
التقسيم الإقليمي للعمل: الأرض مقابل الدولار
مطلع العام الحالي، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي عزم مصر طرح 4 إلى 5 مناطق جديدة على البحر الأحمر "للاستثمار"، بـعد صفقة رأس بناس التي تمّ الترويج لها في سبتمبر/أيلول الماضي، وعلى غرار الصفقة الأشهر "رأس الحكمة" قبل عام.
وفي فترة مقاربة، أعلن مسؤولو الحكومة السورية الجديدة مرارًا عزمهم خصخصة الشركات العامة، وتسريح الموظفين الحكوميين وإطلاق قوى السوق، بالتوازي مع مساعي الرئيس الانتقالي أحمد الشرع جذب الاستثمارات الخليجية من خلال زيارة للسعودية واستقباله أمير قطر.
وعند سؤاله عن النماذج التي يمكن لسوريا الجديدة الاقتداء بها قال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إن الإدارة الجديدة تجد في رؤية السعودية 2030 "مصدر إلهام"، مؤكدًا أن "دول الخليج العربي بالغة الأهمية بالنسبة لدمشق، ونتطلع إلى دعمها لنا". وأعرب أحمد الشرع نفسه في مقابلة سابقة مع صحيفة الشرق الأوسط عن اقتدائه بـ"الحالة التنموية المتقدمة التي وصلت إليها بلدان الخليج ونطمح إليها لبلدنا".
يحاول هذا المقال تقديم طرح يستلهم نظريات الميزة المقارنة والتقسيم الدولي للعمل لفهم هذا النوع من الصفقات في البلدان المستورِدة للنفط في منطقة الشرق الأوسط.
تقسيم العمل في الشرق الأوسط
يعد تعميق التقسيم الدولي للعمل والميزة المقارنة من أهم ملامح النيوليبرالية، بعيدًا عن التعريفات القاموسية المرتبطة بالدولة والقطاع الخاص، وهي التعريفات التي كانت موضوع المقال السابق في تلك السلسلة.
يشير مفهوم التقسيم الدولي للعمل لنظام اقتصادي عالمي تُخصص فيه الدول مواردها للإنتاج وفقًا لميزتها المقَارنة، حيث تصبح أولوية الاقتصاديات المنخرطة في هذا التقسيم هي خدمته (أي التقسيم)، والوفاء بالدور التصديري لها حتى يتم توفير الموارد من العملة الصعبة لاستيراد الاحتياجات المحلية، حيث تتزايد الحاجة للاستيراد نتيجة لتوجيه الموارد المحلية، مثل الأرض والعمل والمياه، لدعم التصدير، بدلًا من توجيه الإنتاج مباشرة للاحتياجات الداخلية.
عادة ما ينتج عن هذا التقسيم تبادل غير متكافئ، تقوم فيه الدول الأقل دخلًا بدور المصدِّر للسلع منخفضة القيمة، وكثيفة العمالة كون ميزتها المقارنة هي وفرة اليد العاملة الرخيصة، بينما تلعب الدول الأغنى دور المصدر للسلع كثيفة رأس المال وغير كثيفة العمل، بفضل وفرة رأس المال.
كان لصعود النيوليبرالية، وتعميق التقسيم الدولي للعمل، من خلال ما يسمى بسلاسل التوريد والقيمة، دور مهم في زيادة حجم التجارة العالمية، حيث ارتفع نصيبها من الناتج الإجمالي للعالم من 26% عام 1970 إلى نحو 60% الآن.
انقسم الشرق الأوسط إلى بلدان فائض تجاري وبلدان عجز حيث راكمت الدول النفطية فوائض مالية ضخمة
عادة ما يُنظر لتقسيم العمل على أنه ظاهرة تحدث بين بلدان الجنوب العالمي الأقل دخلًا والشمال العالمي الأعلى دخلًا، لكن نادرًا ما يتم الالتفات لوجوده بشكل عميق في منطقة الشرق الأوسط وبين بلدانها، وهنا يمكن اللجوء إلى تقسيم مبسط للمنطقة لبلدان مصدِّرة للنفط وأخرى مستوردة له، والتباعد الكبير الذي حدث بين المجموعتين منذ سبعينيات القرن العشرين.
يشير التباعد الكبير Great Divergence إلى الفجوة الاقتصادية والتكنولوجية التي نشأت بين الدول الصناعية في أوروبا وأمريكا الشمالية، والدول الأخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بدءًا من القرن التاسع عشر.
بعد أزمات النفط في السبعينيات، الناتجة عن حرب أكتوبر 1973 ثم الثورة الإيرانية عام 1979 واللتين أديتا لارتفاع غير مسبوق لأسعار النفط، انقسم الشرق الأوسط إلى بلدان فائض تجاري وبلدان عجز، حيث راكمت الدول النفطية، وعلى رأسها بلدان الخليج، فوائض مالية ضخمة، بينما عانت الدول غير النفطية أعباءً اقتصادية متزايدة بسبب ارتفاع تكاليف استيراد الطاقة.
أدى هذا إلى "تباعد كبير" بين الدول المصدِّرة والمستوردة للنفط في المنطقة، كأحد أبرز مظاهر التحول بعد أزمات النفط، حيث شهدت الدول المصدرة للنفط نموًا اقتصاديًا وتراكمًا رأسماليًا متسارعًا، بينما ظلَّ نمو الدول المستوردة للنفط بطيئًا نسبيًا.
أدى هذا التحول إلى إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية داخل المنطقة، فأصبحت الدول النفطية مصْدَرًا رئيسيًا للتمويل، مستبدلة بذلك، ولو جزئيًا، المراكز المالية التقليدية في الشمال العالمي. بينما اضطرت الدول ذات العجز إلى تبني سياسات تتماشى مع مصالح رؤوس الأموال الخليجية، سواء من خلال التسهيلات الاستثمارية أو بيع الأصول العامة وفتح الأسواق أمام تدفقات رأس المال، وتطوير قطاع تصديري يَخدِم الأسواق الخليجية بشكل أساسي.
منذ ذلك الحين، أصبح جزء كبير من موارد المجتمعات غير النفطية، سواء البشرية أو الطبيعية، يتدفق نحو بلدان الخليج، حيث تحولت العمالة إلى سلعة تصديرية أساسية في اقتصادات الدول غير النفطية، وزاد اعتماد هذه البلدان على العملة الصعبة المولَّدة من تحويلات عامليها في الخليج، وباتت كذلك تعتمد بشكل متزايد على تدفقات رأس المال الخليجي، سواء عبر القروض أو شراء الأصول الاستراتيجية لتعويض عجوزاتها من الموارد الصعبة الناتجة عن التباعد الكبير. نتج عن هذا التباعد، أنه إذا اعتبرنا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بلدًا واحدًا فإنه سيكون الأكثر لا مساواة في العالم.
تصدير الأرض والمياه والعمل
في ظل محدودية الموارد المائية في الخليج واعتماد دوله على استيراد الغذاء، تلعب بلدان مثل مصر والأردن دورًا أساسيًا في تأمين احتياجات هذه الدول من المنتجات الزراعية، مستفيدةً من مواردها المائية رغم شحها المتزايد. نرى مثلًا أن قرابة نصف واردات السعودية من الفواكه الحمضية من مصر، ونحو نصف الطماطم من الأردن، وكذلك نصف الخراف.
ورغم أن واردات الغذاء إلى بلدان الخليج من المنطقة ما زالت تمثل نسبة بسيطة من إجمالي وارداتها الغذائية، وقد تقل عن بعض البلدان والمناطق الأبعد مثل الهند والبرازيل والولايات المتحدة، فإن استثمار بلدان الخليج المباشر في الأراضي الزراعية في المنطقة يتزايد بشكل كبير.
على سبيل المثال، يوضح مقال للباحثين صقر النور وندى عرفات نُشر في مدى مصر عام 2019 أن دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، تبنّت سياسات استثمار زراعي خارجي لضمان أمنها الغذائي، وبرزت مصر واحدة من الوجهات الرئيسية لهذه الاستثمارات، نظرًا لقربها الجغرافي وتوافر الأراضي الصالحة للزراعة، كجزء من مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي بالخارج، التي تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي السعودي وتوفير الاحتياجات الغذائية بأسعار مستقرة.
تقوم بلدان الخليج بنفس عملية امتصاص العمل والموارد التي تمارسها البلدان الأعلى دخلًا وتجتذب هذه الموارد من محيطها الإقليمي
يوضح المقال أن الإنتاج في تلك المشروعات يتركز في المحاصيل كثيفة الاستهلاك المائي مثل البرسيم الحجازي، بالمخالفة لعقود الاستثمار التي تنص على زراعة 5% فقط من الأراضي المستصلحة في توشكى بالبرسيم المستخدم في تغذية الماشية، بهدف الحفاظ على الموارد المائية المحدودة في مصر. هذا فضلًا عن الجهود الإماراتية لزراعة القمح في توشكى وشرق العوينات.
نتيجة لشح المياه والأرض الصالحة للزراعة، تستورد دول مجلس التعاون الخليجي بشكل صافٍ ما يعادل 70 ألف هكتار من الأراضي سنويًا بصورة غير مباشرة من بقية العالم بواسطة التبادل التجاري. أما الدول غير النفطية في الشرق الأوسط، فـ"تصدِّر" بشكل صافٍ حوالي 25 ألف هكتار من أراضيها الزراعية.
لا تصدِّر مصر فحسب الأرض الزراعية بالموارد المرتبطة بها مثل المياه والعمل، ولكن أيضًا الأراضي العقارية التي تعمل كقناة لامتصاص فوائض رؤوس الأموال في الخليج، مثلما حدث في صفقات رأس الحكمة ورأس بناس وغيرها الكثير من الاستثمارات العقارية في مصر وبلدان المنطقة بل والعالم.
القطاع العقاري هو عادة القطاع المثالي لامتصاص رؤوس الأموال الزائدة، خاصة في مناطق يزيد فيها السكان بوتيرة سريعة كالشرق الأوسط، وبشكل يغني عن دخول رأس المال في قطاعات تصديرية تنافسية خاضعة بشكل صارم للتقسيم الدولي للعمل يصعب على بلدان المنطقة الدخول فيها.
يتمتع القطاع العقاري بمواصفات تجعله بمثابة مسرح ملائم لاجتماع رؤوس الأموال الخليجية بحكومات الدول المستوردة للنفط، فالعقار سلعة لا يمكن تصديرها أو استيرادها بالمعنى التقليدي، وبالتالي فهو بعيد عن مجال المنافسة في التجارة الدولية الذي تهيمن عليه البلدان الأعلى دخلًا، وفي الوقت نفسه يتطلب الاستثمار فيه قرارات سيادية بتخصيص أراض ما يجعل للدولة المستقبلة لهذا الاستثمار اليد العليا في تقرير مَن هو المستثمر.
يأخذنا هذا إلى الشكل الثاني من تصدير العمل. ناقشنا أعلاه العمل المدمج في السلع في القطاعات المخصصة للتصدير لبلدان الخليج، لكن بالطبع يوجد تصدير مباشر للعمل من خلال الهجرة، حيث تعتمد اقتصادات الخليج بصورة كبيرة على العمالة المهاجرة كما هو معروف لصغر حجم سكانها ونقص القوى العاملة.
يتم تصدير العمل سواء عبر الهجرة أو تصدير السلع التي تحتوي قيمة عمل في الأغلب ما تكون منخفضة الأجر، ويصبح من مصلحة رؤوس الأموال الحفاظ على قيمة العمل منخفضة بقدر الإمكان، بالذات بالعملة الصعبة، عن طريق سياسات اقتصادية على رأسها خفض قيمة العملات المحلية، الذي يخفض من قيمة كل السلع المقوّمة بالعملة المحلية ومن ضمنها العمل كسلعة.
دول مجلس التعاون الخليجي هي بلا منازع المصْدَر الأساسي لتحويلات المصريين العاملين في الخارج. في العام المالي 2021-2022، بلغت نسبة التحويلات من المملكة العربية السعودية وحدها 34% من إجمالي التحويلات، تليها الكويت بنسبة 14%، والإمارات العربية المتحدة بنسبة 11%، وقطر بنسبة 4%، وسلطنة عمان بنسبة 0.5%. وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري.
وصلت القيمة الإجمالية لتحويلات المصريين من هذه الدول الخمس إلى 20.25 مليار دولار في العام نفسه، ما يمثل حوالي 63.5% من إجمالي التحويلات البالغة 31.9 مليار دولار.
وجاءت أيضًا أغلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من بلدان الخليج، تحديدًا الإمارات والسعودية، وفقًا لإحصاءات البنك المركزي المصري.
رأس المال الخليجي وإعادة تعريف النيوليبرالية
يقوم الشمال العالمي باستغلال العمل والموارد في الجنوب للحفاظ على رأسماله الحيوي والبيئي من خلال تصدير الأثر البيئي لبلدان الجنوب، عبر نزع التصنيع de-industrialization ووقف الأنشطة الاستخراجية الملوثة مثل الفحم، فتُظهر دراسة لجيسون هيكل وزملائه في مجلة نيتشر أن أكثر من 90% من العمل المأجور عالميًا يتم في بلدان الجنوب، وفي المقابل لا يحصل الجنوب العالمي سوى على 44% من الدخل العالمي.
وفي دراسة سابقة له ولزملائه أيضًا وجدوا أن في عام 2015 بلغ صافي تحويلات الجنوب العالمي من الموارد الحيوية إلى الشمال العالمي 12 مليار طن من المواد الخام، و822 مليون هكتار من الأرض، وطاقة تعادل 3.4 مليار برميل من النفط، وقوة عمل بشري تعادل 392 مليار ساعة.
وتقوم بلدان الخليج بنفس عملية امتصاص العمل والموارد التي تمارسها البلدان الأعلى دخلًا، وتجتذب هذه الموارد من محيطها الإقليمي الذي يتمتع بفائض من العمالة. وما يمكِّن الخليج من القيام بدور البلدان الأعلى دخلًا هو ما يتمتع به من فوائض مالية هائلة من النفط، وما يدفعه لذلك أيضًا ما يعانيه من نقص في الموارد الطبيعية الأخرى والأيدي العاملة المحلية.
الفارق الجوهري هو غياب التكنولوجيا في عملية التبادل: على عكس الشمال الذي يعيد تصدير التكنولوجيا ورأس المال غير الملموس مقابل المواد الخام والعمل، فإن الخليج يعتمد بشكل أساسي على إعادة تدوير الفوائض المالية عبر الاستثمار والتمويل.
بالإضافة لخاصية التسليع التي ناقشناها في المقال السابق، فالخاصية الأخرى للنيوليبرالية هي تقسيم العمل بين الاقتصادات الوطنية المبنية على تعميق التبادل والتخصص وفقًا للميزة المقارنة.
تعتمد فكرة الميزة المقارنة في الاقتصاد "الريكاردي"(*) الكلاسيكي على نظرة مثالية، فالاعتقاد السائد أن الميزة المقارنة تعتمد على المناخ الملائم، أو انتشار مهارات بشرية تسمح بإنتاج سلعة معينة بكفاءة، لكن في الواقع، في الكثير من الأحيان، تكون "الميزة" المقارنة موطن ضَعف مِثل العمَل الرخيص الناتج عن فائض الأيدي العاملة وأحيانًا تكون أيضًا الإجراءات البيئية الرخوة مما يسمح بقيام صناعات ملوثة، أو حتى وجود العبودية كما كان الحال في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر.
باختصار، لقد رسّخت حقبة ما بعد أزمات النفط، وهي ذاتها الحقبة النيوليبرالية، نظامًا تعتمد فيه البلدان غير النفطية في المنطقة بشكل متزايد على التدفقات المالية من دول الخليج.
هذا الواقع يعيد تعريف النيوليبرالية بشكل يتجاوز التصورات التقليدية عن الدولة والقطاع الخاص، لتكون واحدة من أهم خصائصها هو كيف يمكن لقوى مركزية، حتى ولو كانت من غير القوى المركزية التقليدية، أن تدير و"تُهندس" تقسيمًا إقليميًا جديدًا للعمل، يعتمد على "الميزة" المقارنة، وهي الهندسة التي تبعدنا أكثر عن مفاهيم مثل السيادة الاقتصادية والغذائية، بحيث تصبح أجزاء أكبر من النشاط الاقتصادي والموارد موجهة نحو التصدير لتوفير الموارد، بما فيها الائتمان الذي يسمح لنا باستيراد حاجاتنا، واضعًا الاقتصاد في ضغط شبه دائم من خفض القيمة والاتجاه نحو التسليع.
(*)نسبة للاقتصادي ديفيد ريكاردو