في مصر المعاصرة، لا يمكن لوم من يبحث عن نجاته الفردية خاصة ونحن نتحدث عن أجيالٍ تفتَّح وعيها على واقعٍ تتهشم فيه كلُّ المحاولات الجماعية أو العمومية لتحسين شروط الحياة، سواء لأسباب ذاتية في هذه المحاولات أو لإفشالها بالقوة القاهرة. هذه الأجيال لها الكثير من الحق في تجنُّب أذى الطغاة ومصائر من حاولوا وفشلوا قبلهم؛ ربما مع بعض الشفقة عليهم أو الغضب من إخفاقهم.
الحلُّ الجماعيُّ أصبح شديد الصعوبة ويبدو مستحيلًا للكثيرين، فهو محفوف بأنواعٍ من المخاطر لا تضمن نجاة الفرد منها إمكانية التطبيق المادي لتصوراته العامة التي يصبو إليها ويضحي من أجلها. فهذا الأمر يتطلَّب إجابة عشرات الأسئلة الفلسفية والسياسية والاجتماعية الصعبة، التي أثناء تراكمها تكاسلت وتخاذلت أجيالٌ وأجيالٌ عن الاشتباك بجدِّيةٍ معها، حتى أضحت المشكلات المصرية تبدو وكأنها عصية على أيِّ حل.
لكنَّ الأمانة تقتضي القول بأنه إذا كانت النجاة الجماعية شديدة الصعوبة إلى حدود الاستحالة، فالنجاة الفردية هي المستحيل بعينه في عالمنا المعاصر وفي منطقتنا بالذات، إلا ربما باحتمالات قليلة جدًا لن تشكِّل في ضآلتها أكثر من نسبة شديدة المجهرية من العدد الكلِّيّ للبشر الذين يتصور كلُّ فردٍ منهم في نفسه القدرة على تحقيقها.
ازدهار البلاهة المجرمة
النجاة الفردية بالمعنى الواقعي ممكنة حال تحققها الحرفي، أي كونها نجاةً لا نجاحًا. وستعني فعليًا أن يتخلى الإنسان عن معظم أحلامه وتصوراته عن التحقق المُرضي، لصالح تفعيل خاصية البقاء والقبول بالحدود التي قسمتها له الأقدار، وهذا ما يعيشه أغلب الناس هذه الأيام بمزيج من الرضا والخدر.
لكن في هذه الأزمنة بالذات، تكثر وتتكاثر خطابات الجربعة الفردانية التي لا تستند إلى أيِّ مقومات مادية لتحويل مفرداتها إلى واقع ممكنٍ ومعاشٍ. ويزداد انتشار هذا النوع من الخطابات كلَّما اشتدت الحاجة المادية إلى النجاة الجماعية.
تُلقي هذه الخطابات باللائمة على الإنسان الفرد، وتُحمِّله منفردًا مسؤولية مصيره دون النظر إلى الشروط التي تشتمل عليها مفردات حياته. وفي أوقات الشدِّة تذهب إلى مستويات تمزج داخلها البلاهة بالإجرام باللا معقولية، إلى حدٍّ يطالب فيه نصابو التنمية البشرية الشبابَ بالعمل 16 ساعةً يوميًا إذا أرادوا تحقيق أهدافهم، بل بلغ الأمر بشخص يعمل في مجال كرة القدم أن يفخر بعدم حضور غُسل أبيه الميت لأنه كان مشغولًا في العمل.
وتعلو نبرة الفخر بهذه الخطابات المنحطة أكثر كلَّما كان الفقر مدانًا ومحكومًا على المسحوقين تحت وطأته بالإهانة والتكدير. وبينما تتحول إمكانات الترقي الاجتماعي إلى سرابٍ عبثيٍّ، وفي الوقت الذي تقترب فيه الغالبية فعليًا من حواف الفقر، تنهال سياط الوعود على ظهورهم التي تعدهم بتجنب هذا المصير وهي تدفعهم نحوه دفعًا.
جانب آخر من الصورة ينبغي الإشارة إليه؛ وهو أن خطابات لوم الإنسان الفرد على عدم كفاية سعيه إلى الترقي والنجاح لا تختلف في جوهرها عن المتلازمة الدائرية التي صنعتها التيارات الدينية باختلاف أنواعها تحت شعار "ابدأ بنفسك"، حيث الملامة الدينية وإرساء الشعور بالذنب هما مفتاح عدم تحديد المسؤوليات وأنصبة الأطراف منها، الفرد مخطئ بل خطَّاء، والقوة العليا لا ترضى عنه. يمكن أن تكون القوة العليا هي الآلهة، وفي زمننا هذا الإله ليس آمون رع، بل السوق الرأسمالية، وسلاح من يحمون مصالحه.
يمكن أن نجد مصدرًا مؤسسًا لهذا الخطاب في التصورات البروتستانتية الإنجليزية والألمانية ثم الأمريكية عن العمل والنجاح والإيمان والأخلاق السليمة، وهي التصورات التي انتقلت إلى الخطابات الدينية الأخرى حول العالم مع تطور النمو الرأسمالي فيه.
2008 مرة أخرى
كإنسان مخضرم في سوق العمل العالمية بين مصر وأستراليا وإنجلترا والولايات المتحدة، عاصَرَ الأزمة المالية في 2008، يمكنني القول بأنني عشت عالمين؛ لأن عالم ما قبل هذه الأزمة يختلف عن الذي تلاها، على مستوى ترويج مخدرات التنمية البشرية على أوسع نطاق، في جميع المستويات الطبقية حول العالم.
في زمن المخدرات يمكن أن يقف أحد النصابين مخاطبًا آلاف الضحايا ليقول لهم: أنتم الاستثناء
قبل الأزمة وامتدادها، لم تكن الخطابات مجرَّدة على طريقة "اجري ورا حلمك"، فمن أراد الصعود والترقي كان يعرف أغلب العناصر التي يحتاجها ليحقق أهدافه، وبأيِّ ثمن، وفي أي مدىً زمنيٍّ. في مكان مثل مصر، كانت تلك العناصر هي إجادة لغة أجنبية، والقدرة على استخدام الوسائط الإلكترونية بمهارة، والأهم هو اكتساب مهارات العمل الاحترافي وأخلاقياته.
في النهاية، كان المطلوب من الإنسان الفرد مُحدّدًا ومُمكنًا، والوعود المُقدَّمة له كذلك؛ لن تصبح مليونيرًا، لكنك ستكون موظفًا ناجحًا قادرًا على استشراف شكل حياته بعد عشر سنوات.
أما عالم ما بعد 2008، اتخذت هذه الخطابات منحنىً واضحًا نحو الهلوسة، وأصبحت خطابات "النجاح" تشبه طقوس السحر التي يجب وأن ترافقها نزعات إيمانية. لم نعرف في السابق مصطلحًا اسمه "ريادة الأعمال" ولم يكن مُتصوَّرًا تسويق فكرة أنَّ إنسانًا بإمكانه من اللاشيء أن يصبح كلَّ شيء.
"ريادة الأعمال" في عالم ما قبل الهلوسة كان اسمها المشروع الرأسمالي العادي والطبيعي، الذي يُشترط لنجاحه توفُّر عناصر التمويل واليد العاملة الماهرة ودراسة الجدوى الدقيقة والخبرة السابقة في المجال، وقبل كل شيء رأس المال نفسه.
أي ببساطة؛ ما لم تكُن خلَّاقًا ومبدعًا لما هو جديد تمامًا، فعليك أن تكون غنيًا استثمر أهلك الأثرياء فيك على المستوى المعرفي والتراكمي لتحقق هذه الأهداف، ليس هناك أي جديد في الأمر باستثناءات قليلة. لكن في زمن المخدرات، يمكن أن يقف أحد النصابين مخاطبًا آلاف الضحايا ليقول لهم: أنتم الاستثناء.
وردت إلينا خطابات الفردانية في مستوياتها العميقة والتافهة من الولايات المتحدة بشكل أساسي. لكنْ في السياق الأمريكي، فمنطقُ النجاة الفردية محمولٌ على عددٍ من الحقائق المادية الداخلية، التي لا يمكن أن يغفل عنها أحدٌ بقليل من التفكير والتأمل.
من بين هذه الحقائق الوفرة غير المحدودة للموارد، وأيضًا شيوعها لمن يستطيع الاستيلاء عليها بالقوة أو الذكاء أو الحيلة أو المال، وهذا يعود بنا إلى طبيعة الولايات المتحدة كاستعمارٍ استيطانيٍّ إحلاليٍّ إباديٍّ، وإمبرياليةٍ عسكريةٍ تفرض شروطها بالقوة والقسر. معها، تصبح الحرية مرادفًا لمبدأ البقاء للأقوى الأصلحِ الأذكى. بالتالي، فإن التعاقد الحر والقانوني بين الأفراد هو تعاقد بين الأقوياء القادرين من النوع ألفا، غرضه منع اندفاع صراعهم إلى حدود بربرية، أي أنه في التحليل الأخير تنظيمٌ للشراسة.
والسؤال هو، كيف تسرَّبت إلى وادينا الطيب المسكين هذه القناعات وسكنت وجدان بشر لا يعرفون حدودًا غير مصر وسوقها ونمط الحياة فيها؟ في قولٍ آخر؛ مالك أنت يا جربوع ومال الكلام ده كله؟
يمكنني القول بأن محور علاقة الولايات المتحدة بمستعمراتها هو الضلال والتضليل، فمثلما لا يعرف السواد الأعظم من الأمريكيين شيئًا عمَّا يحدث خارج بلادهم، لا يعرف أغلب الخاضعين للسحر الأمريكي، برضاهم أو قسرًا، شيئًا مِمَّا يجرى داخل الولايات المتحدة، ولا عن الديناميكيات والشروط المحلية والتاريخية التي أنتجت الخطابات التي صُدِّرت لهم.
النجاة الفردية الوحيدة والممكنة للسواد الأعظم من الناس هي النوم والموت. يقضي كثيرون جزءًا معتبرًا من أوقاتهم لإثبات أن الفردية هي الحل، والكوميدي في الأمر أن أغلب من يتحدثون بهذا اللسان غير متحققين في حياتهم إلا بقدر ترويجهم لهذه الضلالات، ذلك أن الفردية الحقيقية لا تحتاج إلى دعوة وهي ليست رسالة، وتتطلب أولًا ألَّا تضيع وقتك في ترويجها.