تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
الخلاص لن يكون إلا بجماعة واعية

تحولات الفردانية والعنف| نماذج مضادة لأسطورة النجاة الفردية

منشور السبت 5 يوليو 2025

عندما يفشل يوسف المنسي/عادل إمام في كل محاولاته الفردية لمقاومة عالم الفساد والاستعلاء الطبقي، من رفضه التواطؤ، إلى محاولته حماية عاملة التحويلة غادة/يسرا من رجال النفوذ، يدرك أن العزلة والمقاومة الفردية لا تكفيان وحدهما.

لذلك، ومع أول خيوط الفجر، يخرج المنسي من محطة القطار التي كان يسكنها، إلى الناس ليكون وسطهم، من أجل أن يحموه من القتل في اللحظات الأخيرة.

يمكننا القول إن آثار النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد لا تقتصر على خلق تفاوتات مادية ومعيشية فحسب، بل تمتد إلى إعادة تشكيل الوعي والعلاقات الاجتماعية. إذ نجد أن الفئات المستفيدة من الامتيازات، سواء عبر التعليم أو المنصات الثقافية أو الحركات الاجتماعية نفسها، تميل إلى الانعزال داخل "فقاعات" مغلقة، لتعيد فيها إنتاج رؤاها ومصالحها بمعزل عن القاعدة الأوسع من المجتمع.

هذا الانعزال يجعلها أقل قدرة على إدراك واقع الآخرين أو التواصل معهم، في حين يشعر المهمشون، الذين لا يجدون أنفسهم ممثلين في هذه الخطابات أو السياسات، بحالة من الاغتراب، تفقدهم الثقة في إمكانية التغيير من داخل المنظومة.

حتمية الحل الجماعي

في كتابه الحداثة السائلة، يرد زيجمونت باومان على زعم رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر الذي أشرت إليه في المقال الأول من هذه السلسلة، بعدم وجود شيء اسمه المجتمع بل فقط مجموعة من الأفراد الذين ربما يُشكِّلون عائلات، موضحًا خلل هذه الفكرة إذ تتجاهل أن "الفرد نفسه نتاج شبكة علاقات اجتماعية"، وأن تفكيك المجتمع يؤدي إلى العزلة والأزمات النفسية.

من هنا، تصبح استعادة الفعل الجماعي والتنظيم الاجتماعي ضرورة لا رفاهية. فالفردانية المعزولة، مهما بدت براقة أو منسجمة مع قيم "النجاح الشخصي"، تعجز تمامًا عن التصدي للأزمات البنيوية التي نعيشها: من تدهور التعليم والصحة إلى الكوارث البيئية واللامساواة الصارخة. والرد على هذا الوضع لا يكون بالحنين إلى ماضٍ تضامني مثالي، بل بطرح بدائل عملية تعيد بناء المجال العام كمكان للالتقاء لا للفرقة.

في بيئة تغيب عنها العدالة الاجتماعية، تصبح ريادة الأعمال مجرد غطاء نيوليبرالي للفشل الجماعي

يتطلب ذلك أولًا التغلب على الروح الفردانية بإعادة فتح مساحات الحوار والمجال العام، حيث يمكن للناس أن يلتقوا، يختلفوا، ويتفاوضوا جماعيًا على حلول مشتركة. كما أن وجود سياسات للخدمات العامة قوية، مثل التوسع في الإنفاق على التعليم والصحة العامة، لا يُشكِّل فقط شبكة أمان للمواطنين، بل يعيد خلق إحساس الانتماء الجماعي. كذلك، فإن السياسات التي تحد من الفجوات الطبقية والمناطقية لا تساهم فقط في ترسيخ العدالة، بل تعيد تأسيس التضامن كجزء من الحياة اليومية.

أما على مستوى العمران، فلا بد من تبنِّي سياسات عمرانية دامجة، تُصمم المدن على أساس الاختلاط لا العزل، وعلى خلق مساحات مشتركة بدلًا من الأسوار الفاصلة. وأخيرًا، فإن الترويج لثقافات التعايش والعمل الجماعي في الإعلام والمدارس والمؤسسات، هو ما يصنع ملامح شخصية مجتمعية بإمكانها أن تستعيد قدرتها على الحلم والفعل معًا.

هكذا، لا نرد فقط على الكارثة، بل نبدأ فعليًا في تفكيك جذورها. وهنا، يصبح من الضروري كمدخل تفكيك النماذج الذي يُروّج لها هذا الفكر كحل فردي للنجاح، مثل مفهوم ريادة الأعمال/entrepreneurship، الذي أصبح غاية ومقصد الإعلام والممولين، بل أصبحت بعض الدول النامية تراه مخرجًا للأزمة الاقتصادية، بتطوير فكرة المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر التي لم تنجح في إخراج هذه الاقتصادات من عثرتها من قبل.

يتجاهل هذا النموذج الذي يُصوِّر النجاح كإنجاز فردي منعزل، تعقيدات الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ويعيد إنتاج أوهام النجاة الفردية.

ففي بيئة تغيب عنها العدالة الاجتماعية، تصبح ريادة الأعمال مجرد غطاء نيوليبرالي للفشل الجماعي في خلق فرص عادلة. وهذا ليس كلامًا مرسلًا، فعلى سبيل المثال في تجارب أمريكا اللاتينية التي أشرت لها في المقال الرابع من هذه السلسلة، تمكن لولا دي سيلفا في فترته الرئاسية الأولى (2003-2010)، من إنجاز تحول اجتماعي واقتصادي كبير في البرازيل.

طبَّق دي سيلفا سياسة أعاد بها توزيع الدخل عبر نظام ضريبي تصاعدي، زادت حصة الضرائب على الشركات الكبرى من 16% إلى 27.5% ، مما ساهم في تمويل البرامج الاجتماعية. وكان برنامج "بولسا فاميليا" الأبرز، الذي خفض معدل الفقر من 35% إلى 15%، وقلص معامل جيني الذي يقيس التفاوت في توزيع الثروة من 58% إلى 53%.

أدت هذه السياسات إلى نتائج إيجابية في مجال الأمن، مع انخفاض جرائم القتل في الولايات الفقيرة مثل باهيا بنسبة 22% بين 2003-2010، ما ربطه تقرير أممي صدر عن UNODC ببرامج الإدماج الاجتماعي.

كتلة جنوبية واحدة

استقبال حافل لجمال عبد الناصر لدى وصوله إندونيسيا، للمشاركة في مؤتمر باندونج الذي شكَّل لاحقًا نواة حركة عدم الانحياز. 17 أبريل 1955

كما قال يقول ثيودور أدورنو في كتابه جدل التنوير "في ظل الرأسمالية، حتى المشاعر الإنسانية تُختزل إلى سلع... الفردية التي تُباع لنا هي مجرد قناع للاستغلال".

وفي سياق منطقتنا العربية، حيث شبكات الحماية الاجتماعية الرسمية هشة أو منعدمة، تضع الرأسماليةُ الأفرادَ في مواجهة بعضهم البعض، دون أن تقدم أي أفق لتعاون أو تضامن حقيقي. ويكون التضامن الأهلي والشبكات المجتمعية غير الرسمية هي الضامن الأساسي للاستقرار.

هذه الروح التضامنية تتناقض تمامًا مع قيم الفردانية، التي تدمِّر الأسس القليلة المتبقية للتماسك الاجتماعي.

على مستوى أوسع، يؤكد العدوان المستمر على غزة هذا المعنى. فرغم محاولات الترويج للانعزالية والانغلاق داخل الحدود المسورة أو حدود الدولة الوطنية، انعكس صدى الإبادة في غزة بقوة في باقي دول المنطقة، ليكشف استحالة الانعزال في عالم مترابط سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

فحتى الدول التي لم تنخرط في المواجهات تأثرت بشدة اقتصاديًا أو سياسيًا. في مصر، شهدت الحدود في رفح حالة من التوتر الشعبي والدولي، وتزايد الضغط الداخلي على الدولة للمساهمة في إدخال المساعدات أو التفاعل السياسي مع العدوان، الذي أثّر بدوره على حركة التجارة في سيناء، وعلى موارد السياحة في جنوب شبه الجزيرة، التي تراجعت بفعل المخاوف الأمنية.

في الأردن أو المغرب مثلًا، ظهرت ردود فعل اجتماعية قوية على شكل مظاهرات أو حملات مقاطعة اقتصادية، ما يثبت أن الرأي العام لم يعد محكومًا بالجغرافيا الضيقة. هذه الموجات تؤكد فشل خطاب "النجاة الفردية" أو الانعزال الوطني، لأن الفعل السياسي والعنف الممنهج يتجاوزان الحدود.

إذا وسّعنا الدائرة أكثر، فسنجد أن هذه الأزمة ليست محليةً أو إقليميةً فحسب، بل إنها تجلٍّ لأعطاب البنية الرأسمالية العالمية ذاتها. فالنظام الذي ينتج الكمباوندات الفاخرة في القاهرة، هو ذاته الذي يصنع "المجتمعات المسوّرة" في مكسيكو سيتي، و"الأحياء الآمنة" في جوهانسبرج. وهذه ليست مصادفة، بل نتيجة حتمية لعقود من السياسات الرأسمالية.

وعليه، سنكتشف أن ما نواجهه اليوم ليس مجرد أزمة محلية أو إقليمية، بل هو في جوهره انعكاس لأزمة عميقة في النظام الاقتصادي العالمي. لقد أصبحنا أمام واقع يُظهر كيف يتسع التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الشمال والجنوب بشكل متسارع.

يشهد العالم اليوم نمطًا من الهيمنة الرأسمالية التي تُركِّز الثروات في يد قلة، بينما تُجبر شعوب الجنوب على مواجهة تبعات هذه السياسات الظالمة التي لا تراعي حقوق الإنسان أو العدالة الاجتماعية. لذلك، نحن في حاجة ماسة إلى بناء كتلة جنوب عالمية موحدة، قادرة على مواجهة هذه الهيمنة الرأسمالية، ومن خلال ذلك الدفاع عن مصالح شعوبنا وحقوقها في التنمية والعدالة الاقتصادية.

وفي نهاية المطاف، يمكننا القول إن أبراج الفردانية العالية التي يبنيها البعض، لن تلبث أن تتحول إلى سجون تجعل السقوط أكثر إيلامًا في مواجهة الزلازل الاجتماعية. فلا نجاة فردية. فكما أن التهميش صناعةُ منظومةٍ، فإن الخلاص لن يكون إلا بجماعة واعية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.