قفزت معدلات التضخم خلال النصف الثاني من العام 2023، لتصل إلى مستوى غير مسبوق في سبتمبر/أيلول الماضي مسجلة 40.3%. جاءت تلك القفزة مدفوعة بارتفاع أسعار مجموعة الطعام والمشروبات بنسبة 73.6%، مع الصعود المستمر لسعر الدولار في السوق الموازية، قبل أن يعلن البنك المركزي في 6 مارس/آذار من العام الحالي، السماح بتحديد سعر الصرف وفقًا لآليات السوق، ليكسر الدولار رسميًا حاجز الـ50 جنيهًا، قبل تراجعه بنسبه طفيفة لاحقًا.
تلقى العاملون بأجر الضربات الأولى والمباشرة للارتفاع المتواصل في الأسعار، فتضاءلت القيمة الفعلية لدخولهم، وعجزت رواتبهم المتدنية عن الصمود في وجه الغلاء.
دفع هذا الوضع مواقع عمالية داخل قطاع الأعمال العام، وكذلك داخل القطاع الخاص، إلى الانتفاض مطالبين بتحسين الرواتب خلال الربع الأخير من العام 2023، والشهور المنقضية من العام الحالي، وهو ما اتفق عليه عمال ونقابيون تحدثوا لـ المنصة في هذا التقرير.
القطاع الخاص.. احتجاجات متتابعة
في 20 سبتمبر من العام الماضي 2023، دخل عمال شركة لينين جروب للمنسوجات بالإسكندرية، في إضراب عن العمل استمر 9 أيام، للمطالبة بتعديل جدول الأجور بما يتناسب مع ارتفاع معدلات التضخم، وموجات الغلاء المستمر. أنهى العمال إضرابهم بعد وعود من الإدارة بترتيب لقاء تفاوضي مع اللجنة النقابية لمناقشة مطالبهم.
وفي 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أضرب 400 عامل من شركة كيرسرفيس بمعسكر القوة متعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء "حفظ السلام" في مدينة شرم الشيخ، عن العمل، للمطالبة بتعديل رواتبهم، استمر الإضراب ليومين قبل أن يقرر العمال تعليقه بعد وعود من قائد القوة متعددة الجنسيات إيفان ويليامز، بمناقشة إدارة "كيرسرفيس" في مطالبهم. عاد عمال كيرسرفيس للإضراب مرة أخرى والاعتصام بمقر "القوة" في الثالث من يناير/كانون الثاني 2024 مطالبين بزيادة الرواتب.
ومع نهاية يناير 2024 دخل عمال الشركة التركية للملابس "تي آند سي" بمدينة العبور في إضراب عن العمل للمطالبة برفع أجورهم بنسبة 50% لمواجهة الارتفاع المستمر في الأسعار، وعلقوه بعد ثلاثة أيام.
أما في 3 فبراير/شباط 2024 دخل عمال "مطاحن الخمس نجوم" لإنتاج الدقيق والأعلاف بمنطقة العين السخنة في محافظة السويس، في إضراب "تباطؤي" استمر 5 أيام للمطالبة بزيادة الرواتب، قبل أن يفضوه عقب اجتماع تفاوضي مع الإدارة، انتهى بوعود بتنفيذ كل مطالبهم، ليعودوا مرة أخرى للإضراب التباطؤي في الـ20 من الشهر نفسه، بعد تراجع الإدارة عن اتفاقها معهم.
وفي 26 مارس نظم عمال وعاملات شركة ليوني وايرينج سيستمز لتصنيع الضفائر الكهربائية للسيارات، إضرابًا عن العمل، لورديتين متتاليتين، احتجاجًا على صرف راتب شهر مارس دون أي زيادات، رغم الوعود المتكررة.
دائمًا غزل المحلة
في السابع من فبراير 2024، قرر الرئيس السيسي رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50%، ليصل إلى 6 آلاف جنيه شهريًا، لكن القرار لم يشمل شركات قطاع الأعمال العام، ما دفع عمال غزل المحلة في 22 فبراير 2024 إلى الدخول في إضراب عن العمل، للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى.
بالتزامن مع الإضراب، أصدرت وزارة قطاع الأعمال العام قرارًا بتعجيل موعد استحقاق العلاوات الدورية ومنح علاوة خاصة لغير المخاطبين بقانون الخدمة المدنية، يُلزم شركات قطاع الأعمال العام بألا يقل إجمالي ما يحصل عليه العامل شهريًا عن 6000 جنيه، لكن القرار لم يراع التدرج الوظيفي.
جميع الاحتجاجات خلال الفترة الأخيرة كانت رد فعل طبيعي للمعدلات المرتفعة في أسعار السلع والخدمات
امتدت الإضرابات لتشمل عددًا من شركات قطاع الأعمال العام، للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى، من بينها شركة النيل العامة للطرق والكباري، التي استمر إضراب عمالها لأسبوعين قبل أن يعلقوه لإعطاء فرصة للجنة النقابية للتوصل لاتفاق مع الإدارة.
"جميع الاحتجاجات خلال الفترة الأخيرة كانت رد فعل طبيعي للمعدلات المرتفعة في أسعار السلع والخدمات، التي فاقت كل الحدود، لكنها تظل احتجاجات للدفاع عن حد الكفاف لمعيشة العمال وأسرهم" يقول حسن بربري، مسؤول مبادرة مستشارك النقابي، والمدير التنفيذي للمنتدي المصري لعلاقات العمل لـ المنصة.
الغلاء هو ما دفع أيضًا محصلو الفواتير بشركات مياه الشرب في أسوان والقليوبية والجيزة إلى الاحتجاج من أجل التثبيت، إذ لا يمكنهم إعالة أسرهم بدخل متذبذب. يؤكد اثنان من منظمي الاحتجاجات في الجيزة وبنها تحدثا لـ المنصة "عارفين إننا بنخاطر في الوقت ده بوقفاتنا الاحتجاجية، لكن ما نقدرش نعيّش ولادنا بعمولة شهر فيه وشهر مافيش. كنا زمان بنعرف نتصرف، دالوقت ارتفاع الأسعار مش مدينا فرصة نتنفس".
انتصارات جزئية
لم تكن الاحتجاجات بلا طائل، فحصل عمال "تي آند سي" على زيادة تراوحت ما بين 30 إلى 35%، بينما كانوا يطالبون بتعديل الرواتب بنسبة لا تقل عن 50%، "نظرًا لما واجهناه من تعسف أثناء الإضراب وحصار لإجهاضه، فإن هذه النسبة تعد نجاحًا للإضراب" يقول أحد العمال المنظمين للإضراب لـ المنصة.
وأقرت إدارة "ليوني وايرينج سيستمز" زيادة من 1200 إلى 2000 جنيه بعد أسبوعين من فض العمال لإضرابهم، لكنها قالت إن تلك الزيادة للأعوام الثلاثة المقبلة، وهو ما اعتبره العمال "كلام فارغ". تقول إحدى العاملات لـ المنصة "سنستمر في المطالبة بكافة حقوقنا في الزيادة السنوية كل عام، وحقنا في تحسين الرواتب كلما ارتفعت الأسعار".
واستطاعت اللجنة النقابية بشركة النيل العامة للطرق والكباري التوصل لاتفاق بزيادة بدل الإعاشة والحافز ليصل شامل الراتب إلى 6000 آلاف جنيه أي في حدود الحد الأدنى. "كان ذلك بفضل الإضراب الذي استمر لأكثر من أسبوعين" هذا ما يؤكده أحمد كامل، العامل بالشركة وأحد الفاعلين في الإضراب، لـ المنصة.
ويُرجع كرم عبد الحليم نائب رئيس اتحاد تضامن النقابات العمالية (تحت التأسيس)، صدور قرار وزير قطاع الأعمال العام بإلزام شركات قطاع الأعمال العام بألا يقل إجمالي ما يحصل عليه العامل شهريًا عن 6000 جنيه شهريًا، إلى صمود إضراب عمال غزل المحلة.
فيما يرى بربري أن "المعارك العمالية معرضة للانتصار أو الهزيمة، لكن الأهم أن العمال رغم القبضة الأمنية تحركوا. وهذا يعد انتصارًا جزئيًا".
رد فعل الإدارات والدولة
مارست الإدارات، سواء في شركات القطاع الخاص أو قطاع الأعمال العام، نفس السياسات لكسر الإضرابات وإنهاء الاحتجاجات، فأحالت إدارة شركة "ليوني وايرينج سيستمز" لتصنيع الضفائر الكهربائية للسيارات 35 عاملًا من مصنعي 2 و3 بالمنطقة الصناعية بمدينة بدر إلى التحقيق، وأوقفتهم عن العمل، على خلفية مشاركتهم في إضراب نفذه عمال الشركة في 26 مارس الماضي.
كما أصدرت إدارة شركة لينين جروب قرارًا خلال إضراب العمال في سبتمبر من العام الماضي، باعتبار فترة الإضراب انقطاعًا عن العمل، وهددتهم باتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم.
وخلال إضراب عمال شركة النيل العامة للطرق والكباري، أصدر العضو المنتدب للشركة قرارًا بوقف عشرة عمال عن العمل وإحالتهم للتحقيق لمشاركتهم في الإضراب، كأحد أشكال الترهيب لإجبارهم على إنهاء الإضراب دون تحقيق مطالبهم، قبل أن يتراجع عن القرار تحت ضغط العمال.
أما عن أجهزة السلطة، فخلال إضراب عمال غزل المحلة استدعى جهاز الأمن الوطني بمحافظة الغربية العشرات من عمال وعاملات الشركة إلى مقر الجهاز بمدينة طنطا، وطالبهم بفض الإضراب، وتكررت الواقعة لعدة أيام، حتى وصل العدد الذي اُستدعي لأكثر من مائتين، حسب عمال تحدثوا في وقت سابق لـ المنصة.
لا يزال عمال آخرون محبوسين على ذمة قضايا بتهم متعلقة بالإرهاب
وعقب انتهاء الإضراب ألقت قوات الأمن القبض على 9 من عمال غزل المحلة، في 29 فبراير الماضي، على خلفية مشاركتهم في الإضراب، وأطلق سراح 7 منهم لاحقًا، فيما أحيل عاملان إلى نيابة أمن الدولة العليا، ولا يزالا محبوسين حتى الآن بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية.
وفي 26 أبريل/نيسان الماضي، اُستدعي عشرة عمال من محصلي الفواتير وقارئي العدادات بنظام العمولة في شركة مياه الشرب بالجيزة، إلى أقسام الشرطة التابعين لها، بعد تلقيهم اتصالات هاتفية من أشخاص قالوا إنهم ضباط بالأمن الوطني. بينما تم استدعاء أحدهم إلى مقر الأمن الوطني بمدينة السادس من أكتوبر.
وحسب أحد العمال الذين اُستدعيوا، فإن العمال العشرة تلقوا تهديدات من الضباط الذين التقوا بهم إن عادوا لتنظيم وقفات احتجاجية للمطالبة بالتثبيت.
ولا يزال عمال آخرون محبوسين على ذمة قضايا بتهم متعلقة بالإرهاب، بينما يعاقبون على نشاطهم النقابي.
يقول بربري "دائمًا ما يطل الحل الأمني علي كافة التحركات الاحتجاجية أو المطلبية للعمال ويصبح هو بداية التعامل، وهذا له علاقة بغلق مساحات حرية التعبير منذ سنوات، وهو ما يفسر لماذا يتم القبض واعتقال نقابيين وقيادات عمالية حتي الآن رغم أن مطالبهم اقتصادية".
مستقبل الاحتجاجات العمالية
يرى عبد الحليم أن العمال يلجأون لخيار الإضراب لعدم وجود وسيلة حقيقية للتفاوض مع الإدارات، وأن الاحتجاجات مصيرها التصاعد طالما ظلت هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق مطالب العمال، خاصة مع استمرار التضييق على العمل النقابي وتكبيله، وترهيب النقابيين.
ويتوقع عبد الحليم ارتفاع وتيرة الاحتجاجات داخل القطاع الخاص خلال معركة تطبيق الحد الأدنى للأجور الذي أقره مؤخرًا المجلس الأعلى للأجور.
ويقول بربري إن مستقبل الاحتجاجات العمالية مرهون بالأساس بمدى عبور الأزمة الاقتصادية أو تعمقها، فالمؤشرات الاقتصادية واستمرار نفس السياسات دون أي تغيير سيؤدي حتما إلى تصاعد الاحتجاجات.