أريج
مصنع الأسمنت في منطقة أبوزعبل بالقاهرة

الفساد ميزةً.. الضعف المؤسسي سمة النيوليبرالية

منشور الأحد 25 مايو 2025

زاد الجدل في الأسابيع الأخيرة حول الإغلاق المفاجئ لمحلات "بـ لبن" تحت ادعاءات رسمية بوجود مخالفات صحية خطيرة، ثم إعادة فتحها بصورة مفاجئة أيضًا بعد تدخل رئاسي سريع، تزامن مع تصريحات رسمية أخرى بأن مصانع الشركة نظيفة مثل الأجزخانة.

أدى هذا إلى تكهنات على السوشيال ميديا حول كون "بـ لبن" مشروعًا لغسيل الأموال بسبب صعوده المكوكي، الذي وصل إلى فتح أكثر من مائة فرع في مصر خلال سنة، بالإضافة إلى فتح عشرات الفروع في بلدان عربية أخرى. 

وخلال الأسابيع الماضية أيضًا حصلت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية على رابع حكم قضائي بالتعويض لصالح سكان وادي القمر بسبب تضررهم الصحي من تلوث مصنع تيتان للأسمنت المدار بالفحم، إذ لا تَبعُد وحدة حرق الفحم في المصنع سوى عشرة أمتار عن المنطقة السكنية. ورغم تخطي قيمة الشركة المليار ونصف دولار، فإنها تلكأت كثيرًا في التعويضات بحجة عدم قدرتها على الدفع، وفقًا لبيان المبادرة المصرية.

غالبًا، تدعي "تيتان" أنها غير قادرة على الدفع لتفادي حدوث سابقة تشجِّع على انتشار هذا النوع من التقاضي، خصوصًا وأنها ما زالت تستخدم الفحم وقودًا للمصنع بدلًا من الغاز الطبيعي، مستغلةً الفرصةَ التي منحها إياها تعديل اللائحة التنفيذية لقانون البيئة، الذي سمح في 2015 للمصانع باستخدام هذا الوقود حتى وإن كان المصنع وسط محيط سكاني.

هذان مثالان واضحان على ضَعف كفاءة المؤسسات التنظيمية في مصر، وهو شيء يلمسه كل المصريين، والكثير من سكان بلدان الجنوب العالمي ذات الدخل المنخفض أو المتوسط. يُعتبر الضعف المؤسسي، وما يُطلق عليه الفسادُ، واحدًا من أكبر ألغاز التنمية. لماذا ينتشر في بلدان دون الأخرى؟ وهل الفساد معوق للتنمية، أم أن التنمية المتأخرة هي ما تسمح بانتشار الفساد؟ ولماذا يبدو من أصعب أشكال الأفعال غير القانونية في مواجهته؟

 فاز مؤخرًا اثنان من رواد التيار المؤسَّسي بجائزة نوبل في الاقتصاد. يرى هذا التيار أن المؤسسات تلعب دورًا جوهريًا وسابقًا على التنمية، فالإصلاح المؤسسي شرط مسبق للتنمية، فهو الذي يضمن التعاقدات، ويحمي الملكية الخاصة، وينظِّم الأسواق بكفاءة. تجادل النظرية، على العكس من النظريات النيوكلاسيكية، بأن السوق حالة غير طبيعية تستلزم مؤسسات فعالة لإنشائها ثم إدارتها بالكفاءة المطلوبة. 

انتقد كثيرون هذا الطرح، من بينهم أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة عمرو عادلي الذي أشار إلى تجارب حَدَث فيها نمو كبير وقدْر معقول من التنمية والانتقال الاقتصادي نحو السوق في ظل ضَعف المؤسسات الليبرالية التي يتصورها رواد المدرسة المؤسسية، بل وفي ظل تفشي ما جرى الاصطلاح عليه بـ"الفساد الإداري".

يمثل الاقتصاد غير الرسمي أو الممارسات المخالفة للقانون مثالًا على "فشل" مؤسسات النظام الاقتصادي "الطرفي"

يحاول هذا المقال إلقاء بعض الضوء على بُعد آخر للمسألة، وهو أن الضَعف المؤسسي ليس مجرد خلل فني غير مقصود، بل إنه في ظل النظام النيوليبرالي المعني بالتقسيم الدولي للعمل يصبح ميزةً نسبيةً أو مقارنةً، بحيث يَمنح ضَعف الأطر التنظيمية بعض الصناعات ميزةً تنافسيةً لتصدير منتجاتها، في إطار التقسيم الدولي للعمل المحفِّز على التصدير.

إذا فهمنا "الفساد" في هذا الإطار يمكننا تفسير لماذا تبدو مؤسسات الدولة ضعيفةً وقاصرةً عن مواجهته والحد من ممارساته.

تعميم الهشاشة

يمثل الاقتصاد غير الرسمي أو الممارسات المخالفة للقانون، حتى وإن كانت صادرةً عن مؤسسات رسمية، مثالًا على "فشل" مؤسسات النظام الاقتصادي "الطرفي"، فرغم الحاجة القوية لهذه النظم لإدخال قطاعات واسعة من المعاملات تحت إطار الرسمية حتى تزيد من حصيلة الضرائب واشتراكات شبكة الحماية الاجتماعية، تظل اللا رسمية سِمةً مُهيمنةً على هذه الاقتصادات، وفيما تدّعي مؤسسات التمويل الدولي أنها تساعد على تجاوز هذه المشكلة لا تقضي تدخلاتها على الظاهرة.

ففي العديد من بلدان الجنوب العالمي، منها مصر، يشكل الاقتصاد غير الرسمي نسبةً ضخمةً من النشاط الاقتصادي، ومع ذلك تظل محاولات دمجه في الإطار الرسمي، أي خضوعه للمؤسسات، محدودةً ومتحفظةً. السبب في ذلك لا يعود فقط إلى ضَعف القدرات المؤسسية أو غياب الإرادة، بل لأن بقاء الاقتصاد غير الرسمي في حالته هذه يُعد ميزة مقارنة، إذ يسمح بتخفيض تكلفة العمل، وهي "ميزة" مقارنة علنية تروّج لها بعض البلدان الأقل دخلًا لجذب الاستثمارات، من ضمنها مصر، من خلال عدم الامتثال لقوانين الحدود الدنيا للأجور والعمل بشكل عام أو الشروط البيئية والصحية. 

وتتعمق هذه الصورة أكثر حين نأخذ في الاعتبار الفوارق البيئية والعمالية في الإنتاج المخصص للتصدير من "الأطراف" إلى "المركز". فوفق حساباتي المستندة إلى بيانات قاعدة EEMRIO/قاعدة بيانات المدخلات والمخرجات البيئية والاقتصادية متعددة الأقاليم، فإن كل وحدة مصدِّرة من البلدان "الطرفية" تحمل في المتوسط حمولة بيئية(*) تزيد ثلاثين ضعفًا عن نظيرتها المنتَجة في بلدان المركز، وتستهلك نحو عشرة أضعاف العمل البشري.

هذه النسبة المهولة في استهلاك الموارد والعمل تفرض منطقًا اقتصاديًا صارمًا، وهو ضرورة أن يكون الإنتاج رخيصًا ليبقى قادرًا على المنافسة في السوق العالمية، ولا يتحقق ذلك إلا بعدم فرض قيود بيئية صارمة وعدم تحسين شروط العمل.

عادةً ما تُغفل النظرية المؤسسية في الاقتصاد الوظيفة الجوهرية التي يلعبها التقسيم الدولي في ترسيخ أنماط الفساد

يتجلى ذلك أيضًا في دور النقد الورقي الذي لا يزال يحتل موقعًا محوريًا في الدورة الاقتصادية في هذه السياقات، ليس بسبب ضَعف التكنولوجيا أو مقاومة ثقافية، وإنما بوصفه أداةً لتقليل تكاليف المعاملات العمالية. يُستخدم النقد لتجنب التوثيق، بالتالي لتفادي الضرائب والاشتراكات التأمينية، مما يسهل استمرار العمل غير الرسمي الرخيص.

هذا لا ينطبق فقط على العاملين لحسابهم الخاص أو المشاريع الصغيرة، بل أيضًا على كيانات اقتصادية كبرى تسعى إلى تقليص تكاليف الأجور وزيادة مرونة العمالة. في هذا الإطار، تتحول أنظمة تداول المال نفسها إلى بنى موازية تعزز من بقاء "العمل غير المهيكل"(**) كعنصر أساسي في اقتصاديات الدول الطرفية، وتُعيد إنتاج موقعها في سلاسل القيمة العالمية كأماكن للعمالة الرخيصة.

وحتى في القطاع الرسمي تبقى الأجور منخفضة بسبب سلسلة طويلة من العمل غير الرسمي الرخيص الذي يتيح للعمالة الرسمية خدمات وسلعًا منخفضة الأجر. حتى العمل المنزلي يشكِّل حلقة ربما تكون الأولى في تلك السلسلة، فوجود عمل منزلي مجاني ورعائي للأسرة ضروري من أجل توفير عمل رخيص في السوق، وفي حال غيابه سيتعيَّن على العمال أو الدولة توفير حَضَانات ومربيات للأطفال، وتوفير عمل منزلي مأجور وعدد كبير من الأجهزة المنزلية للمساعدة في إتمام المهام المنزلية، ولعلنا نرى كم يبلغ دخول الفئة القادرة على توفير هذه الخدمات في غياب دعم الدولة، واستحالة إمكانية تعميم تلك الدخول على نطاق واسع بدون تفكيك النظام الاقتصادي والاجتماعي ككل.

الخواص الثلاث للنيوليبرالية

في مقالين سابقين عن تعريف خصائص النيوليبرالية، جادلتُ بأن النيوليبرالية في بلدان المنطقة تجبرنا على إعادة تعريفها بعيدًا عن الفرضيات التقليدية عن تراجع دور الدولة في الاقتصاد وإطلاق قوى التنافس والسوق الحر. ناقش المقال الأول أن من خصائص النيوليبرالية التسليع الاحتكاري، وفي الثاني جادلتُ بأن الخاصية الثانية هي التقسيم "الإقليمي" للعمل.

وفقًا لما سبق يضيف هذا المقال خاصية ثالثة، وهي ما يمكن أن نُطلق عليها "الضعف المؤسسي الموجه"، أي أن المؤسسات لا تضعف بمعنى الفشل أو التآكل، بل يجري تشكيلها وصياغتها بطريقة تجعلها غير قادرة أو غير راغبة في "رسمنة" السوق  وضبطه أو حماية حقوق العمال وضبط سوق العمل، أو ضمان الحد الأدنى من المعايير البيئية. هذا النوع من الضعف المؤسسي هو جزء بنيوي من آليات النيوليبرالية في الأطراف، لا يجب التعامل معه كما هو معتاد باعتباره خللًا طارئًا يمكن إصلاحه ببعض برامج بناء القدرات أو حملات التوعية. 

جزء كبير من مقاومة الاقتصاد غير الرسمي للتنظيم يرجع لكونه جزءًا محوريًا من البنية الاقتصادية والاجتماعية الكلية

ينعكس ذلك في التجربة المصرية بشكل واضح، إذ تشجِّع السياسات على مستويات عالية من التشغيل غير الرسمي الذي زاد باطراد في العقود الأخيرة بالتزامن مع الإصلاحات النيوليبرالية، رغم الجهود المعلنة للسيطرة عليه. يعيدنا هذا إلى مفهوم الميزة المقارنة كما قدمها ديفيد ريكاردو. فرغم مثالية رؤيته للميزة المقارنة والتقسيم الدولي للعمل، من حيث ارتكازها على التخصص بناءً على وفرة الموارد أو المهارات في بلد معين، فإن الميزة المقارنة تتحول في البلدان "الأطراف" وفي سياق النيوليبرالية إلى "عيب مقارن".

جزء كبير من مقاومة الاقتصاد غير الرسمي للتنظيم يرجع لكونه جزءًا أساسيًا بل محوري من البنية الاقتصادية والاجتماعية الكلية، يزوِّد الاقتصاد الرسمي بالبضائع والخدمات الرخيصة ويسمح له بالتجاوز في المعايير الصحية أو البيئية للإنتاج، ويُنتج جيشًا من العاملين بتكلفة منخفضة على الدولة وأصحاب العمل على حد سواء. وهكذا يصبح الاقتصاد غير الرسمي أحد أعمدة النيوليبرالية في الأطراف وليس انحرافًا يجب إصلاحه كما تدّعي دائمًا مؤسسات التمويل الدولية.

عادةً ما تُغفل النظرية المؤسسية في الاقتصاد هذه الوظيفة الجوهرية التي يلعبها التقسيم الدولي للعمل في تشكيل بنية المؤسسات المحلية، وفي ترسيخ أنماط الفساد والضعف المؤسسي. فهي تميل إلى اعتبار ضَعف المؤسسات نتيجة فشل داخلي أو غياب الإرادة السياسية أو حتى تأخر ثقافي، دون الاعتراف بأن هذه السمات ليست خللًا طارئًا، بل تُنتَج عمدًا لتلائم موقع الدولة الطرفية في الاقتصاد العالمي.

المؤسسات في الدول "الطرفية" لا تُولد ضعيفةً بالصدفةِ، بل تُنشأ بطريقة تجعل قدرتها محدودة، بما يخلق بيئة جاذبة لأنماط معينة من رأس المال العالمي الباحث عن هوامش ربح أعلى بتكاليف تنظيمية أقل، خصوصًا في ظل سعي بلدان المركز  لتصدير الأثر البيئي لاستهلاكها المرتفع.

هذا ما يجعل التغيير البنيوي صعبًا، لأنه لا يقتصر على إصلاحات وطنية، بل يتطلب تفكيك علاقات القوة داخل النظام الدولي التي تُعيد إنتاج هذا "الضعف" كميزة تنافسية لا كعائق. 


(*) يُقصد بالحمولة البييئة مستويات التلوث المختلفة التي تنتجها كل وحدة من الصادرات.

(**) العمل غير المهيكل هو العمل غير المسجل الذي لا يخضع لقوانين الضرائب ولا تترتب عليه حقوق تأمينية لأصحابه.