قبل سبع سنوات، وقَّع علي سعيد عقد عمل كمُحصِّل فواتير وقارئ عدادات بــ العمولة مع شركة مياه الشرب بمحافظة القليوبية، التابعة للشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، بعد اجتيازه اختبارات مسابقة أعلنت عنها الشركة.
توقف علي عند العديد من بنود العقد، لكن كان أكثر ما أزعجه بندان، أحدهما يعطي للشركة الحق حال فشل المحصل في تحقيق نسبة محددة في "فسخ التعاقد دون الحاجة لإخطار أو إنذار"، والثاني يلزمه بـ"التوقيع على إيصال أمانة، عند حدوث عجز أو تبديد لجزء أو لكل العهدة المسلمة إليه".
تردد علي في التوقيع، فقال له موظف شؤون العاملين "هتمضي ولا مش لازمك الشغل؟"، وبعد توقيعه على العقد، طالبه الموظف بالتوقيع على إيصال الأمانة، فتساءل علي "أليس توقيع الإيصال عند حدوث عجز؟" فرد الموظف "توقيع الإيصال قبل استلام العمل، لضمان حق الشركة".
"اضطريت أمضي وصل الأمانة لأني عانيت في الحصول على وظيفة. ورغم أن العقد بالعمولة، لكني اعتبرتها خطوة للتثبيت في الشركة"، يقول علي لـ المنصة.
مخالف للقانون
تكررت البنود التي تتيح للشركة فصل العامل في عقود أخرى اطلعت عليها المنصة، وقعها محصلون بالعمولة في شركات مياه الشرب في أسوان والجيزة والمنيا.
كما وجدنا بندًا مشابهًا في عقد عمال شركة يونيفرسال للأجهزة الكهربائية، ينص على "في حالة عدم تنفيذ أي بند من هذه البنود، أو الإخلال بها، يعتبر هذا العقد مفسوخًا من تلقاء نفسه، دون الحاجة لإنذار أو إعلان، ولا يجوز للعامل المطالبة بأي تعويض".
كما وجدناه أيضًا في عقد أحد العمال بمصنع "أريستون للسخانات"، الذي اشترته الشركة مؤخرًا من "يونيفرسال"، إذ وضعت الشركة الإيطالية بندًا ينص على "إذا رفض الموظف أداء العمل الذي تم تعيينه من أجله، يكون للطرف الأول/صاحب العمل الحق الكامل في إنهاء العقد، دون دفع أي تعويض للطرف الثاني".
وهناك كذلك بندان متشابهان آخران في عقدي "أريستون" و"يونيفرسال" يحظران على العامل الاشتغال بعمل آخر بأجر أو بدون أجر، حتى في غير ساعات عمله بالشركة، كما يحظران استكمال دراسته بأي مدرسة أو معهد أو جامعة، حتى وإن كانت في غير أوقات العمل الرسمية إلا بعد الحصول على تصريح.
يقول مالك عدلي مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لـ المنصة "إن القانون المدني حدد عقد الإذعان في المادة 100 بأن يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل مناقشة فيها، وترتبط أكثر بعقود تقديم الخدمات الحصرية، مثل الاتصالات والكهرباء والمياه، ولا تنطبق على عقود العمل، لأن في حال تحولها إلى عقود إذعان تصبح نوعًا من أنواع العبودية".
يصف عدلي البنود الواردة في الأمثلة المطروحة بـ"محض هراء"، موضحًا "هذه الشركات خاضعة لقانون العمل رقم 12 لسنة 2003، الذي ينص على بطلان كل مصالحة تتضمن انتقاصًا أو إبراءً من حقوق العامل الناشئة عن عقد العمل خلال مدة سريانه، أو خلال ثلاثة أشهر من تاريخ انتهائه، متى كانت تخالف أحكام هذا القانون".
يؤكد عدلي "كل هذه البنود باطلة قانونًا لأن الذي يختص بتوقيع جزاء الفصل هي المحكمة العمالية دون غيرها".
عقد إذعان
في مايو/أيار 2023، أصدرت الدائرة 48 عمال بمحكمة استئناف القاهرة حكمًا لصالح مدرسة بإحدى الجامعات، قضت محكمة أول درجة بإلزامها دفع قيمة شرط جزائي تضمنه عقدها مع الجامعة، إذا لم تستمر بالعمل 3 سنوات بعد حصولها على الدكتوراه، فألغت محكمة الاستئناف الحكم الصادر لصالح الجامعة، وقالت في حيثيات حكم الإلغاء "الشرط الذى تعتبره المحكمة من شروط الإذعان هو الشرط الجزائي، ويبطل الشرط الجزائي في عقد العمل لمخالفته لنص المادة الخامسة من قانون العمل".
ووصفت المحكمة هذا الشرط بأنه "تعسفي"، إذ "جعل الالتزام على العامل فقط دون أن يكون على الشركة المدعية التزام مقابل بذلك الأمر الذي يتأكد معه الإذعان فى ذلك العقد".
الأمر نفسه يؤكده المحامي العمالي ياسر سعد لـ المنصة "الكثير من بنود هذه العقود تمثل أحد أشكال الإذعان، فمثلًا ليس من حق صاحب العمل وضع شروط تحد من حرية العامل، مثل منعه من القيام بأي نشاط خارج أوقات العمل، إلا في حالات حددها القانون، وحتى لو خالف العامل القانون فليس من حق صاحب العمل فصله أو إنهاء عقده إلا عن طريق المحكمة العمالية".
تُخالف بنود منع العامل من الدراسة نص المادة 49 من قانون العمل، يوضح سعد "من حق العامل تحديد موعد إجازته السنوية إذا كان متقدمًا لأداء الامتحان في إحدى مراحل التعليم، بشرط أن يخطر صاحب العمل قبل قيامه بالإجازة بخمسة عشر يومًا على الأقل".
سياسة لإخضاع العمال
يتفق عدلي وسعد على أن بنود العقود الواردة في الأمثلة المطروحة لا يعتد بها قانونًا، وليست سلاحًا بأي حال من الأحوال في يد صاحب العمل عند اللجوء للقضاء. فلماذا إذن يصر أصحاب العمل على تضمينها في عقود العمل؟
يحاول عصام عبد العاطي، أمين اللجنة النقابية لعمال شركة يونيفرسال، الإجابة لـ المنصة "عند التعيين، غالبًا لا يقرأ العامل العقد، هذا ما يحدث في يونيفرسال، يدخل العامل إلى مكتب الـ HR، يضع أمامه الموظف الأوراق ويطالبه بسرعة التوقيع: شد حيلك علشان تستلم شغلك، ونشوف باقي زمايلك".
يستكمل عبد العاطي "لا يستلم العامل نسخة من العقد كما ينص القانون، ومع أول مشكلة، تستشهد الإدارة بالعقد، إذا رفض العامل أمرًا ما رأى أن فيه تعسفًا، كالنقل خارج محافظته أو تكليفه بعمل فوق طاقته، فيُهدد بالفصل استنادًا إلى العقد. ولا يعرف العمال أساسًا أن هذه البنود مخالفة للقانون، وهو ما يضع على العمال ضغوطًا كبيرة، ويجعلهم يخضعون لقرارات الإدارة التعسفية خوفًا من قطع عيشهم".
ينفي أحد العاملين بالشؤون القانونية بشركة بنها لمياه الشرب لـ المنصة أن تكون صياغة العقود بهذا الشكل جهلًا ممن صاغوها بالقانون. ويوضح المصدر، الذي طلب عدم نشر اسمه، أن "الإدارة تطلب صياغة عقود للمحصلين لا تمنحهم رواتب ثابتة، وتُقنعهم بأنهم إذا لم يقوموا بتحصيل النسبة المطلوبة يحق لها فصلهم، وأيضًا تجعل من توقيعهم على إيصالات الأمانة أمرًا اعتياديًا بوضع هذا الشرط في العقد، بصرف النظر عن مدى قانونية هذا الشرط أو ذاك".
تهدف صياغة هذه البنود، سواء كانت في شركات قطاع الأعمال العام أو القطاع الخاص، إلى أمرين؛ أولهما إجبار العمال على قبول أي عمل يكلفون به دون تذمر، مع استنزافهم للوصول إلى أكبر معدل إنتاج، وثانيهما إيهام العمال أن العقود التي وقَّعوا عليها تتيح للشركات فصلهم دون إنذار أو إخطار.
غياب النقابات
يلقي عدلي باللائمة على وزارة القوى العاملة التي من اختصاصها مراجعة العقود، والمطالبة بتعديل البنود المخالفة للقانون، وفي أيديها أدوات ضغط كثيرة على أصحاب العمل لمنع هذه المخالفات.
فيما يرى ياسر سعد أن هناك تواطؤًا من مكاتب العمل وموظفي المديريات التابعة لوزارة القوى العاملة، فضلًا عن الإهمال الشديد في القيام بمهامهم.
ويتحدث عبد العاطي، أمين اللجنة النقابية المستقلة لعمال "يونيفرسال"، عن تجربتهم "في بداية تأسيسنا للجنة النقابية بالشركة، عرّفنا العمال بقانون العمل، وبما تتضمنه العقود من مخالفات قانونية، وطالبنا الشركة بالإعلان عن لائحتها، ولائحة الجزاءات".
كانت تلك اللجنة هي التمثيل الحقيقي الأول للعمال "مكانش فيه في الشركة لجنة نقابية حقيقية، مجرد ممثل في نقابة الصناعات الهندسية بالجيزة، اختارته الشركة، وكان مسؤولًا في الـ HR"، يقول عبد العاطي.
لم تستمر تلك التجربة طويلًا فبعد عقد الجمعية العمومية الأولى للنقابة، وانتخاب مجلس الإدارة، وخلال السير في إجراءات التأسيس عام 2022، أصدرت الإدارة قرارًا بفصل جميع أعضاء اللجنة النقابية ضمن 75 عاملًا على خلفية إضراب العمال في 2021. بينما تكرر استدعاء العشرات للتحقيق في مقرات الأمن الوطني والضغط عليهم لوقف الاحتجاجات المطالبة بصرف الرواتب.
تخلت النقابات العمالية بشركات مياه الشرب عن دورها بوقوفها صامتة أمام مطالب محصلي العمولة، في الوقت الذي استدعى الأمن الوطني العديد من العمال للتحقيق.
ويرى عدلي أن السبب الرئيسي وراء اضطهاد العمال والتعسف ضدهم، هو ضعف النقابات وتذيلها لأصحاب العمل، وغياب نقابات حقيقية ممثلة لهم، "بدون نقابة قادرة على التفاوض مع أصحاب العمل والضغط من أجل نيل العمال لحقوقهم، تبقى المعادلة مختلة".
يتفق عبد العاطي، الذي يرى أنه بدون إطلاق الحريات النقابية، والكف عن التنكيل بالنقابات المستقلة، وملاحقة أعضائها، لا يمكن أن تنشأ كيانات عمالية حقيقية، "غالبية شركات القطاع الخاص لا توجد بها لجان نقابية بسبب رفض إدارات الشركات، وانحياز مديريات القوى العاملة لأصحاب العمل" يقول النقابي العمالي.
لا يزال علي سعيد وزملاؤه مستمرين في عملهم تحت ذات الشروط، مكبلين بإيصالات أمانة "على بياض" قد لا يكون لها أهمية قانونية، فـ"مجرد نص العقد على إلزام العامل بالتوقيع عليها يجعلها باطلة" كما يقول المحامي العمالي ياسر سعد، لكنها تمثل مع باقي شروط الإذعان في عقودهم ضغطًا كبيرًا ووسيلة لإخضاعهم.
أما محصلو شركة مياه القليوبية فعلقوا احتجاجاتهم بعد وعود بتعديل عقودهم لتصبح عقودًا شاملة، بدلًا من عقود محصلين بالعمولة، رغم ما يساورهم من شكوك في نوايا الإدارة.