الحراك السياسي الذي يملأ جيوب الفقراء
يؤكد الخطاب الرسمي في مصر، في كل مناسبة، على تبني السلطات مفهومًا شاملًا لحقوق الإنسان، لا يختزلها في الحقوق المدنية والسياسية، لكنه يضع أيضًا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على رأس أولوياته.
الخطاب السابق ترفعه السلطة في وجه كلّ انتقاد لأوضاع حقوق الإنسان، أو أي مطالبات بإطلاق سراح سجناء الرأي، أو رفع الحجب عن المواقع الصحفية، معتبرة بذلك أن الحريات السياسية والمدنية يمكن إرجاؤها، حتى تتمكن من استيفاء الحقوق الاقتصادية.
لم يوضح الخطاب الرسمي في أي وقت طبيعة التعارض بين المجالين، ولماذا يجب وضعهما في مواجهة بعضهما؟ كذلك الفصل بين الحقوق والحريات المدنية من جانب والحقوق الاقتصادية من جانب آخر، يرتبط بفهم الحريات السياسية كشأن خاص بالنخب السياسية فقط، التي تمثل أقلية بطبيعة الحال، أمّا القطاعات الواسعة فالأولوية لديها للغذاء والصحة والسكن والتعليم.
لا يحمل هذا التصور نظرة متعالية تحصر اهتمامات الناس في الاحتياجات الأساسية، وتخص النخب بقضايا الحريات والعمل العام فحسب، لكنّه يعكس أيضًا الطابع الأبوي للسلطة، التي تمنح نفسها صلاحية تحديد أولويات الرعية، والأهم من ذلك، يتعامل التصور مع الحريات السياسية بوصفها كماليات لاستيفاء الشكل الديمقراطي.
وجهان لعملة واحدة
الواقع أن أيّ محاولة للفصل بين الحريات السياسية والحقوق الاقتصادية، ليست سوى محاولة للقضاء على الاثنين معًا، فالحريات المدنية من أدوات الوصول للحقوق المجتمعية، بالتالي مصادرة هذه الأدوات لا يمكن أن تعني إلا تكريس الأوضاع القائمة اقتصاديًا واجتماعيًا، وربما المزيد من التدهور فيها.
الحريات السياسية، مثل حريات التنظيم والتعبير والاحتجاج وغيرها، ترتبط على نحو مباشر بالأجور والصحة والتعليم والسكن. فبدون حرية التنظيم مثلًا لن تكون هناك نقابات ممثلة لعمال تتفاوض على الأجور وشروط العمل، ولن يكون هناك اتحاد ممثل للطلاب، ولن يكون هناك اتحاد للفلاحين، ولن تكون هناك أحزاب قادرة على التكتل في المؤسسات التمثيلية لمناقشة السياسات الاقتصادية والاجتماعية وطرح مطالب المجتمع.
ودون حرية الرأي والتعبير، لن يكون هناك إعلام مستقل، ودون حرية الاحتجاج لن تكون هناك إضرابات أو اعتصامات أو مظاهرات تطالب بأجور عادلة وتحسين أوضاع الصحة والسكن والتعليم.
موجات قوية
لا يتعلق الأمر هنا بمجرد استنتاجات أو تحليل نظري، لكن يمكن أن نتلمسه فيما تحقق بالفعل في على أرض الواقع خلال السنوات الماضية، فالتحسن في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ارتبط على نحو مباشر بحرية الحركة في المجال العام والعمل الجماعي والقدرة على الاحتجاج.
ويمكن أن نقيس ذلك عمليًا بمراجعة معدلات الأجور بوصفها المؤشر الأهم على تحسن مستويات المعيشة، خاصة عند مقارنتها بمعدلات التضخم، وكذلك النقيض، أيّ ارتباط التراجع في الحريات بتراجع الأجور وارتفاع معدلات الفقر.
وبحسب الجدول المرفق لبيانات الأجور ومؤشرات التضخم من 2006 حتى 2019 التي وردت في بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد شهد عام 2008 أعلى زيادة في متوسط الأجور في القطاعين العام والخاص، وارتفع من 252 جنيهًا أسبوعيًا في 2007 إلى 329 جنيهًا أسبوعيا في 2008، بزيادة نسبتها 30.5%، ورغم أن معدل التضخم ارتفع من 10.9% إلى 11.7% عامي 2007 و2008 على التوالي، وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي، فإن الزيادة في الأجور تبقى حقيقية بنسبة معتبرة.
السنة | متوسط الأجور الأسبوعية بالجنيه | نسبة الزيادة في متوسط الأجور عن العام السابق | معدل التضخم |
---|---|---|---|
2006 | 229 | 0 | 4 |
2007 | 252 | 10 | 11 |
2008 | 329 | 31 | 12 |
2009 | 362 | 10 | 16 |
2010 | 439 | 21 | 12 |
2011 | 534 | 22 | 11 |
2012 | 641 | 19 | 9 |
2013 | 761 | 19 | 7 |
2014 | 806 | 6 | 10 |
2015 | 879 | 9 | 11 |
2016 | 942 | 7 | 10 |
2017 | 1050 | 12 | 24 |
2018 | 1104 | 6 | 21 |
2019 | 1283 | 16 | 14 |
الملاحظة الأوضح هنا أن عامي 2007 و2008 هما العامان اللذان شهدا إحدى أقوى موجات الحركة العمالية في مصر، بحسب تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية لعام 2013 الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
وبلغت الاحتجاجات العمالية 692 احتجاجًا في 2007، مقابل 222 في 2006، ورغم أن عام 2008 شهد تراجعًا نسبيًا في عدد الاحتجاجات إذ بلغت 447، إلا أنه شهد انتفاضة المحلة في أبريل/نيسان 2008، التي مثلت أهم نقطة التقاء بين الحركة الاجتماعية والعمالية من جهة، وحركة الإصلاح الديمقراطي من جهة أخرى.
و2008 هو أيضا العام الذي شهد ميلاد التنظيمات النقابية المستقلة التي انبثقت من قلب الإضرابات العمالية، بعد نصف قرن من السيطرة المطلقة على التنظيم النقابي الرسمي من قبل السلطة، وكان أولها النقابة المستقلة لموظفي الضرائب العقارية.
لا يعني هذا بالمرة أن نظام مبارك كان أكثر تسامحًا مع الحريات المدنية، ففي ظلّ ذلك النظام أُطلق الرصاص على إضرابات العمال وسقط الضحايا في مظاهرات الطلاب فضلًا عن سياسات الطوارئ التي لازمت حكم مبارك لثلاثين عامًا.
زيادة حقيقية
الأمر نفسه ينطبق على السنوات التالية كما في الجدول، فباستثناء عام 2009 الذي يمكن إرجاع انخفاض معدل ارتفاع الأجور فيه إلى الزيادة الكبيرة في العام السابق، فقد كانت معدلات الزيادة في الأجور مرتفعة نسبيًا، ومتجاوزة لمعدلات التضخم.
أي أن الزيادة كانت حقيقية في الأعوام التي اتسعت فيها الحركة في المجال العام، والتي شهدت حرية أكبر في التعبير والاحتجاج وبناء التنظيمات المستقلة سواء النقابية أو السياسية. وبما أن أعوام 2011 و2012 و2013، كانت الأكثر انفتاحًا في المجال العام، فقد شهدت معدلات زيادة في الأجور مرتفعة؛ 21.6٪ و18.7٪ و18.7٪ على الترتيب، مقابل معدلات تضخم أقل 11.1٪ و8.9٪ و6.9٪ على التوالي.
الحرب على اﻷجور
حريات التعبير والاحتجاج والتنظيم، ساهمت على نحو مباشر في زيادة الأجور الحقيقية، وحصول ملايين العمال في مصر على بعض من حقوقهم، وهو ما حدث عكسه تمامًا في سنوات الانغلاق.
عقب 2013 بدأ المجال العام في الانغلاق تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، ومع صدور قانون التظاهر أصبح أي احتجاج يقع تحت طائلة القانون، مما انعكس مباشرة على الأجور. وبحسب الجدول المرفق، كانت معدلات الزيادة في الأجور باستثناء عام 2019، منخفضة على نحو واضح وقياسًا لمعدلات التضخم، أي أن السنوات التي شهدت تراجعًا في الحريات السياسية والمدنية شهدت أيضا تراجعًا في الأجور.
مصادرة الحريات السياسية بعد 2013 لم تكبح فقط زيادة الأجور، لكنها أطلقت أيضًا يد السلطة فيما أسمته بـ"الإصلاحات الاقتصادية"، التي تضمنت زيادة الضرائب على الاستهلاك (ضريبة القيمة المضافة) وخفض الدعم على الكهرباء والوقود وغاز المنازل، إلى أن وصلت لإلغاء الدعم بالكامل على بعض الخدمات.
وبدأ ذلك مبكرًا عندما أعاد الرئيس عبد الفتاح السيسي الموازنة العامة للدولة عام 2014 إلى الحكومة بعد إقرارها لجعلها "أكثر تقشفًا"، وهو ما كان يعني أعباء جديدة على الفقراء، وبالطبع لم تخالف الحكومة إرادة الرئيس.
"ليس للمواطن شيء"
الحقيقة أن مصادرة الحريات السياسية والمدنية في السنوات الماضية، انعكس أثرها على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بسرعة فائقة. في 2017- 2018، قفز معدل الفقر في مصر إلى 32.5٪، ما يعني أن واحدًا من كل ثلاثة من المصريين أصبح تحت خط الفقر، قبل أن تتراجع النسبة في 2019- 2020 إلى 29.7٪، ربما كانت هذه هي الترجمة الأكثر وضوحًا للمفهوم الشامل لحقوق الإنسان والتمييز بين الحريات السياسية والحقوق الاقتصادية.
لكن الأمر يبدو أكثر صراحة عند النظر للتجارب المباشرة، ففي مايو/ أيّار عام 2018 قررت الحكومة المصرية رفع أسعار تذاكر المترو، بنسب تجاوز بعضها الضعفين، ولتطبيق القرار اضطرت الحكومة لنشر قوات أمنية، وإلقاء القبض على المعترضين، بل والقبض استباقيًا على أي معارضين محتملين للقرار.
هكذا يمكن فهم الرؤية الشاملة للحقوق الذي تقدمها السلطة في خطابها الرسمي، لأن حقوق الإنسان بالفعل منظومة شاملة لا يمكن استبعاد أحد جوانبها إلا عبر هدمها كليًا، ولا يمكن مصادرة الحقوق الاقتصادية إلا بعد نزع أدوات التعبير والاحتجاج، ولا يمكن التساهل مع الحريات المدنية طالما استمرت سياسات التقشف وتحميل الفقراء أعباء الأزمة.
إن صفقة الخبز مقابل الحرية التي يعبر عنها ضمنًا الخطاب الرسمي، تعني في واقع الأمر أن السلطة لن تقدم أي شيء لا في السياسة ولا في الاقتصاد، فمن تعنيه حقًا الحقوق الاجتماعية، لن يحتاج لمصادرة الحريات.