلانها من فيسبوك واعتذرت عنه اعتذارًا يحمل الكثير من المواربة.
وبغض النظر عن الإعلان، فمن الطبيعي أن تؤدي بنا السياقات المحيطة بمشروع رأس الحكمة إلى مثل تلك النتائج؛ فدور هيئة المجتمعات في المشروع لا يختلف كثيرًا عن سمسار يبيع الأرض للأجانب، وما ادعته الحكومة المصرية أن أرض رأس الحكمة لم تُبع بل يتم "مشاركة" صندوق أبوظبي السيادي في تطويرها هو كلام غير صحيح طبقًا لتحليل الباحث العمراني يحيى شوكت، إذ إننا أمام صفقة حصلت مصر بمقتضاها على مستحقات ضخمة نظير توفير الأرض للمستثمر.
هل هذا نوع من الاستعمار الجديد؟
قد يعكس نص الإعلان المزعوم نوعًا من التجاوب مع ظاهرة ازدياد حاملي الجنسيات المزدوجة في مصر خلال السنوات الأخيرة، فحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، حصل 4418 مصريًا على جنسية أخرى في عام 2023، بزيادة 26% عن العام السابق. وهي ظاهرة مرشحة للتزايد مع تدهور مستويات المعيشة والخدمات في مصر من تعليم وصحة وسكن.
من الطبيعي في بلد بات يسعِّر العديد من خدماته على أساس سعر صرف الدولار أن يفكر الكثيرون في البحث عن جنسية أخرى، بعد أن وصلت مصروفات خدمة أساسية مثل التعليم بين 10 آلاف و500 ألف جنيه في العام الدراسي الواحد.
بين ساوث ميد وأبوظبي السيادي
هوس المطورين العقاريين باستهداف الأجانب ليس مستغربًا في سياق ارتفاع سعر الدولار خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حوالي 16 جنيهًا للدولار الواحد إلى ما يقرب من 50. هذا الانهيار في قيمة العملة المحلية أدى لتغيرات عميقة في نظرة المطورين للنمط العمراني لمشروعاتهم، كما أدى للسعي لتجنب الجمهور المصري.
إن حالة التعالي على المصريين، التي نراها من صندوق أبوظبي السيادي إلى طلعت مصطفى، هي امتداد لآثار الأزمة العميقة التي شهدناها خلال أزمة الدولار، حيث أقبل المطورون على إعادة تسعير وحداتهم المباعة للمصريين بما يتناسب مع تغير سعر الصرف، كما عزف أجانب عن الاستثمار في مصر بسبب عدم استقرار سعر الصرف.
في نظر الشركات الكبرى، خلق ضعف الجنيه احتياجًا إلى ضرورة التعامل مع جمهور "إيجيبت" من مزدوجي الجنسية، أو ممن يتلقون أجورًا بالدولار، أو بدلًا من ذلك التخاطب مع الجمهور الذي يحظى بصبغة عالمية؛ مثل ستالون.
هل هذا نوع من الاستعمار الجديد؟ هل نحن بصدد استعمار رأسمالي يقوم على الملكيات الخاصة للأجانب، أم استثمار عالمي يمحو فكرة الجنسيات والقوميات بينما يؤدي إلى إبعاد المصريين عن عموم الثروة المصرية.
واحد من الأمثلة على هذا التحول التدريجي هو الشراكة التي أُعلنت مؤخرًا بين شركة مصرية وأخرى إماراتية لتطوير منطقة طناش المطلة على جزيرة الوراق. يجسِّد المشروع جزءًا من عملية تحول ضخمة للجزيرة، من مكان تعيش فيه قطاعات من المواطنين تعتمد على حرف مثل الفلاحة والصيد والمهن البسيطة إلى وجهة سياحية تستهدف جمهور "إيجيبت".
هذا التحول لن يتم إلا عبر طرد الناس ونزع ملكية السكان الأصليين، وهو ما تم بالفعل من خلال استحواذ هيئة المجتمعات العمرانية على 71% من أراضي الجزيرة بهدف "تطويرها". أين ذهب السكان الأصليون، وكيف تغيرت تفاصيل حياتهم اليومية بعد تحول موطنهم إلى وجهة سياحية لا مكان لهم فيها؟ لا نعرف. لسنا هنا بصدد ما طرحه الأنثروبولوجي ديفيد هارفي عن التراكم عبر الانتزاع/accumulation by dispossession، بل نحن أمام تغيير هوياتي عميق لمستخدمي وساكني ومالكي المشاريع الجديدة.
باختصار، إذا كنت من عموم فقراء المصريين، فعلى الأرجح لن يكون لك الحق خلال السنوات المقبلة في الاستمتاع بشواطئ البحر المتوسط، أو الجزر النيلية. وقد تشمل الوظائف المتاحة لك خدمة الأجانب المتملكين في مشاريع طورتها دول الخليج، على سواحلهم "الجنوبية"، التي كانت يومًا سواحلنا "الشمالية".