
نضال العيش الكريم.. عصا الشرطي في يد صاحب العمل
"دي مش أول مرة عندنا، دا يمكن أول مرة في تاريخ الحركة العمالية المصرية كلها"، هكذا يصف القيادي العمالي بشركة وبريات سمنود هشام البنا، القبض على أربع عاملات ضمن تسعة عمال ألقي القبض عليهم في أغسطس/آب الماضي على خلفية مشاركتهم في إضراب عن العمل للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور.
ما حدث مع البنا، الذي كان واحدًا من العمال التسعة المقبوض عليهم، وآخر من أُفرج عنه، وما حدث مع زملائه وزميلاته نموذجًا لما يتعرض له العمال في السنوات الأخيرة ضمن محاولات النظام السيطرة على الحركة العمالية، وتعبيرًا عن "مناخ قمعي" يعيشه العمال.
ووفق تقرير نشرته دار الخدمات النقابية، وهي منظمة مستقلة معنية بالدفاع عن حقوق العمال، بعنوان "عمال في دوامة الأزمة"، نهاية العام الماضي، تعد ملاحقة وعقاب العمال النشطين أو القيادات النقابية أداة رئيسية لتطويعهم وإرهابهم.
كما لفت التقرير إلى استخدام أداتي الحبس والفصل في قمع أي محاولات للتنظيم أو التعبير عن المطالب، بهدف "خلق مناخ من الخوف والتهديد يعوق أي تحرك من أجل التغيير".
لا يقتصر الدور الأمني على قمع الإضرابات وتهديد العمال والقبض عليهم بل يمتد أيضًا إلى السيطرة على تأسيس النقابات واللجان النقابية
يوضح هشام لـ المنصة إلى أن استخدام الحل الأمني مع الاحتجاجات العمالية هدفه "تخويف الناس، وطبعًا نجحوا في ده جدًا"، ويحكي وقائع القبض عليه "فجأة لقيت قوة أمنية كبيرة قدام بيتي بيخبطوا على الباب بعنف، فتحت لهم وطلبت بس أغير هدومي رفضوا وأخدوني قدام عيالي وأنا مش قادر أعمل حاجة.. العمال لما تسمع الكلام ده مش هتمشي جنب الحيط، لأ، دي هتمشي جوه الحيط".
رواية هشام البنا للقبض عليه لا تختلف كثيرًا عن تلك التي نقلها تقرير دار الخدمات النقابية لوقائع القبض على عاملات وبريات سمنود، إذ ينقل عن إحدى العاملات ما سمعته من أنباء عن القبض على زميلاتها "الأمن هجم على بيوتهم في الفجر وقبضوا عليهم بملابس النوم".
لكن ترهيب العمال المشاركين في إضرابات لم يكن وحده ما ميَّز هذا العام، بل "الأمور تسير من سيء إلى أسوأ" بحسب وزير القوى العاملة الأسبق كمال أبو عيطة، لافتًا إلى مجموعة من الأدوات تستخدمها السلطة للسيطرة على العمال ومنعهم من تكوين تنظيمات نقابية تعبر عنهم وتدافع عن مصالحهم، مشيرًا إلى أن كل ما نجح العمال في تحقيقه حتى قبل ثورة 25 يناير يُسحب بالكامل منهم الآن.
ورغم محاولات الحكومة احتواء غضب العمال من خلال إلزام القطاع الخاص بتطبيق قرارات الحد الأدنى للأجور، التي تتغير بوتيرة متسارعة، في السنوات القليلة الماضية،، فما زال بإمكان أصحاب الأعمال التحايل على القرارات الحكومية، مثل ما حدث داخل شركة وبريات سمنود، إذ اكتفت الإدارة بتطبيقه على مشرفين وموظفين، وتجاهلت باقي العمال والعاملات. سجل الحد الأدنى 2400 جنيه في يناير/كانون الثاني 2022، ووصل إلى 7000 جنيه في فبراير/شباط 2025.
الانتهاكات للسيطرة
حسب أبو عيطة، تستخدم الحكومة أجهزتها الأمنية لقمع أي محاولة للعمال لتنظيم أنفسهم، لافتًا إلى أنه شخصيًا شاهد على استدعاءات شبه دورية لقيادات عمالية ونقابية من أماكن مختلفة إلى مقرات الأمن الوطني وتهديدهم بالحبس والتشريد إذا لم يتوقفوا عن نشاطهم النقابي "أقسم بالله.. أقسم بالله يتم التعامل معهم كأنهم إرهابيين بل أعتقد أقسى من الإرهابين".
ووفقًا لتقرير الانتهاكات التي تعرض لها العمال في 2024 فهناك 32 حالة تقييد للحرية بالسجن، و7000 تهديد بالأمن الوطني، و510 استدعاء شرطة أو تحرير محضر شرطة، و50 استدعاء أمن وطني وتهديد بالاعتقال.
ولا يقتصر الدور الأمني على قمع الإضرابات، وتهديد العمال والقبض عليهم، بل يمتد أيضًا إلى السيطرة على تأسيس النقابات واللجان النقابية.
ويشير أبو عيطة إلى واقعة حدثت في محافظة بني سويف أثناء محاولات تأسيس النقابة العامة للعاملين بالضرائب العقارية، في عام 2016.
"مدير مديرية القوى العاملة رفض استلام أوراق تأسيس اللجنة النقابية، فالزملاء كلموني وطلبوا إني أتدخل، وكلمت الوزير وقتها محمد سعفان، فقال لي قول لهم يروحوا بكرة الصبح يسلموا الورق، راحوا تاني يوم لمدير المديرية فعلًا، لكنه رفض استلام الورق وقال لهم أنا عارف إن كمال أبو عيطة كلم الوزير سعفان بس أنا ما باخدش أوامري لا من ده ولا من ده، أنا من الآخر باخد الأوامر من الأمن الوطني".
وتنص المادة 76 من الدستور على أن "إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي حق يكفله القانون. وتكون لها الشخصية الاعتبارية، وتمارس نشاطها بحرية، وتسهم في رفع مستوى الكفاءة بين أعضائها والدفاع عن حقوقهم وحماية مصالحهم. وتكفل الدولة استقلال النقابات والاتحادات، ولا يجوز حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي، ولا يجوز إنشاء أي منها بالهيئات النظامية".
الحبس لقمع العمال
بحسب بيان نشرته دار الخدمات النقابية، في يونيو/حزيران الماضي ضمن حملتها "الحق في التنظيم النقابي"، تعمل الحكومة على إخراس الأصوات النقابية والعمالية عبر مجموعة من الانتهاكات من بينها عرقلة انتخابات النقابات المستقلة، وتعطيل عملها بالضغط أمنيًا على قياداتها، وإيقاف حساباتها البنكية، وحل النقابات أو دمجها والاستيلاء على مقراتها.
ومن بين النقابات التي تعرضت لهذه الانتهاكات، اللجنة النقابية للعاملين بأندية هيئة قناة السويس، التي شُكلت في 12 فبراير 2012، عقب بيان الحريات النقابية الذي أطلقته وزارة القوى العاملة والهجرة وقتها.
وفي 2018 وفقت النقابات أوضاعها وفقًا لقانون المنظمات النقابية وحماية حق التنظيم النقابي رقم 213 لسنة 2017 ولائحته التنفيذية بتاريخ 29 مارس/آذار 2018.
وحسب رئيس اللجنة كرم عبد الحليم لـ المنصة وفقت اللجنة أوضاعها في مارس 2018 وفقًا للقانون الجديد، إلا أن أعضاء اللجنة تعرضوا لضغوط أمنية كبيرة في انتخابات 2022 ومُنعوا من الترشح، ما تسبب في تعطّل إجراء الانتخابات، وهي أزمة واجهتها منظمات نقابية أخرى.
وتابع عبد الحليم أصدرت وزارة العمل منشورًا حمل رقم 1061 لسنة 2022، سمح بتشكيل لجان لتسيير أعمال النقابات التي لم تجر فيها انتخابات. بناءً عليه، منحت الجمعية العمومية للجنة الثقة لمجلس إدارتها الحالي، والذي بدوره تواصل مع مسؤولي وزارة العمل لتأكيد صحة الإجراءات، والسماح لهم بتقديم الوثائق إلى مديرية العمل بالإسماعيلية. لكن المديرية رفضت استلام الأوراق.
ويكمل "تقدمنا بمذكرة إلى الوزارة في 24 سبتمبر/أيلول 2023 ولم يتم الرد علينا، وفوجئنا في مارس 2024، بالمديرية تبلغ إدارة النوادي بعدم الاعتراف بمجلس اللجنة، وأرسلت تحذيرًا رسميًا لي، وأوقفت إدارة النوادي توريد اشتراكات النقابة التي تم خصمها من العاملين، وبالتالي أصبحت النقابة بلا موارد ما أوقف أنشطتها، وردت اللجنة بمذكرة إلى وزير العمل في 6 مارس، لكنها لم تتلقَ أي رد حتى الآن، ولجأنا للقضاء في محاولة لإلغاء القرار وما زالت القضية منظورة".
للصبر حدود
الخوف الذي يحكي عنه هشام البنا، يراه كمال أبو عيطة "شعور إنساني طبيعي"، مضيفًا "لكن مع زيادة التضييق على العمال وأمام مطالب أسرهم وطلباتهم وضعف الأجر وغول الأسعار، الخوف دا هيتحول لغضب"، معتبرًا أن هذا الخوف مسألة وقت، و"إحنا في مرحلة صبر من النوع اللي له حدود واللي مش عارف الكلام دا ومش مقدره بقوله بكره تشوف".
ويشير أبو عيطة إلى أن القائمين على هذا الملف في الأجهزة الأمنية لديهم قناعة أن هذا الخوف هو السور الذي يحمي النظام والبلد، "لكن الحقيقة أن دول تحديدًا هما اللي بيهددوا السلم الاجتماعي وخطر حقيقي على النظام والبلد".
فيما يصر البنا على أن ما تعرض له من حبس ثم فصل من عمله رسالة لكل الذين يحاولون قول الحق أو الدفاع عن زملائهم، "أنا راجل معايا ماجستير في قانون العمل، وقارئ ومذاكر كويس وفجأة أتاخد ويحصل معايا كل ده، وما فيش لا قانون ولا حد يحميني أو ينصنفي، طبيعي أي حد تاني هيفكر ألف مرة قبل أي تحرك".
الخوف من التنظيم العمالي
يتفق أبو عيطة وعبدالحليم في أن السلطة لديها خوف من وجود تنظيم عمالي حقيقي، ويشير عبدالحليم إلى أن "الحكومة عايزة اللي يقول لها حاضر، مش اللي يتكلم عن أوضاع العمال وسياسات إفقارهم"، مذكرًا بأن الدستور ينص على الحريات النقابية وكذلك قانون المنظمات النقابية، وأيضا المواثيق الموقعة عليها الحكومة والملزمة بها، "لكن المشكلة دائما تكون في التطبيق".
ويسترجع أبو عيطة مقولة منسوبة إلى القيادي العمالي المعروف في شبرا الخيمة في الأربعينيات والخمسينيات سعد طه عثمان يقول فيها إن "القانون كخيط العنكبوت يقع فيه الضعفاء، ويعصف به الأقوياء".
ويوضح أبو عيطة أن حق التنظيم للطبقة العاملة يعلو على أي حقوق أخرى، وأنه الضمانة الوحيدة لتنفيذ القوانين، و"لذلك طبعًا يقلق من يديرون هذا الملف من وجود تمثيل عمالي حقيقي".
ويرى الوزير السابق أن قوّة العمال تأتي من قوة تنظيمهم والعكس أيضًا، مشيرًا إلى تجربة قيادته احتجاجات موظفي الضرائب العقارية في 2007، والتي انبثقت منها أول محاولة لتأسيس نقابة مستقلة في مصر، موضحًا أن الاحتجاج وقتها انتزع الحق في التنظيم النقابي المستقل قبل أن يتم النص عليه في القانون، "والآن عندما أقرته القوانين والدستور وأصبح حق بقى على الورق بس، وفي التنفيذ لا يتم احترامه".
ويذكّر أبو عيطة بما حدث في أواخر عهد الرئيس الأسبق الراحل حسني مبارك، من "ضرب للحركة النقابية والاستيلاء عليها وتأميمها لصالح الأمن، ده خلى العمال يخرجوا من تلقاء أنفسهم يطالبوا بحقوقهم بصدورهم العارية وينتزعوها انتزاعًا".
وفي كتابه عمال على طريق يناير، الصادر في 2024 عن دار المرايا، يشير الصحفي العمالي هشام فؤاد إلى ثلاث قصص من نضالات الطبقة العاملة خلال الفترة من 2006 وحتى 2011: عمال غزل المحلة، وموظفي الضرائب العقارية، وعمال طنطا للكتان.
ويلفت إلى أن هذه النماذج تعد دليلًا على أن الحركة التي قادها العمال في مواقع مختلفة، رافعين مطالب مرتبطة بالحد الأدنى للأجور، وحرية تأسيس النقابات، والمساواة والعدالة، إنما كانت البشرى بثورة يناير، فجاءت مطالبها الثلاثة وشعارها الأشهر "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" منصفة للعمال الذين خاضوا معارك طويلة لأجلها.
السلطة في صف رأس المال
يشير أبو عيطة إلى فوائد وجود تنظيم نقابي حقيقي للعمال وأصحاب الأعمال على السواء، لافتًا إلى أن التنظيم النقابي في أساسه هو وسيط بين صاحب العمل سواء كان رجل أعمال أو حكومة من جهة، والعمال من جهة أخرى كونه المؤسسة التي تستطيع التفاوض على المطالب والاتفاق مع المسؤولين، هو أيضًا عند التعامل معه باحترام يملك جدولة المطالب أو حتى تأجيل بعضها، لكن ما يحدث حاليًا هو دفع الناس دفعًا نحو الإضراب والاعتصام، و"إحنا في الاعتصام بقى ابقى تعالى قابلني إذا عرفت تاخد مني تنازل عن مطلب".
وتابع أنَّ على السلطة الحالية الوعي بأهمية وجود تنظيم نقابي حقيقي، "لأن على الأقل لما يبقوا عايزين يكلموا العمال يلاقوا قنوات طبيعية يوصلوا بيها للعمال مش كيانات غير حقيقية ولا تعبر عن العمال".
وردًا على سؤال "ليه الحكومة متبقاش عايزه حركة عمالية حقيقية؟" يجيب أبو عيطة لأنها ببساطة رافعة لواء القطاع الخاص والنشاط الرأس مالي علمًا بأن الدستور نص على ثلاثة أنماط من الاقتصاد؛ القطاع العام والتعاوني والخاص، والآن كل المسؤولين في الحكومة بلا استثناء عندما يتحدثون عن الاقتصاد لا يتحدثون إلا عن القطاع الخاص، وهو ما يعد انتهاكًا صريحًا للدستور من جانب السلطة القائمة.
ويؤكد أبو عطية أن التنظيم الحقيقي للعمال هو الجهة الوحيدة التي تستطيع إيقاف هذا الانهيار، و"هما فاهمين دا كويس فبيتعقّبوا أي تنظيم نقابي حقيقي، عشان ينفذوا اللي هما عايزينه من سياسات".