في بيان الحكومة عن توقيع اتفاقية إعادة تطوير مدينة رأس الحكمة الجديدة، مع صندوق أبو ظبي السيادي/ADQ، وصف رئيس الوزراء مصطفى مدبولي الصفقة، التي تعد أكبر استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر، بأنها "مشاركة" وليست بيعًا.
يمثل تحليل مفهوم "الشراكة" محورًا مهمًا لتقييم جدوى الصفقة الضخمة التي عُدت بمثابة خطة إنقاذ لمصر من أزمتها المالية الراهنة، فالشريك يتحمل مخاطر الخسارة، ويضطر للمشاركة في نفقات المشروع، ما يعني أن الإيرادات المعلن عنها للمشروع لن تكون أرباحًا صافيةً.
لم يتم الإعلان عن العديد من التفاصيل الغامضة في هذا التعاقد، لكن لحسن الحظ قال رئيس الوزراء إن شراكة رأس الحكمة ستتبع "نفس الآلية التي تعتمد عليها الدولة، مُمثلة في هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة". إذن من خلال تتبع التجارب السابقة لهيئة المجتمعات العمرانية، سوف يمكننا الإجابة على بعض الأسئلة المهمة حول طبيعة هذا الاتفاق الغامض.
هيئة عامة للتطوير العقاري
أُنشئت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة سنة 1979، طبقًا لمقترح المهندس الراحل حسب الله الكفراوي، وزير الإسكان آنذاك، بصفتها هيئة اقتصادية يرأس مجلس إدارتها وزير الإسكان، وتكون معنية بإنشاء وتنمية المجتمعات العمرانية الجديدة على مستوى الجمهورية.
وشيّدت الهيئة منذ نشأتها 44 مدينة جديدة، منها العاصمة الإدارية الجديدة والسادس من أكتوبر، على أراضٍ خُصصت لها بقرارات جمهورية، بلغت في مجملها أكثر من 2.3 مليون فدان.
وإلى جانب المدن الجديدة، طوّرت الهيئة عددًا من القرى السياحية على ساحل البحر المتوسط الغربي بدءًا بمراقيا وماربيلا، ومرورًا بمارينا العلمين. وأخيرًا تم نقل أراضي رأس الحكمة خلال الأسابيع الماضية من القوات المسلحة إلى الهيئة، استعدادًا لإعادة تطويرها.
بالإضافة إلى دورها كمطور للمدن الجديدة والقرى السياحية، تعمل هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة كمطور عقاري. فقد قامت خلال السنوات القليلة الماضية ببناء وبيع أكثر من 77 ألف وحدة سكنية بهدف الربح، مثل مشاريع سكن مصر، ودار مصر، وجنة وكابيتال ريزيدينس وأبراج العلمين.
لم تعاود هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بيع الأراضي بنظام المشاركة حتى المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ سنة 2015
كما يتبع الهيئة عدد من المطورين العقاريين البارزين، مثل بنك التعمير والإسكان وسيتي إيدج وهايد بارك للتطوير العقاري، وهي مساهم بنسبة 49% في شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية.
هذا كله وضع الهيئة في المرتبة الثالثة من بين الهيئات الاقتصادية من حيث الإيرادات، بعد كل من الهيئة العامة للبترول وهيئة قناة السويس، كما مثلت هذه الإيرادات نحو 13% من تكوين النشاط العقاري للناتج المحلي.
بدايات آلية الشراكة
اتبعت الهيئة منذ تأسيسها عدة آليات لبيع الأراضي للمطورين، كان الغالب عليها البيع بنظام التقسيط بعد سداد مقدم في حدود 10% من سعر الأرض، ثم تقسيط باقي القيمة على عشر سنوات.
وفي سنة 2005 بدأت الهيئة البيع بنظام جديد، وهو الشراكة العينية، أي تسديد المطور حق الأرض عن طريق تسليم نسبة من الوحدات السكنية التي يتم تنفيذها إلى الهيئة، لتقوم الهيئة بعد ذلك بتسييلها، أي ببيعها بسعر السوق وقتها، وجمع إيراداتها.
كان أول هذه العقود عقد تخصيص 895 فدانًا لشركة طلعت مصطفى القابضة، بمدينة القاهرة الجديدة لبناء امتداد مدينة الرحاب، مقابل حصة عينية تمثل 12% من عدد الوحدات السكنية المنشأة. شهدت سنة 2005 أيضًا إبرام العقد الثاني لبيع أرض بالمشاركة في تاريخ الهيئة، وكان أيضًا مع شركة طلعت مصطفى لمساحة بلغت 8000 فدان، كانت هى الأكبر في تاريخ الهيئة قبل صفقة رأس الحكمة، لبناء مشروع مدينتي.
نصَّ عقد مدينتي على حصة عينية للهيئة تمثل 7% فقط من عدد الوحدات السكنية، وهو ما تم الطعن عليه في قضية شهيرة أظهرت تدني قيمة الأرض المحتسبة مقابل الوحدات، ليُغلق ملف التطوير بالمشاركة لنحو عقد من الزمن.
آلية الشراكة منذ 2015
لم تعاود هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بيع الأراضي بنظام المشاركة حتى المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ سنة 2015، حين طرحت عدة مشاريع للشراكة. ولكن في هذه المرة، قامت برفع حصتها من المشاريع بأكثر من أربعة أضعاف حصتها في مدينتي، تُسدد نقدًا وعينًا. لم تتحول غالبية اتفاقات المؤتمر إلى عقود، ولكن تمت صفقة مع شركة بالم هيلز بمشروع بادية، على مساحة 3000 فدان بأكتوبر الجديدة. وأخرى مع مجموعة طلعت مصطفى، مرة أخرى، بمشروع نور بحدائق العاصمة على مساحة 5000 فدان. ثم عقد مع شركة أوراسكوم للتنمية على مساحة 1000 فدان بمدينة حدائق أكتوبر، وعقود أخرى.
ويوضح إفصاح شركة أوراسكوم للتنمية، للبورصة، طبيعة ما آل إليه نمط الشراكة خلال السنوات الأخيرة، حيث قالت الشركة إنها ستسدد للهيئة 26% من إجمالي الحصيلة النقدية للمبيعات العقارية على مدار السنوات الثماني الأولى للمشروع بإجمالي قيمة مقدرة بـ 11.4 مليار جنيه. وبالإضافة إلى المبلغ النقدي، ستحصل الهيئة على 280,000 متر مربع من الوحدات السكنية المكتملة كدفعة عينية، أي ما يعادل تقريبًا 7.5% من إجمالي المساحة المبنية للمشروع، في فترات محددة.
ستسدد الإمارات نحو تريليون جنيه إلى الهيئة وهذا يعني أن سعر الأرض المبدئي في حدود 5000 جنيه مصري للمتر
يحقق هذا النموذج فائدة للطرفين، فهو يساعد المطورين على بدء مشروعاتهم دون تحمل أعباء تكاليف الأرض مقدمًا، بينما تضمن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة ألا تفقد الأقساط قيمتها الحقيقية عن طريق اشتراط أن تكون نسبة من أسعار البيع الفعلية للوحدات خلال سنوات المشروع، لأن الأسعار تزيد مع كل مرحلة جديدة بسبب عدة عوامل من بينها التضخم، بجانب أثر سمعة المشروع وبرهان جدية التطوير والتسليم.
بالإضافة إلى الدفعات النقدية، تسدد الشركات دفعات عينية من الوحدات التي يمكن للهيئة بيعها بأسعار السوق وقت استلامها، أو "تسقيعها" لبيعها في المستقبل بأسعار أعلى.
لكن على الوجه الآخر، فإن التطوير بالمشاركة يعني أيضًا أن الحكومة شريك في المخاطر التي ينطوي عليها المشروع، وهو كأي مشروع استثماري معرض للتأخر، أو التعثر، أو الخسارة إذا فشل.
لكن من الصعب في الوقت الراهن أن نقيم حجم تلك المخاطر نظرًا إلى حداثة هذه المشاريع وغياب البيانات حولها، خاصة وأن الهيئة قدمت العديد من التسهيلات للمطورين أثناء الأزمة الاقتصادية الأخيرة لتنفيذ مشروعاتهم.
شراكة رأس الحكمة
تمثل شراكة رأس الحكمة نموذجًا مختلفًا عن الشراكات السابقة من عدة أوجه، أولًا لأن الهيئة ستحصل على دفعة مقدمة من حصيلة بيع المشروع، وليس نسبة من المبيعات المستقبلية كما كان في تعاقدات أخرى.
ستسدد الإمارات 24 مليار دولار إلى الهيئة، مقسمة إلى 10 مليارات عند التعاقد، و14 مليارًا بعد شهرين من التوقيع، أو ما يساوي نحو تريليون جنيه إذا احتسبنا سعر الصرف الرسمي وقت تسديد الدفعة الأولى، وسعر الصرف الحالي بعد تعويم الجنيه للدفعة الثانية. هذا يعني أن سعر الأرض المبدئي، أي دون احتساب حصة الأرباح، في حدود 5000 جنيه مصري للمتر.
الفرق الثاني هو الاتفاق على حصول الهيئة على حصة 35% "من أرباح المشروع"، كما صرح رئيس الوزراء، وليس من المبيعات كما كان الحال في المشروعات السابقة. واللافت أن نسبة الهيئة في الأرباح أعلى من النسبة المستقطعة من مبيعات مشروع أوراسكوم المذكور أعلاه، وهي 26%.
لكن على عكس ما يبدو للوهلة الأولى، قد يكون الاقتطاع من الأرباح في غير صالح الهيئة، وذلك في حالة ما إذا تم خصم الدفعة المقدمة، التريليون جنيه، من أرباح المشروع الصافية.
هنا لن تتضح الأمور نظرًا إلى عدم الإعلان عن قيمة الأرباح المتوقعة للمشروع، وهي بالتأكيد تم حسابها بقدر كبير من الدقة لأن مشاريع الشراكة قائمة على منهجية متبعة ومتطورة.
تحتاج رأس الحكمة نظرًا لموقعها النائي إلى بنية تحتية خاصة باستثمارات كبيرة
بخلاف المقدم، المتحصلات النقدية التي أشار لها البيان الرسمي كانت الـ150 مليار دولار، وهي قيمة الاستثمارات المتوقع إنفاقها على المشروع، بهدف تطوير رأس الحكمة إلى منتجع سياحي. ويفسر هذا الاستثمار الضخم سبب سعر بيع المتر المرتفع.
الاختلاف الثالث والأخير هو أن الاتفاق يضم صفقتين في واحدة؛ الأولى هى امتياز تطوير الأرض، الذي شرحنا تفاصيله أعلاه، والثانية تحويل وديعة إماراتية مودعة بالبنك المركزي المصري من الدولار إلى الجنيه ليتم استثمارها في المشروع، ومشاريع أخرى للإمارات في مصر.
لعل الجانب الإيجابي لهذه الصفقة هو محو 11 مليار دولار من الدين الخارجي لمصر، الذي وصل إلى مستوى قياسي مرتفع يبلغ 165 مليار دولار. ولكن سيتم توجيه جزء كبير من هذه الأموال لدعم احتياطي النقد الأجنبي البالغ 35 مليار دولار.
صافي الدخل الدولاري
هناك جانب مهم يجب ألا نغفله، وهو أن عوائد امتياز رأس الحكمة ليست أرباحًا صافيةً للحكومة، فقد اضطرت لصرف مبالغ كبيرة لتطوير البنية الأساسية التي تجعل هذه الأراضي قابلة للبيع.
وكما هو الحال مع معظم اتفاقيات الشراكة، فإن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة مسؤولة عن توفير البنية التحتية الرئيسية لقطع الأراضي التي تبيعها أو تشارك في تطويرها. لكن تختلف هنا رأس الحكمة عن الشراكات السابقة بالنظر لموقعها النائي، الذي يحتاج إلى بنية تحتية خاصة باستثمارات كبيرة.
يحتاج موقع المشروع محطات لتحلية مياه الشرب ومعالجة الصرف الصحي، التي تتكلف عشرات الملايين من الجنيهات. وهناك بنية تحتية كالكهرباء والغاز والاتصالات تحتاج إلى مد شبكات بعشرات الكيلومترات إلى هذا الموقع الساحلي.
كما شدد رئيس الوزراء على أهمية توسيع الطريق الساحلي السريع، الذي تم تطويره حديثًا، لاستيعاب حركة المرور المستقبلية التي ستشهدها المشروعات الجديدة على طول الساحل الشمالي الغربي. أضف لكل ما سبق تكلفة تعويضات أهالي رأس الحكمة الذين نُزعت ملكياتهم لإعادة تطوير الأرض.
مشروعات الطاقة والنقل السريع المطلوبة لإحياء هذه المدينة الساحلية تحمل أعباءً بالعملة الأجنبية يجب وضعها في الحسبان، خاصة أن رئيس الوزراء وعد بأن تكون رأس الحكمة "مدينة خضراء" تعتمد بشكل أساسي على محطة الطاقة النووية الجديدة، التي تُنفذ على الساحل نفسه بمنطقة الضبعة بتكلفة 25 مليار دولار.
كما ذكَر بيان مجلس الوزراء أيضًا أن خط القطار السريع العين السخنة-مطروح، الذي تبلغ تكلفته 4.4 مليار دولار، يتم إنشاؤه لنقل الزوار والسائحين إلى الساحل.
وبالتالي، لكي نصل إلى تقييم عادل لحجم استفادتنا ماليًا من هذه الصفقة، لا بد أن نخصم نسبة من التكاليف الدولارية لهذه المشاريع من مدفوعات رأس الحكمة.
بعد حساب الأعباء الدولارية على المشروع، يجب أن نلتفت إلى الالتزامات الدولارية على هيئة المجتمعات العمرانية، صاحبة أرض رأس الحكمة، التي يجب عليها سدادها من إيرادات الصفقة. فهناك قرض تعاقدت عليه الهيئة مع الصين بقرابة 3 مليارات دولار لبناء أبراج العاصمة الإدارية الجديدة ومنطقة المال والأعمال. وتعاقدت الهيئة أيضًا مع الشركة الصينية العامة للهندسة المعمارية/CSCEC لبناء أبراج بمدينة العلمين الجديدة تقدر تكلفتها بـ1.9 مليار دولار.
الجدير بالذكر أن أبراج العلمين تقع على بعد 100 كيلومتر شرق رأس الحكمة الجديدة، وهو ما يجعلها منافسًا مباشرًا للمشروع الجديد.
أدت هذه الالتزامات الدولارية إلى قيام هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بدولرة عملية بيع الأراضي والعقارات التابعة لها، وهو ما أدى إلى مزيد من تراجع قيمة الجنيه، أو ما سماه المحلل الاقتصادي محمد جاد بـالاغتيال المعنوي للجنيه.
استثمار غير استراتيجي
ساعدت صفقة رأس الحكمة في تخفيف الأزمة الاقتصادية الحالية في مصر، وهي بالأخص أزمة ندرة العملة الصعبة. ساعد تدفق الدولار في تخفيف جزء من الالتزامات بالعملات الأجنبية، وساعد في الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي. كما لعبت الصفقة دورًا رئيسيًا في تعزيز احتياطي النقد الأجنبي لمساندة قيمة الجنيه عند التعويم الأخير، وهو أحد شروط صندوق النقد الدولي للحصول على القرض.
ومع ذلك، فإن القطاع العقاري غير مستقر، يتأثر بسهولة بالاضطرابات المحلية والإقليمية والعالمية، ويحتاج تدخل الحكومة الدوري لإنقاذه. لذا فهو لا يمثل استثمارًا استراتيجيًا، وينطبق الأمر نفسه على الشق السياحي للمشروع.
بالمقارنة مع الصناعات التحويلية، لن يساهم القطاع العقاري على المدى الطويل في إحلال الواردات الأجنبية بمنتج محلي. فالعقارات لا يمكن استيرادها، ولكن تعتمد على العديد من مدخلات الإنتاج المستوردة، التي يتضخم سعرها كلما انخفضت قيمة الجنيه.
أما بخصوص ما يسمى بتصدير العقار، أي بيعه بالعملة الأجنبية لغير المصريين أو المصريين بالخارج، فنسبة المبيعات الدولارية من المشروعات العقارية لا تتجاوز 30% إلى 40% استنادًا إلى بيانات حديثة لشركة أوراسكوم للتنمية التي تدير مشروع الجونة، وهو أكثر المشاريع العقارية السياحية المشابهة لرأس الحكمة.
في النهاية، تعتبر الأراضي من الأصول المحدودة ذات الطابع الريعي، على الرغم من أن غالبية الأراضي في مصر هي أراضٍ صحراوية شاغرة، ولكن الأماكن التي يمكن أن يتم استغلالها وتسليعها محدودة. وعدد الأماكن المشابهة لرأس الحكمة نادرة جدًا، إن لم تكن غير موجودة.