مِن وراء طبقتين من السلك الحديدي المغزول، يفصل بينهما نصف متر تقريبًا، كان على جيهان زوجة النقابي العمالي هشام البنا، صاحب الـ54 عامًا، أن تكافح لتتمكن من التواصل مع زوجها، المحتجز في قسم شرطة محلة أبو علي بمدينة المحلة الكبرى في محافظة الغربية على ذمة القضية 7648 لسنة 2024 إداري سمنود والمتهم فيها بالتحريض على الإضراب، والتجمهر، مع 7 آخرين من عمال شركة سمنود للنسيج والوبريات.
كان هشام وزملاؤه يطالبون بتطبيق قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي بزيادة الحد الأدنى للأجور، قبل أن يجدوا أنفسهم متهمين بالإضراب والتجمهر. أُخلي سبيل السبعة وبقي البنا وحيدًا.
معاناة جيهان لم تقتصر على التواصل مع البنا من وراء حاجز حديدي، ولا التغلب على ضجة مواتير تقوية ضخ المياه في قسم الشرطة، ولا ارتفاع الأرضية التي يقف عليها زوجها مترًا ليختفي نصفه العلوي عن عينيها، ما اضطره إلى القرفصة لتتمكن هي من رؤية وجهه والتقاط صوته من بين الأصوات المتداخلة لباقي الأسر والمحتجزين المحشورين في البقعة الضيقة المخصصة للزيارة، وإنما أكثر ما يخيفها كان المجهول الذي ينتظر زوجها.
تصفية حسابات
غالبت جيهان دموعها أثناء حديثها لـ المنصة إلى أن غلبتها "الناس خرجت بقالها 4 أيام ولسه هستنى ليوم الأربع الجاي لما يتعرض تاني على النيابة، على أمل أنه يخرج، حرام اللي بيحصل له ده، بيقولوا بيصفوا حسابات قديمة معاه، حسابات إيه، ما عملش حاجة لا دالوقت ولا قبل كده علشان يتبهدل البهدلة دي".
ليست وحدها الزوجة التي تتساءل عما يمكن تصفيته من حسابات مع نقابي عمالي، مارس عمله بصدق وأمانة، بشهادة زملائه وزميلاته، في حدود القانون، واضعًا مصلحة زملائه وشركته في مقدمة أولوياته خلال ربع قرن من العمل، لكنه حاليًا صار منهكًا، لا ينشد سوى العدل.
سقط البنا من قائمة إخلاء السبيل التي صدرت من محكمة جنح مستأنف المحلة، في الأول من سبتمبر/أيلول الحالي، بحق عمال وعاملات وبريات سمنود السبعة، بعد أيام من قرار النيابة حبسهم 15 يومًا، بتهمة التحريض على الإضراب، والتجمهر.
لم يكن البنا تخطى عامه العشرين عندما التحق في نهاية الثمانينيات بالعمل في شركة وبريات سمنود للنسيج والوبريات، بقسم الصباغة، بعد تخرجه من قسم كيمياء طباعة المنسوجات والصباغة، بالمعهد الصناعي بطنطا.
يروي زملاؤه كيف استطاع البنا خلال فترة قصيرة أن يساهم في تطوير التركيبات الكيميائية للألوان المستخدمة في الصباغة، ما زاد من تنوع الألوان ودرجات ثباتها. كما أتقن تشغيل معدات الصباغة حتى أصبح خلال سنوات مساعدًا لرئيس قسم الصباغة.
سبقت معرفة البنا بمجال النسيج التحاقه بالعمل في وبريات سمنود، فقد عمل الابن الوحيد لموظف التأمينات الاجتماعية، منذ أن كان طالبًا، مع عمه، الذي كان يمتلك مصنعًا صغيرًا للنسيج والتطريز. تقول زوجته جيهان إنه كان يحكي لها كيف تمكن خلال فترة العمل مع عمه من الاطلاع على أسرار الصنعة على أيدي "صنايعية" مهرة في سمنود والمحلة؛ موطن صناعة النسيج العريقة.
الخبرة العملية التي اكتسبها في سنوات شبابه الأولى، مكنته من إجادة الأعمال التي كلف بها لاحقًا داخل العديد من أقسام وبريات سمنود التي تنقل بينها كنوع من التكدير عقابًا على انحيازه لمصالح العمال. يروي زملاء قدامى للبنا عن فترة عمله كمسؤول عن قسم تحضيرات النسيج كيف ارتفعت إنتاجية القسم أثناء فترة "تكدير" البنا.
"حتى لما نقلوه قسم المبيعات عشان يبعدوه خالص عن العمال، قدر يصرّف منتجات قديمة كانت مركونة في المخازن، منها طلبية كانت الإدارة ناوية تبيعها بـ150 ألف جنيه، هو اتفق مع تجار جملة ياخدوها على 950 ألف" يقول أحد زملائه.
نشاطه النقابي.. سنوات من النضال
برز نشاط البنا النقابي داخل وبريات سمنود قبل أكثر من 25 عامًا، وانتخب عضوًا في اللجنة النقابية بالشركة في أكثر من دورة، حيث ارتبط بعمال كافة الأقسام الإنتاجية خلال فترات عمله معهم. اكتسب ثقة العمال من خلال تعبيره عن مصالحهم، حتى تم اختياره رئيسًا للجنة النقابية في السنوات الأربع التي سبقت حلها في نهاية 2014، حين تم خصخصة الشركة وتصفية غالبية القيادات العمالية.
كان للبنا حضور هادئ في كل معارك العمال، دائمًا ما يبحث عن حلول لا تصب فقط في مصلحة العمال ومطالبهم، بل تراعي أيضًا استمرار إنتاج الشركة التي قضى فيها حياته. فإلى جانب مطالبته بالأجور المتأخرة بين عامي 2013 و2014، طالب مع العمال بضخ أموال لتطوير الشركة وتشغيل الماكينات المتوقفة.
ولكن حين تم ضخ 70 مليون جنيه، أنفقتها الإدارة على تصفية العمال بإجبارهم على المعاش المبكر، بدلًا من استغلالها في خطط التطوير، كما يقول عمال وعاملات من وبريات سمنود لـ المنصة، طلبوا عدم نشر أسمائهم خشية التنكيل بهم.
تتذكر بعض العاملات للبنا مساندته لـ180 من زميلاته عام 2022، بعدما دست لهن الإدارة استقالات وسط أوراق المعاش المبكر لتتهرب من مكافأة نهاية الخدمة
في بداية عام 2015 كانت الإدارة تخلصت من أكثر من 1200 عامل وعاملة بإحالتهم إلى المعاش المبكر، من بينهم غالبية أعضاء اللجنة النقابية. ورغم ذلك رفض البنا الخروج، وسعى لإجراء انتخابات لاختيار لجنة نقابية جديدة تدافع عن مصالح العمال، لكن محاولاته وزملائه باءت بالفشل بعد أن نجح المساهمون في تسجيل الشركة وفقًا لقانون الاستثمار، لتتحول من شركة تابعة لقطاع الأعمال العام إلى شركة قطاع خاص.
تتذكر بعض العاملات موقف البنا عام 2022، حين ساند 180 من زميلاته في اعتصامهن أمام النقابة العامة للنسيج، للمطالبة بالحصول على مكافآت نهاية الخدمة، أو إعادتهن للعمل، بعدما نصبت لهن الإدارة فخًا ودست استقالات وسط أوراق طلب الإحالة إلى المعاش المبكر، لتتهرب من مكافأة نهاية الخدمة. وأمام إصرار البنا وتشجيعه لزميلاته، تراجعت الإدارة وأعادتهن للعمل بعدما أمضين عامًا كاملًا في المنزل.
اضطهاد وتنكيل
خلال السنوات العشر الأخيرة، مارست إدارة الشركة أقسى أشكال التعسف والاضطهاد ضد البنا، فنقلته إلى محطة المياه الداخلية للشركة، ثم إلى المبيعات ثم المخازن، ومنها إلى محطة المياه مرة أخرى، بالإضافة إلى قضائه عامًا كاملًا جالسًا رفقة أفراد الأمن عند البوابة الرئيسية.
كانت تُطلب من البنا أعمال لا تستغل مهاراته وليست لها علاقة بطبيعة عمله، كنوع من التكدير، لدرجة أنه طُلب منه في إحدى المرّات تسليك البلّاعات في محطة المياه. ولأنه كان يرفض القرارات التعسفية المخالفة للوائح والقوانين، وقعت عليه عشرات الجزاءات، وامتنعت الشركة عن صرف الكثير من مستحقاته، فلجأ إلى القضاء. وحين صدرت لصالحه أحكام، رفضت الشركة تنفيذها، ولا تزال.
قومي البسي بسرعة أمن الدولة على الباب
منذ اندلاع الإضراب الأخير لعمال وعاملات وبريات سمنود في 18 أغسطس/آب الماضي، مارست الإدارة أشكالًا من الضغط على البنا لكي يقنع زملاءه بإنهاء إضرابهم، لكن رده كان ثابتًا كل مرة؛ أن العمال يطلبون تنفيذ قرارات رسمية صادرة عن الحكومة ووزاراتها والمجلس الأعلى للأجور، وأهمها تطبيق الحد الأدنى للأجور.
تروي جيهان لـ المنصة أنه حصل على ثلاثة أيام إجازة مع بداية الإضراب لكي يتجنب ضغوط الإدارة، ظنًا منه أنه حين يبتعد عن المشهد ستدرك الإدارة أن قرار الإضراب كان جماعيًا، وليس قرار فرد. وحين عاد إلى العمل، وجد الإدارة مستمرة في ضغوطها عليه، فطلب إجازة جديدة، ولكنها رُفضت، وأُبلغ أنه نُقل من قسم المبيعات إلى محطة المياه.
زيارة ثقيلة في الفجر
تتذكر جيهان كلماته لها "قومي البسي بسرعة، أمن الدولة على الباب"، قالها مفزوعًا وطرقات رجال الأمن تكاد تخلع الباب، ومعه قلبي ابنه عصام وابنته مريم.
هرول هابطًا من الدور الثالث بملابس النوم، فتح الباب فوجد نفسه في مواجهة أكثر من خمسة عشر من رجال الأمن ومن خلفهم 5 سيارات شرطة. طلب الإذن لتغيير ملابس النوم وارتداء ملابس مناسبة، فرفضوا.
أثناء محاولتها اللحاق به انكفأت جيهان على وجهها على السلم، وبينما زُج به مقيدًا من الخلف داخل إحدى سيارات الأمن، كانت عينا نجله عصام، خريج كلية الخدمة الاجتماعية، تتابع أثر والده والسيارات تغادر الشارع.
لأربعة أيام متواصلة اختفى كل العمال والعاملات المقبوض عليهم قسريًا، بحثت جيهان وباقي الأهالي في مراكز شرطة سمنود والمحلة دون جدوى، حتى علموا بقرار النيابة حبسهم 15 يومًا، ثم استئناف المحامين على القرار، الذي حُددت له جلسة 1 سبتمبر أمام محكمة جنح مستأنف المحلة. ولكن حين وصلت جيهان إلى المحكمة، أبلغها المحامون أن زوجها ليس بين المخلى سبيلهم، فسقطت مغشيًا عليها.
ولأن صموده من صمودها، عادت إلى منزلها لتعد له طعام زيارة تدخله له في محبسه، وأدوية الضغط والسكر، التي حاولت إعطاءها له في المحكمة فمنعها الحرس. تتمسك جيهان بالأمل في خروجه بجلسة النظر في أمر حبسه، المقرر لها يوم الأربعاء 11 سبتمبر الجاري، مثلما خرج زملاؤه ممن اصطادتهم حملة الأمن الوطني فجرًا في ليلة 25 أغسطس الماضي.