انطوى إعلان رئيس الوزراء عن "صفقة" رأس الحكمة مع الإمارات، أواخر الشهر الماضي، على خطاب شديد التفاؤل حول قرب الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية التي تواجهها مصر.
وعلى أثر هذا الإعلان، انخفض سعر الدولار الأمريكي في سوق الصرف الموازية (السوق السوداء) بشكل مذهل، ليصل إلى أقل من 40 جنيهًا للدولار، بعد تسلم مصر الدفعة الأولى من أموال "الصفقة"، وذهبت جولدمان ساكس إلى استخلاص مفاده أنَّ التدفقات الدولارية المنتظرة لمصر قادرة على ردم الفجوة التمويلية للبلاد خلال السنوات الأربع المقبلة.
لم تكن المفاجأة في توقيت أو حجم الصفقة فحسب، بل في الشكل الذي أخذه ذلك التدفق الدولاري الرهيب؛ كـ"استثمار أجنبي مباشر"، ويُقصد به الاستثمار الذي يقوم فيه أجنبي بنقل أمواله إلى بلد آخر ليشتري أصلًا إنتاجيًا، أو يستحوذ على أصل قائم.
الجيد في أن تأتي أموال الإمارات في صورة الاستثمار المباشر بدلًا من الإقراض، هو أنَّ الدول التي تتلقى استثمارات كبيرة يُنظر إلى اقتصاداتها على أنها قوية ومتنوعة وقادرة على جذب الدولار، لأنَّ المستثمر الذي يختار أن يضخ أمواله في بلد ما، يبدي استعدادًا لتحمل المخاطر في هذا البلد، عكس الدائن.
بالنظر لما سبق، يكاد يكون رد الفعل المبدئي على "صفقة" رأس الحكمة مُنصبًّا بالكامل على جوانبها المالية، وهذا ليس مُستغربًا في ضوء عمق الأزمة التمويلية التي تواجهها مصر في قطاعها الخارجي، سواء على صعيد الانخفاض الشديد في قيمة الجنيه، أو الصعوبات المتزايدة التي تواجه المنتجين والمستهلكين للاستيراد من الخارج.
لكن ماذا عن تقييم الجانب الاستثماري في الصفقة، بما أنها أخذت شكل الاستثمار الأجنبي المباشر؟ هذا البعد لم يحظَ بالاهتمام الكافي بشأن الاتفاق الذي وصفته الدولة بـ"الصفقة الكبرى".
الأمان ليس في السياحة
لا تزال الكثير من التفاصيل غائبة، لكن طبقًا لما هو معلن، فهناك شراكة بين الدولة المصرية وجهات تابعة لحكومة الإمارات العربية المتحدة، وهذه الشراكة لا تنطوي على بيع للأرض، هذا ما أكدته الحكومة دون بيان ما إذا كان هذا يعني أن الترتيب القانوني سيكون حق الانتفاع أو الإيجار.
وتابع رئيس الوزراء "سيكون هناك مارينا دولية كبيرة لليخوت والسفن السياحية، وسيتم تطوير وإنشاء مطار دولي جنوب المدينة، وتخصيص أرض لوزارة الطيران المصرية، والتعاقد مع شركة أبوظبي التنموية لتنمية المطار، كما سيكون للدولة المصرية حصة من عوائد المطار".
يجب أن تهم جدوى استثمارات رأس الحكمة الخليج بقدر ما تهم مصر
يُفهم من المعلومات القليلة "الرسمية" إذن أن المشروع سيكون سياحيًا/ عقاريًا، وأنه سينقل استخدامات أراضي الساحل الشمالي في مصر من السياحة الداخلية إلى خارجية تستقبل الزائرين في المطارات والمواني.
والسياحة نوع من تصدير الخدمات، لأنها تأتي بالسائحين من الخارج ومعهم العملة الصعبة لإنفاقها، ولا شك أن مصر لديها مقومات عديدة لكي تصبح مقصدًا سياحيًا منافسًا، لكنَّ التاريخ الحديث للسياحة في مصر يخبرنا أنها من أكثر القطاعات عرضة للاضطراب، ومن ثم فالمزيد من الاستثمار فيها لا يؤمِّن لنا مستقبلًا مستقرًا.
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، استقبلت مصر 14.7 مليون سائح في 2010، وهو الرقم الأعلى على الإطلاق منذ ذلك الحين، لأنَّ الأعداد أخذت في التراجع مع الثورة في 2011 ثم تفجير الطائرة الروسية في 2015، ثم سنوات الجائحة التي قوضت خدمات السياحة في العالم كله.
لم تعُد أعداد السائحين الوافدين إلى مصر إلى ما كانت عليه في 2010 إلا العام الماضي، عندما استقبلت البلاد 14.9 مليون، أي بعد 13 سنة كاملة، ويرجع هذا إلى الحساسية المفرطة لقطاع السياحة في مصر، وفي غيرها، للتغيّرات والاضطرابات، خاصة وأن مصر تقع في منطقة ليست من الأكثر هدوءًا واستقرارًا.
فقر التنوع في الاستثمار الأجنبي
هذا بالإضافة إلى أنَّ أيَّ استثمار سياحي جديد سيزيد من تركز الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاع الخدمات، وهو ما يعكس فقر التنوع في توزيع هذا اللون من الاستثمارات.
فبحسب بيانات البنك المركزي، ذهب نحو 40% من إجمالي التدفقات الواردة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى مصر في 2022/2023 إلى أنشطة خدمية، و24.5% إلى استثمارات استخراج البترول ذات الطابع الريعي، ليقتصر نصيب الاستثمارات الصناعية على 25.6%، بالرغم من الحاجة الماسة إلى زيادة الصادرات، والحد من الواردات الصناعية مثل السلع الاستهلاكية والسلع الاستثمارية، التي تمثل ثلث وارداتنا.
باختصار؛ استمرارية الاستثمار الأجنبي المباشر أمر في غاية الأهمية من الزاوية المالية، لأنها واحدة من الضمانات لاستمرار تدفق النقد الأجنبي للاقتصاد، لكن التوزيع القطاعي لهذه الاستثمارات قضيةٌ مركزيةٌ.
ستحدد الأبعاد الاستثمارية بعيدة المدى لصفقة بضخامة رأس الحكمة ما إذا كانت "الصفقة" مجرد اسم جديد لنفس الآلية القديمة التي من خلالها يتم إنقاذ الاقتصاد المصري من عثراته المتكررة عن طريق ضخ كميات كبيرة من الدولارات، أم أنها ستكون فتحًا لأسلوب جديد من الدعم الخليجي يكفل بناء قدرات إنتاجية وتنافسية على المدى الطويل، تسهم في علاج جذور المشكلات التمويلية المتكررة، التي ثبت عمليًا وعلميًا أنها لن تُحل بتدفق نقدي هنا أو هناك مهما بلغت ضخامته.
ويجب أن تهم جدوى استثمارات رأس الحكمة الخليج بقدر ما تهم مصر، فالسعودية والإمارات تلعبان الآن دورًا أساسيًا في مساعدة مصر للخروج من أزماتها المالية المتكررة، وعليه فمن صالح الخليج أن تكون مصر أكثر استقرارًا على المدى الطويل.
يبلغ إجمالي الاستثمارات الخليجية في مصر 62 مليار دولار، مع تقديرات بأنَّ استثمارات الإمارات وحدها تبلغ 29 مليارًا، وهذا كله قبل صفقة رأس الحكمة التي ستزيد الحضور الاستثماري الخليجي بشكل ملموس.
وإذا أرادت عواصم الخليج ترجمة التزامها المحمود هذا بإعادة تأهيل الاقتصاد المصري، حتى لا تضطر للعودة لإنقاذه بزخات وضخات جديدة من الدولارات في بضع سنين، فلا مفر من استهداف قطاعات مرتفعة القيمة المضافة مثل الصناعات التحويلية، وعدم الوقوف عند أنشطة السياحة والتنمية العقارية.