خاض عمر محروس* تجربة "العزال" من شقة إلى أخرى مرات عدة، حتى استقر به الحال منذ خمس سنوات في مدينة الشيخ زايد، غرب القاهرة، حيث استراح لهدوء الحياة داخل الكومباوند المسور، ولم ينقصه أي من الخدمات الأساسية التي اعتاد على توافرها داخل القاهرة.
محروس واحد من آلاف الموظفين ممن تعرض عليهم الحكومة هذه الأيام الانتقال للعمل في أقصى شرق القاهرة بالعاصمة الإدارية الجديدة، والسكن في مدينة بدر بتسهيلات مالية ميسرة للغاية، كأحد الحلول المتاحة للاقتراب من موقع عمله، لكنه حسم موقفه بالبقاء في موقعه الحالي بهيئته الحكومية بالشيخ زايد.
بالرغم من أن بدر تأسست في الثمانينات، لكن الحياة لم تدب فيها بنفس النشاط الذي تبدو عليه في مدن مثل زايد وغيرها ممن تأسست في فترات لاحقة، وهي واحدة من الأسباب الأساسية التي تدفع الكثيرين للتردد بشأن الانتقال إلى هناك.
لا ينوى عمرو محروس، وهو موظف خمسيني، الترحال من مكان عمله الذي يبعد بضعة دقائق عن منزله الحالي، بالسيارة، إلى مكان آخر يستنزف الكثير من وقته، كما أنه ليس مطروحًا على أجندة أسرته أن ينقل حياته إلى مدينة بدر، لذا أبلغ مديريه بنواياه من البداية.
وبينما حسم موظفون مثل محروس قرارهم بالاستقرار في مواقعهم وعدم الانتقال إلى العاصمة الجديدة، هناك آخرون يزورون بدر بين الحين والآخر لدراسة فكرة العيش بالقرب من العاصمة، وفريق ثالث يفكر في الاستفادة من بدل الانتقال المعروض على موظفي العاصمة الجديدة لتغطية تكاليف انتقالهم حال بقائهم بمساكنهم الحالية.
المنصة تابعت مع بعض موظفي الحكومة خططهم الحياتية للبقاء أو العزال، ونحن نقترب من أول مرحلة لنقل الموظفين للعاصمة الجديدة، والمتوقع بدءها في الربع الأخير من هذا العام.
بدر الصحاري
بحسب البيانات المنشورة على موقع هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، فإن عدد سكان مدينة بدر يبلغ 180 ألف نسمة، وهو ما يبدو أقل بكثير من عدد السكان في مدن جديدة مثل الشيخ زايد والتي يصل عدد سكانها إلى 350 ألفًا.
اختيار الدولة لبدر كمكان لسكن موظفي العاصمة الجديدة لم يرتبط بمدى جاذبيتها للسكن، ولكن كونها من أقرب النقاط للدواوين الوزارية الجديدة، حيث لا تبعد عنها سوى 15 دقيقة.
في هذا السياق تم تأسيس مشروع لمساكن الموظفين المنتقلين إلى العاصمة الإدارية في الامتداد الشرقي لمدينة بدر، على مسافة 15 كيلو مترًا من محل عملهم الجديد في العاصمة، وسيصل سعر الشقة فيه إلى 450 ألف جنيه مع تسهيلات واسعة في السداد.
الطريق إلى تلك المساكن لم يكن سهلًا، حيث لا يعرف كثيرون من سكان بدر شيئًا عن المكان الذي سيستقبل موظفي العاصمة الإدارية، حتى مع الإشارة إلى أنه المكان الذي افتتحه رئيس الجمهورية قبل شهر من الآن.
وبالرغم من الهدوء الشديد المسيطر على المجمع السكني، لكن المكان لا يبدو نائيًا، فهو يبعد بمسافة بضعة دقائق فقط، بالتوكتوك، وسيلة الانتقال الأكثر شيوعا بالمنطقة، عن أقرب مركز تجاري لمدينة بدر، حيث وضعت مخططات لإنشاء خدمات قريبة من مساكن الموظفين في مجالات التعليم والصحة والرياضة.
هيئة المجتمعات العمرانية انتهت من تنفيذ جميع الإنشاءات الخدمية المكملة مع تسليم المشروع، لكن لا يزال تشغيلها متوقفًا على استلام الموظفين للوحدات السكنية المتعاقد عليها، حسبما يوضح عمرو خطاب، المتحدث باسم وزارة الإسكان.
وغير معلوم حتى الآن عدد من تقدموا للحجز في وحدات الموظفين، إذ يشير خطّاب، في تصريحات للمنصة إلى أن هذا الملف برمته في قبضة مجلس الوزراء، نظرًا لارتباطه بملف اختيار الموظفين المؤهلين للعمل في الهيئات الحكومية بالعاصمة، وبناء عليه لا توجد أرقام معلنة بعدد الموظفين الراغبين في حجز وحدات بدر.
غير أن البعض مستعد لتحمل بعض مشاق السكن هناك مقابل الترقي الوظيفي، فقد أصبح الانتقال إلى بدر بمثابة وسيلة للوصول إلى وظيفة طموحة في العاصمة الإدارية.
إلى الشرق قليلًا
يتوقع الكثير من الموظفين أن يحصلوا على مناصب بامتيازات مهنية ومالية أكبر حال انتقالهم إلى العاصمة الجديدة، التي تتمتع بنيتها الأساسية بتقنيات تكنولوجية عالية التطور، وهو ما يجعل موظفين شبان مثل خالد كمال يفكرون جديًا في الانتقال إلى بدر.
يسكن كمال حاليًا في حدائق الأهرام، ويرغب بشدة في العمل بالعاصمة الجديدة، وبعد دراسة لبدائل السكن الأخرى القريبة من العاصمة لم يجد أفضل من مشروع سكن مصر في بدر، بسبب التيسيرات المالية التي تقدمها الحكومة للانتقال هناك.
"البلد كلها رايحة شرق، الإدارة والعمران والمستقبل كله في هذا الاتجاه، لماذا لا أقترب أكثر وأنتهز الفرصة لأكون كادرًا حكوميًا متطورًا؟" يقول كمال.
تبلغ مساحة الوحدة السكنية في بدر 118 مترًا، وتقدم الحكومة تسهيلات لموظفيها بدفع 25% من سعرها مع تقسيط الـ75% على 7 سنوات، وهي بديل ميسر للسكن مقارنة بشقق الإسكان الخاص في العاصمة الجديدة التي يبدأ سعر المتر فيها من 9 ألاف جنيه ويصل إلى مستويات تتجاوز الـ 20 ألفًا.
ومن بدائل سكن الموظفين هو الشراء في شقق مخصصة لمحدودي الدخل في مدينة حدائق العاصمة، وهي مدينة جديدة صدر قرار رئاسي بتأسيسها في 2020، وتقع ناحية بدر وقريبة من العاصمة الإدارية.
وهناك إمكانية أيضًا لشراء الموظفين شقق في الحي الثالث داخل العاصمة الإدارية بتيسيرات في السداد، ولكن مدى جدوى هذه البدائل يتوقف على سعر الوحدة أو تطور مستوى الخدمات في تلك المشروعات الجديدة، وهو ما سيتضح بشكل أكبر خلال الفترة القادمة.
بالرغم من حماسه للعمل في العاصمة، لا يخفي كمال قلقه من عدم توافر الخدمات الاجتماعية في بدر حتى الآن "يهمني أعيش في مكان عمران كله خدمات ومحاط بطبقة اجتماعية تشبه أسلوب حياتي".
أما أحمد عيد، فاختار حلًا وسطًا، سينتقل للعمل في العاصمة ولكن سيسكن في واحدة من الأحياء القديمة بشرق القاهرة، حتى لا يفتقد الخدمات الأساسية التي اعتاد عليها.
منذ ثمان سنوات استقر عيد في منطقة حدائق الأهرام، التابعة لحي الهرم بالجيزة، وهي قريبة نوعا ما إلى قلب القاهرة، حيث نطاق عمل الأسرة، لكنه قرر مؤخرا أن يستأجر شقة في مدينة نصر، التي تبعد نحو 30 دقيقة من الحي السكني للموظفين في مدينة بدر، يسدد إيجارها من "بدل الانتقال"، كي يحافظ على نمط حياته المرتبط بالقاهرة ولا يضطر لقطع كيلومترات أكثر يوميًا إلى العاصمة.
"لن أنتقل إلى مدينة بدر وأكدر حياتي بالابتعاد عن القاهرة ونطاق عمل زوجتي، ولن أبقى بحدائق الأهرام وأنتقل من أطراف الجيزة إلى السويس يوميا" يقول عيد.
لا يريد عيد كسر نظام حياته الليلي الذي أحب القاهرة من أجله، وهو ما يتوقع المساس به إذا ما انتقل إلى مدينة نائية كبدر، ورغم امتلاكه لسيارة، لكن عيد لا يتخيل تأخره كما يفعل حاليًا في هضبة الأهرامات، أو مسكن أسرته بشارع السودان.
يحمل عيد هما آخر: الأسرة، فأبناؤه يزورون والديه باستمرار، مرتين في الأسبوع، وهو ما سيتغير بالضرورة حال انتقاله إلى مكان أبعد.لذا تمثل مدينة نصر بالنسبة لأسرته "أفضل حل وسط" خصوصا بعد أن ساهمت سلسلة الكباري التي نفذتها الدولة في تحقيق سيولة مرروية لمنطقة طالما اشتكى منها روادها.
وكانت الحكومة أعلنت عن توفير بدل انتقال شهري للموظفين المنتقلين إلى العاصمة الجديدة، بقيمة 2000 جنيه، في حال عدم سكنهم ببدر، ويمثل هذا البدل ضرورة حتمية نظرًا إلى أن المساكن التي تم الانتهاء من بنائها في بدر تقتصر على نحو 9000 وحدة، أي أقل من نصف عدد الموظفين المتوقع انتقالهم.
أما عصام محمود، فقرر الاعتماد على البدل للانتقال، لأنه لم يفكر في تغيير مسكنه الحالي.
بدل البنزين
بدت فكرة الاعتماد على البدل واقعية بالنسبة لمحمود، كونه يسكن في شقة مطلة على الطريق الدائري، أحد الطرق السريعة المؤدية للعاصمة الجديدة، ويمتلك سيارة خاصة. يقول للمنصة" أنفق حوالي 1200 جنيه شهريا على بنزين السيارة، ومع الانتقال للعاصمة سيكون البدل كافيا لتغطية الزيادة في تكاليف البنزين، كما أن الطريق للعاصمة أكثر سهولة من طريق عملي الحالي في منطقة وسط البلد وسط زحام القاهرة".
وبينما يحاول العديد من الموظفين إيجاد حلول بديلة للسكن في بدر، فإن سكان بدر الأصليين يرون أن مدينتهم ليست بالقسوة التي تبدو عليها عند زيارتها لأول مرة.
ظلت مدينة بدر لسنوات طويلة غير مأهولة بالسكان وتفتقر الخدمات إلى أن باتت مدينة حيوية يتوفر بها الأسواق والمدارس وكذلك الجامعات، وهو ما سيحدث مع مرور الوقت لمساكن الموظفين، كما يقول فيصل الصعيدي أحد قدامى السكان ببدر.
تأسست بدر، الواقعة على طريق السويس في إطار مخطط حكومي للتوسع العمراني خارج شريط النيل، وتم التخطيط لها كمدينة صناعية، لتضم العشرات من المصانع، منها الصناعات الكيماوية والغذائية.
يعيش فيصل، مع أسرته الصغيرة المكونة من 3 أفراد، في بدر منذ 15 سنة، يحترف التجارة وهي مهنة رائجة هناك بفضل توافر منتجات المصانع القريبة، ويجيد قيادة السيارات لذا لا يشعر بمشكلة مع محدودية وسائل المواصلات العامة.
"لا ينقصنا أي حاجة، عندنا أسواق وناس بترزق من المصانع، ومدارس" يتحدث فيصل وهو ينفث سيجارته قبل صعود عربته المكشوفة لنقل البضائع بين أسواق التجزئة.
دائرة الحيرة
لكن البعض لم يصل بمرور الوقت إلى نفس حالة التصالح مع المدينة، مثلا وائل إبراهيم الذي حصل على شقة إسكان اجتماعي هناك منذ زمن طويل، لكنه لا يزال يخشى الانتقال إلى بدر، يقول للمنصة "أسكن في أقرب مكان إلى شغلي بالنجارة في الدرب الأحمر، ومستحيل دلوقتي أركب ساعة وشوية مواصلات غالية كل يوم ووقت رايح، لم يأذن الله بعد أن أعيش في بدر".
يظل حلم السكن في مدينة جديدة وهادئة يلح على مواطنين من سكان العاصمة القديمة مثل إبراهيم، لذا فهو يزور شقته في بدر بين الحين والآخر ويراجع نفسه بشأن مخططات الانتقال، وبينما يراهن إبراهيم على جهود الدولة لإنشاء العاصمة الإدارية في أحياء المدن القريبة منها مثل بدر، يترقب موظفو الحكومة تطور الحياة في بدر حتى ينتقلون إليها وهم مستريحي البال، وهكذا تبدو الأمور وكأنها تسير في دائرة مفرغة.
* اسم مستعار