هل تسمع الدولة؟ انتفاضة عمال "مياه الشرب" ترفع صوت الغضب
يقطع شريف حمدي(*)، مفتش العدادات بشركة مياه الشرب والصرف الصحي بالقاهرة، أكثر من 6 كيلومترات مشيًا على الأقدام يوميًا ذهابًا وإيابًا من بيته إلى محطة مترو المرج شمال شرق القاهرة، من أجل توفير 15 جنيهًا أجرة المواصلات.
يسكن شريف في بركة الحاج التي تبعد أكثر من 3 كيلومترات عن محطة المترو الذي يستقلّه للذهاب إلى مصر الجديدة حيث مقر عمله في شركة المياه منذ 15 عامًا. لكنَّ صافي راتبه ورغم هذه السنوات، لا يتجاوز 5800 جنيه.
أجرة المواصلات واحدة من بنود أساسية اضطر مفتش العدادات لشطبها لأن راتبه لم يعُد يوفّيها، من بينها اللحوم الحمراء، التي استبدلت بها الأسرة المكوَّنة من أب وأم وأربع فتيات، ثلاث منهن في مراحل تعليم مختلفة، فرخة أو نصف كيلو "بانيه" في الأسبوع. كما قلصت استهلاكها من البيض واللبن بمعدل الثلثين، واختفت الفاكهة تقريبًا من المائدة، فيما تكثِّف الأم من محاولاتها توفير وجبات منخفضة التكلفة، وهو عادة ما لا يُجدي نفعًا في ظل الغلاء والتضخم اللذين أكلا الأخضر واليابس.
غير بعيد عن شريف، يمتنع سعيد عبد الله(*) الموظف بذات الشركة عن تناول الطعام خلال العمل، وينتظر العودة إلى المنزل في السادسة مساءً، فبدل الغذاء الذي يتقاضاه لا يتجاوز 100 جنيه شهريًا، و"السندوتش بـ10 جنيه، علشان أفطر محتاج 30 جنيه في اليوم".
حالُ غالبية عمال شركة مياه الشرب في القاهرة الذين تحدثوا لـ المنصة من حالِ شريف وسعيد، جميعهم ألقى بهم الوضع الاقتصادي في هوة من العوز تزيد اتساعًا كل يوم.
تحت وطأة هذه الظروف انتفض العمال في موجة احتجاجات عاتية شملت عشرات المواقع بالقاهرة، وامتدت إلى محافظات الجيزة والشرقية وبني سويف، والمنيا، وغيرها، في فصل جديد من تحركات العمال في قطاعات متعددة تتشابه مطالبها وتتمحور حول تطبيق الحد الأدنى من الأجور وتعديل الرواتب، وصرف المتأخرات والحوافز، لمواجهة التصاعد الكبير في الأسعار، خاصة تكلفة الغذاء والمواصلات.
إقالة المسؤولين عن هُوّة العوز
في احتجاجاتهم التي انطلقت في 12 نوفمبر/تشرين الثاني، واستمرت حتى تعليقها في 24 من الشهر نفسه، رفع العمال العديد من المطالب، على رأسها ضم العلاوات المتأخرة منذ عام 2016، وصرف فروق الضرائب التي خُصمت منهم بأعلى من النسبة المستحقة، وزيادة البدلات، وتثبيت المؤقتين.
يوضح علاء أحمد(*) الذي يعمل بالشركة منذ 20 عامًا، ويتقاضى 7000 جنيه (الحد الأدنى للأجور)، أن ضم العلاوات سيقفز براتبه هو وزملائه إلى حدود 11 ألف جنيه شهريًا، لذا يعتبر هذا المطلب الأهم بالنسبة لهم، لافتًا إلى أن الإدارة تحاول صرفهم عنه بأي ثمن "قالوا لنا عايزين العلاوات ارفعوا قضايا، وبعدين قالوا هنشكل لجنة للدراسة، كلها وعود عارفين إنها مش هتتنفذ، ليه أرفع قضية وأقعد سنين في المحاكم وحقي واضح؟"، كما يقول لـ المنصة.
يأتي تثبيت المؤقتين ضمن قائمة أهم المطالب التي يرفعها العمال، فالعقود المؤقتة تقلص من امتيازاتهم المالية، وتتركهم عرضة للتهديد بالفصل، "لأقل سبب ممكن الواحد يلاقي نفسه في الشارع، إحنا بنطالب بحقنا في التثبيت علشان نحس بالأمان" يقول علي خليل(*) محصل فواتير بحلوان.
لا تقف مطالب العمال عند الحقوق الاقتصادية أو تثبيت المؤقتين، إنما تشمل المطالبة بإقالة المستشارين الذين "يتقاضون رواتب تصل لمئات الآلاف شهريًا"، وإقالة مسؤولين بالشركة على رأسهم نائب رئيس مجلس الإدارة للشؤون المالية والإدارية علي عماشة، الذي اتهموه بالوقوف ضد مطالبهم.
ودعوا في تظاهراتهم إلى تدخل الرقابة الإدارية مرددين هتافات منها، "يا رقابة يا إدارية.. شركتنا فيها حرامية" و"علي الصوت قول متخافشي الحرامية لازم تمشي".
حاولت المنصة التواصل مع رئيس شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالقاهرة، مصطفى الشيمي، هاتفيًا وعبر واتساب لسؤاله عن مطالب العمال ومنحه حق الرد على اتهامهم لبعض مسؤولي الشركة بالفساد، لكنه لم يرد حتى موعد النشر.
نقابة غائبة وعمال غاضبون
لم يؤثر غياب دور اللجنة النقابية بالشركة ونقابة العاملين بالمرافق العامة على سير الاحتجاجات التي تميزت بالتنظيم الشديد وشملت عشرات المواقع.
ويشيد عادل حسين(*) أحد منظمي الاحتجاجات بالنضج الذي أظهره العمال، ما ينبئ بصعود قيادات عمالية جديدة تعبِّر حقيقةً عن العمال بدلًا من أعضاء النقابة الذين وصفهم بـ"المتخاذلين".
لوائح شركات المرافق العامة تحتاج إلى تعديلات لتتماشى مع قانون العمل الجديد
لكن رئيس اللجنة النقابية بالشركة حمدي السعداوي يرفض هذا الوصف، نافيًا اتهام العمال للنقابة بالانحياز للإدارة، ومؤكدًا لـ المنصة أن أعضاء اللجنة كانوا وسط الحشود منذ اليوم الأول للاحتجاجات، كما كانوا يتفاوضون مع إدارة الشركة والشركة القابضة لتنفيذ المطالب، و"أكبر دليل هو وجودي إلى جانب العمال أثناء إلقاء البيان الذي قرروا فيه تعليق الاحتجاجات".
يعتبر السعداوي أن كثيرًا من مطالب العمال تحققت، بالأخص المحصلين، "حيث تمت زيادة مكافآت حافز التحصيل، وإلغاء احتساب إثابة التحصيل ضمن الحد الأدنى للأجور، وإلغاء البصمة"، كما يرى أن "بعض المطالب ليست في يد رئيس الشركة مثل ضم العلاوات وتسوية المؤهلات والتثبيت، لكنها في يد الوزير".
أين وزارة العمل؟
بدورها غابت وزارة العمل عن المشهد، فلم تصدر أي بيانات عن الاحتجاجات ولم تبدِ أي مسعى للتفاوض، هذا رغم ما تنشره الوزارة مؤخرًا من تصريحات تتحدث عن نشاط مسؤوليها في تطبيق بنود قانون العمل الجديد، من خلال حملات تفتيش على المؤسسات والشركات للتأكد من تطبيق الحد الأدنى للأجور.
في بداية الأزمة حاول عدد من عمال الشركة تحرير شكاوى في مكاتب العمل بالقاهرة لكن الموظفين هناك رفضوا، كما أكد العمال لـ المنصة، ويعتقد الباحث في الشأن العمالي حسن بربري أن وزارة العمل تريد النأي بنفسها عن أن تكون طرفًا في الأزمات المتعلقة باحتجاجات العمال في المنشآت الحكومية خاصة المرافق العامة، حتى لا تحرج الحكومة.
ويخضع عمال شركات مياه الشرب والصرف الصحي لأحكام قانون العمل رقم 14 لسنة 2025، ويرى حسن بربري أن لوائح شركات المرافق العامة تحتاج إلى تعديلات لتتماشى مع قانون العمل الجديد.
ويوضح لـ المنصة أن هناك نظامين للأجور واحد منهما في قانون الخدمة المدنية، والثاني يخضع لتعريفات قانون العمل، وهو ما صنع فرقًا في الأجور بين العاملين في الدولة والعاملين في المرافق التابعة لها، في مخالفة صريحة للدستور.
دلالات مهمة من هتافات العمال
تجاهُلُ وزارة العمل للأزمة وغياب النقابة عنها تركا أثرًا واضحًا على هتافات العمال التي تنوعت في تعبيرها بشكل مباشر عن جوهر المطالب، ورفض ردود الإدارة عليها، كما يظهر في هتاف "العلاوات من غير قضايا.. مش هجيب محامي معايا" الذي جاء ردًا سريعًا على مطالبة القائم بأعمال رئيس الشركة القابضة لمياه الشرب، أحمد جابر، للعمال، برفع دعاوى قضائية للحصول على العلاوات.
كما خاطب العمال الرئيس عبد الفتاح السيسي، بهتافات مثل "يا رئيس الجمهورية اتولى لنا القضية"، حيث يدركون أن الكثير من القضايا لا تحل إلا بالتدخل المباشر للرئيس؛ "الريس في إيديه كل حاجة، وأكبر دليل إعادة الانتخابات، بعد توجيهاته"، على حد قول أشرف عزت* أحد قيادات الإضراب.
خاطبت الهتافات كذلك وزير الإسكان واضعة إياه أمام حقيقة تدني رواتبهم "يا وزير الإسكان شوف احنا بنقبض كام؟". وفي محاولة لتحييد الشرطة كرر العمال مرارًا هتافهم "يا وزير الداخلية.. الوقفة دي وقفة سلمية".
يُلاحَظ أيضًا استدعاء العمال هتافات تحمل طابع المعارضة السياسية وإسقاطها على وضعهم مثل "مسرحية مسرحية.. العصابة هي هي" و"التغيير التغيير" و"لا بنخاف ولا بنطاطي.. احنا كرهنا الصوت الواطي" و"مطالبنا هي هي.. احنا في دولة مش وسية" و"واحد اتنين.. الإعلام فين".
محاولات الاحتواء
من اللحظة الأولى، تجلى الفشل الحكومي في تهدئة الغضب العمالي الذي وعى لأن الوعود التي تقدم اليوم سرعان ما ستذوب في الغد، فلم تنجح زيارة القائم بأعمال رئيس الشركة القابضة لمياه الشرب أحمد جابر للمحتجين في الزيتون والأميرية في اليوم التالي لاندلاع الاحتجاجات، ووعده لهم بإصدار قرارات تلبي مطالبهم، في إثنائهم عن التصعيد واستمروا في مظاهراتهم معتبرين وعوده "كلام في الهواء".
حتى مع إصدار الشركة القابضة 13 قرارًا فيما وصفته بأنه حزمة تحفيزية تهدف لدعم العاملين وتحسين بيئة العمل وتحقيق الاستقرار الوظيفي، لم يقتنع العمال بإنهاء احتجاجاتهم، واعتبروها فارغة من أي مضمون وتعتمد على المماطلة والتسويف، وتتجاهل أهم ثلاثة مطالب وهي صرف العلاوات المتأخرة، وتثبيت المؤقتين، وإقالة عماشة.
تلت ذلك محاولة جديدة، حيث صرفت الإدارة فروق الضرائب عن سنة من 8 سنوات مستحقة للعمال، وهو ما اعتبره المحتجون استهانة بمطالبهم ونظموا تظاهرات جابت مواقع العمل مرددين "مش هنبطل وقفات.. إلا بعد العلاوات".
بعد 12 يومًا من الاحتجاجات، قرر العمال تعليق فعالياتهم "مؤقتًا"، مع إبقاء إمكانية تجددها واردًا بقوة، إن حاولت الإدارة التنصل من تنفيذ المطالب الرئيسية للعمال، والاكتفاء بـ"إلقاء الفتات لهم" على حد وصف أحد العمال.
فقد شريف مؤخرًا حلًا يتمثل في فيزا المشتريات يواجه به العجز الكبير في مصروفاته الشهرية. لكن مديونية 50 ألف جنيه أخرجتها من الخدمة، فعاد إلى الاستدانة من أقاربه وأصدقائه، حيث أصبح السَلَف عملية مستمرة تبدأ في اليوم العاشر من كل شهر حتى موعد صرف راتبه الجديد، ليسدد جزءًا من ديونه، ثم يعيد الكرَّة في الشهر التالي.
ينتظر مفتش العدادات أن تثمر الاحتجاجات التي شارك فيها وسط زملائه فربما يتوقف ولو قليلًا التفكير الدائم في كيف يكمل الشهر، وإلى من يتوجه لطلب سلفة.
* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر

