بدأ أحمد العشري، 27 سنة، عمله صنايعي حديد مسلح منذ عام 2017، ورغم سكنه في محافظة الدقهلية، اضطر لنقل نشاطه إلى مواقع في العاصمة الإدارية الجديدة على بعد أكثر من 140 كيلومترًا من مسقط رأسه.
يفسر العشري ذلك بأن نشأة العاصمة تزامنت مع وقف تراخيص البناء، فانتقل الآلاف ممن اعتادوا العمل في الريف أو ضواحي القاهرة إلى المشروع العقاري الأكبر للدولة في الوقت الراهن.
أكثر من 500 مليار جنيه أنفقتها الدولة على البنية الأساسية للعاصمة الجديدة، ودافعت عن جدوى هذا الاستثمار من منطلق إسهامه في إحداث طفرة عمرانية بصحراء شرق القاهرة وتوفير فرص العمل، لكن عمال البناء الذين التقيناهم يقولون إن ما طالته أياديهم من هذا الإنفاق لا يكفي احتياجاتهم الأساسية، ويتساءلون لصالح من ترتفع هذه المباني الشاهقة؟
البناء في سنوات التضخم
"أول ما العاصمة طلعت تزامن ده مع وقف الشغل في المباني في كل حتة في مصر، الشغل في مناطق حوالينا كان كويس، بعد كده بقى سفر وبهدلة" يقول العشري، الذي كان يعمل في نشاط البناء في مناطق محيطة بمدينة المنصورة.
كان الرئيس عبد الفتاح السيسي ألقى خطابًا شهيرًا عام 2020 مهد فيه لإجراءات حازمة تقيّد حركة البناء غير المرخص أو المخالف للقانون، واستجابة للخطاب أصدر وزير التنمية المحلية السابق محمود شعراوي قرارًا كلّف فيه المحافظين بوقف إصدار التراخيص الخاصة بإقامة أعمال البناء أو توسعتها أو تعليتها.
قبل تقييد البناء بأربعة أعوام، خصص الرئيس 170 ألف فدان لإنشاء عاصمة جديدة شرق القاهرة، وعهد بإدارة المشروع لشركة مساهمة تتوزع ملكيتها بين هيئة المجتمعات العمرانية والقوات المسلحة، مُمثلةً في جهاز أراضي القوات المسلحة، وجهاز الخدمة الوطنية.
وتعرض مشروع العاصمة الإدارية الجديدة لانتقادات واسعة، بسبب الإنفاق الاستثماري الضخم في وقت لا توجه فيه الدولة الحماية الاجتماعية الكافية لمواجهة معدلات تضخم بلغت في 2023 مستويات غير مسبوقة.
"أول ما ابتديت شغل كانت يومية مساعد الصنايعي 90 جنيه والصنايعي 130 جنيه، دلوقتي المساعد بياخد ما بين 200 و220 جنيه، والصنايعي 350 جنيه ورغم كدا مش مكفيين"، يقول العشري.
أحمد منصور (*)، من قرية درنكة في محافظة أسيوط، الذي انتقل للعمل في العاصمة في 2016، يُجري مقارنات مشابهة عن دخله قبل وبعد موجة التضخم الأخيرة.
"في 2016 و2017 يومية الصنايعي كانت ما بين 140 و160 جنيه، بصرف منهم 30 أو 40 جنيه على نفسي وأبعت 120 جنيه للبيت كمصروف، في وقت كان أتخن بيت في بلدنا بيصرف 50 جنيه في اليوم"، يقول منصور.
رغم ارتفاع أُجرته حاليًا فإنها لم تعد تكفي احتياجاته "دلوقتي اليومية 350 جنيه باخد منها 150 جنيه مصروفي لأن الكانتين اللي جنب موقعي بيبيع أغلى من الأسعار العادية، والـ200 جنيه للبيت ومبتكفيش".
يتمتع محمد عبد الواحد، 42 عامًا، بدخل أفضل، باعتباره مُلاحظ عمال في العاصمة، لكنه لا يغطي احتياجاته الأساسية أيضًا "الأول كان 8 آلاف جنيه تكفيني من كل شيء إيجارات وأكل وشرب ومصاريف العيال، دلوقتي 15 ألف جنيه ومش مكفيين وأنا تعبان، اللحمة دي مثلًا مبقتش تخش البيت والفراخ على فترات، ومبقاش فيه مصيف ولا لبس جديد ليا عشان خاطر أكفي العيال".
ظروف العمل
ولا تقتصر قسوة التجربة على عدم مواكبة الأجر لمستويات التضخم الأخيرة، لكن أيضًا ظروف العمل في مكان ناءٍ مثل العاصمة الجديدة التي تبعد عن القاهرة بنحو 40 كيلومترًا، ولا تتوفر مساكن للعمال بالقرب منها.
"الصنايعية كلهم في العاصمة كانوا بيباتوا في المواقع أو الجبل، كان نادرًا أما مقاول ياخد لعُماله عمارة في مدينة بدر، طبعًا كل الصنايعية شايفين إنهم متمرمطين، الأول كانوا بيشتغلوا جنب البيت ويكسبوا أكتر دلوقتي بيناموا في الجبل ويكسبوا أقل"، يضيف العشري.
في الصيف بتتمنى الشمس تختفي من كتر ما إنت حاسس إنها فوقك
يشرح العشري بشكل أكثر تفصيلًا أجواء معيشة عمال العاصمة "كنا بنبقى حوالي 15 عامل مثلًا معناش إلا فرشة وبطانية، طبعًا الواحد متعود على البهدلة بس الجو في الصحرا كان صعب، أنت الصبح في الصيف مثلًا بتتمنى لو الشمس تختفي. وفي الشتاء مقولكش على البرد اللي بيضرب في عضمك".
يبدو منصور أكثر اعتيادًا على ظروف العمل الصعبة مقارنة بالعشري, يتحدث عن النوم في العراء كأمر اعتيادي بالنسبة له "كنا بنّام أكتر من 20 أو 30 نفر على الخشب اللي بنشتغل بيه، وكان عادي تلاقي المطرة نازلة فوق دماغنا واحنا نايمين، أو الهواء من قوته بيطيّر حاجتنا كلها".
لكن ما يضيق به صدر منصور هو التعامل مع الجهات التابعة للقوات المسلحة، التي تتولى الإشراف على أعمال إنشائية هناك، بسبب خشونة التعامل أو ما يطلق عليه منصور "المعاملة الميري".
لمن تبنى العاصمة؟
في مقابل المتاعب التي واجهها منصور والعشري في العاصمة، يسيطر عليهما شعور بأنهما يبنيان عالمًا جديدًا لكنه ليس لهما.
"الإيد قصيرة رغم إن العين بصيرة بكل الصرف والفخامة اللي في العاصمة"، كما يقول منصور.
اختار الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يؤدي اليمين الدستورية للفترة الرئاسية الثالثة، في أبريل/نيسان الماضي، من مجلس النواب في العاصمة الإدارية الجديدة، وخلال سير موكب الرئيس اهتمت وسائل الإعلام الرسمية بتصوير الأبراج الشاهقة في العاصمة الجديدة، التي تعكس جانبًا من إنجازات الرئيس خلال الفترتين السابقتين.
"العاصمة مش معمولة لينا أصلًا ومش مكان الغلابة" يقول منصور بشكل قاطع، مستبعدًا التفكير في الانتقال للسكن بها في أي مرحلة من حياته بسبب الارتفاع البالغ في أسعار وحداتها السكنية، الذي يتراوح بين 17 ألفًا و25 ألف جنيه للمتر.
يعاني الصعيد، الذي يشمل المئات من القرى الفقيرة على غرار درنكة، مسقط رأس منصور، من شح الاستثمارات الحكومية، ما يجعل منصور وغيره من سكان المناطق المحرومة لا يشعرون بالفخر القومي الذي يبديه بعض الإعلاميين بالأبراح العالية في "العاصمة الجديدة".
بالنظر إلى التوزيع الجغرافي للاستثمارات الحكومية على الأقاليم والمحافظات في الموازنة العامة للدولة من 2014/2015 حتى 2021/2022، نجد أن إقليم وسط الصعيد كان الأدنى حظًا، إذ نال 4 مليارات جنيه فقط من الاستثمارات الحكومية مقارنة بنحو 20 مليار جنيه لإقليم القاهرة الكبرى.
يمتد التفاوت كذلك إلى الاستثمار الحكومي في العمران، ففي موازنة السنة المالية 2016/2017 حاز 98% من السكان 66% فقط من الاستثمارات العامة بالمشاريع المحلية، بينما حاز الـ2% الذين يسكنون المدن الجديدة على 34% من الاستثمارات، "بما يُظهر استمرار التوجه السياسي إلى مفاضلة المشاريع القومية بالمدن الجديدة (مثل العاصمة الإدارية الجديدة) على احتياجات السكان بالمدن والقرى القائمة بهذه المحافظات"، حسب مرصد العمران.
هذا التفاوت في الخدمات أجبر منصور، الذي يعيش بأسيوط، على السفر إلى القاهرة بحثًا عن مستشفى جيد تتوافر به كامل التجهيزات للكشف على والدته، التي تبيّن لاحقًا معاناتها من ورم كبير بقاع المخ.
تعيّن على منصور خلال رحلته الدائمة بين أسيوط والقاهرة أن يختبر بنفسه واقع التفاوت بين العاصمة الإدارية ودرنكة حيث نقص المياه وتدني خدمات الصرف الصحي والكهرباء وتراكم تلال القمامة. وهو تفاوت شاهق بمقدار ارتفاع البرج الأيقوني.
أما العشري فقرر ترك العمل في العاصمة الإدارية قبل عامين لما فيه من اغتراب وظروف قاسية وتكلفة مرتفعة؛ مُفضلًا العمل في محل بقالة قريب من منزله "يوميتي حاليًا 200 جنيه، صحيح هي أقل من يومية الصنايعي لكن مفيش شقا تحت الشمس ولا مسافر بعيد عن بيتي وأهلي، وحتى مصاريفي الشخصية بقت أقل". وفي هذه الأثناء، يتمنى لو أن جزءًا صغيرًا مما شاهده في العاصمة يمتد إلى حيّه الذي لم تطله يد التطوير بعد.