لم يقف الثمن الذي دفعته القاهرة عند ما تناولته في المقال السابق عن تحول العمران إلى وسيلة للاستبعاد الطبقي، بل كان عليها أن تخلع جزءًا كبيرًا من ردائها التليد الذي يميزها كمدينة عريقة، بعد أن تحولت السلطة إلى "شركة عقارات كبرى" تضع الربح أولًا نصب عينيها.
بدأ هذا بالتخلص من بعض الأحياء العشوائية الطافحة حيث البيوت المتداعية والأكواخ والعشش وعزب الصفيح، لنقل سكانها إلى أماكن أخرى بشروط قاسية، بينما وضعت السلطة يدها على الأرض التي خلت، وأعادت بناءها وطرحها للبيع بأسعار لا تناسب الفقراء.
ووفق ما رصده الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق في كتابه عشش وقصور، فإن التجمعات الجديدة هذه اتسمت بعدة خصائص، فهي تكاد تكون مجتمعات مغلقة على سكانها يحيطها سور وبوابات للحراسة، تتميز بالجمال والاتساع وتضم وحدات سكنية راقية بنيت بتكلفة أعلى من المجتمعات العمرانية للفقراء ومتوسطي الدخول. ويشير أيضًا إلى أنها حققت أرباحًا طائلة للشركات التي نفذتها، ومعظمها عربي و أجنبي ومشترك، "ومع هذا لم تخضع لقوانين الضرائب بشكل دقيق، بما يتناسب مع حالة الثراء التي تميز أصحابها".
قُدَّم ذلك كله في إطار التطوير، ولا بأس إن قارنَّا بين هيئة المباني التي هدمت وتلك التي قامت مكانها. لكن الدوافع الاقتصادية، ذات النزعة الرأسمالية المتوحشة، وكذلك الاعتبارات الأمنية، جعلت هذا المشروع يدخل حيز الاستحواذ على ثروة تمنحها أرض في أماكن مميزة، أكثر منه تعبيرًا عن رغبة في انتشال سكان العشوائيات من حياة بائسة.
في الوقت نفسه، فإن الأحياء العشوائية التي تمددت بطول مختلف المدن وعرضها بسبب غياب التخطيط والفساد هي أكبر من طاقة السلطة الراهنة على إزالتها أو تطويرها.
بحث لا ينتهي عن المال
لم تلبث القاهرة أن خلعت قطعة أخرى من ردائها التاريخي، بهدم المقابر، دون أدنى اعتبار لحرمة الموتى، أو توفير مقابر بديلة على نفقة الدولة لأهاليهم. شخصيات بارزة في الفكر والأدب من ابن خلدون حتى يحيى حقي وإحسان عبد القدوس، وشخصيات سياسية من أمراء مماليك وحتى أسرة محمد علي. نجا فقط قبر طه حسين بعد أن هددت حفيدته بنقل رفاته إلى فرنسا، وإن كان قد أقيم أعلاه كوبري، شوه منظره، وترك العميد معزولًا بين الراحلين والمقيمين.
وفي الوقت الذي امتدت فيه يد التغيير الجارحة إلى الإسكندرية لتحول بين سكانها والبحر، حيل بين سكان القاهرة والنيل، فالعين التي ترى المال قبل الجمال والعقل الذي يؤمن بأن الثروة في الأرض فقط، سنَّا من القوانين ونفَّذا من التدابير، ما تسبب في تغيير شكل المدينة. فبعد إخلاء سكان حي بولاق أبو العلا، يتم تدريجيًا إخلاء سكان عدة مناطق في العاصمة مثل جزيرة الوراق، وخارجها مثل رأس الحكمة والضبعة.
وفي وقت كان معمار الريف يواصل طريقه إلى تغير عميق، حين بدأ في التوسع الرأسي تحت ضغط الزيادة السكانية، واضطر إلى استبدال الأسمنت المسلح بالطوب اللبن والحجر.
لو أن رجلًا ركب القطار من أسوان إلى الإسكندرية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، ثم كرر الرحلة اليوم بعد أربعين عامًا، سيتمكن بسهولة من وصف ما جرى لبنيان تمدد، بشكل عشوائي، فأكلَ الرقعة الزراعية، وأقحم كل قرية في جارتيها عن اليمين واليسار، والخلف والأمام، في امتزاج مخيف.
ولو أمعن هذا المسافر التفكير والبحث عن سبب ما جرى، سيدرك كيف غفلت القوانين أو نامت، وكيف فسد رجال الإدارة المحلية أو تواطأوا، وكيف فقدت السلطة السياسية زمام الأمر، مستهينة أو مغمضة العينين أو خائفة من تبعات تدخل لا تقدر على تمويله، وقد تجد نفسها في صراع مع مجتمع سُدت أمامه أبواب التمدد العمراني المنظم. سيعرف أكثر عواقب تحكم قوة معينة في أرض الدولة كلها.
كُتبت دراسات في السبعينيات عن نقل قرى صغيرة إلى الصحراء، لإنقاذ الرقعة الزراعية، ووضعت خطط لإنشاء مدن في قلب الصحراء الغربية في مواجهة المدن التاريخية، لكن غياب التنفيذ، والإصرار على إنشاء مدن قريبة من مركز المدن الكبرى، وعدم تفهم حاجة الريف الذي تقطنه أغلبية السكان إلى السكن، صنع كل هذا التشوه، حين دخلت القرية على أختها، وتمطأت المدن لتبتلع أحياء جديدة أقيمت على أطرافها.
العمارة المصرية المعاصرة، شأنها شأن أي عمارة في أي مكان وزمان، ليست مجرد ملاذات تحمي الناس من العراء، إنما هي معنى ورمز وصورة عن أنماط التفكير، وأساليب الإدارة، وعلاقة الشعب بأهل الحكم، ونظرة الناس إلى الحال والمستقبل.
وسبق للمعماري الفذ رفعة الجادرجي أن ربط في كتابه المهم في سببية وجدلية العمارة بين الأبنية المعمارية والحاجة الاجتماعية والتقنية الاجتماعية والفرد المفكر الفاعل الذي يمثل مجتمعًا يعي قيمة العمارة، فيُقدِم على ابتكارها وتصنيعها، وتشغيلها كأداة ترضي حاجته.
هناك حاجات ثلاث من وراء العمارة، وفق الجادرجي، أولها الانتفاع، حيث المتطلبات الأساسية التي تؤمِّن الوجود، والمتمثلة في أشكال مثل الدار والقلعة والملجأ والمخزن، وثانيها الرمزية، حيث دور العمارة في تحديد هوية الفرد والمجموعة من خلال الأشكال التي تتخذها، وثالثها يتعلق بالأثر النفسي والثقافي الذي يحدثه المبنى المعماري بوصفه وثيقة تاريخية، وكونه حصيلة تفاعل بين الفكر والمادة.
لهذا لم يكن غريبًا أن يتبنى مأمون فندي في كتابه العمارة والسياسة المنظور العمراني لتفسير ما جرى للمجتمع المصري خلال النصف الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحالي، بل إنه ربط الميادين والشوارع والأزقة وصولًا للعشوائيات، بالتخطيط المنظم والمركزي أو العشوائي التام والخالي من أي أفكار. ولمس علاقة العمران بالوعي الخاص والعام، لا سيما من زاويتي السياسة والتدين والقانون، وإدراك الفرد والمجتمع لفكرة الوطن والمواطنة.
ضخامة البنيان وضآلته
تعكس البنايات المصرية الأنماط التي تراوحت بينها العلاقة بين السلطة والمجتمع في العقود الأخيرة؛ التواطؤ والغفلة والتنصل والإجبار والتمييز، وكيف عكست التركيب الطبقي في تغيره، بالذات بعد الانفتاح الاقتصادي عام 1974 وحتى الآن، وكيف عبرت عن أنماط الملكية.
فالإحصائيات تقدر أن نحو 70% من المساكن هي ملك خاص، لأن المصري يميل بطبعه إلى الثبات في المكان، كما أن أغلب السكان يقطنون الريف، وهناك يمتلك الناس دورهم وحظائرهم، كنقطة ارتكاز أساسية في الحياة الاجتماعية، ويحرصون على هذا أكثر من حرصهم على تملك الأرض الزراعية. والنزوع إلى الثبات أيضًا جعل الإيجارات القديمة تحتل المركز الثاني بنسبة تصل إلى 15%.
والمساكن أيضًا تدل على عجز قطاع من الشعب عن تحصيل الأمان في السكن، فنحو 1.5 مليون مبنى معرض لخطر الانهيار، نحو ثلثها أوشك على السقوط فعلًا، لكن كثيرًا من ساكنيه يتمسكون به حتى الرمق الأخير، ولذا لا يمر شهر إلا وتحمل لنا الأخبار سقوط مبانٍ عدة، بعضها ينهار على رؤوس ساكنيه.
وتعكس مشروعية المباني وحالتها شكلًا من الفوضى السائدة، وتُظهر قدرة المجتمع على التحايل على القوانين، لأنها لم تعد تواكب التطور المتلاحق للحياة الاجتماعية. فنحو 90% من المباني في مصر مخالفة لتصاريح البناء والمواصفات القياسية له، وفق الإحصائيات التي أوردها عبد الخالق فاروق في كتابه المشار إليه سلفًا، استقاها من مصادر رسمية. كما أن نصف المباني تقريبًا يحتاج إلى صيانة.
واستمر التحايل في الالتفاف على قرارات إزالة زادت على المائة ألف قرار لمبانٍ آيلة للسقوط، وملايين المباني غير المرخصة، لكن تنفيذ هذا بالفعل سيصنع مشكلة كبرى للسلطة السياسية، لذا لم تجد أمامها، وفق تفكيرها المستمر في الجباية أو الرضوخ لواقع لا تستطيع تغييره، بُدًّا من إطلاق حملة تصالح مع أصحاب هذه البنايات، لتبقى على حالها من الفوضى والعشوائية.
وهناك جانب من البنيان يعكس التفاوت الطبقي المتصاعد في الحالة المصرية خلال السنوات العشر من حكم الرئيس السيسي. فلا وجه للمقارنة بين ضخامة البنيان وفخامته في المدن الجديدة المسورة، وضآلته في الأحياء الشعبية القديمة والمناطق العشوائية أو تجمعات سكن الموظفين والعمال. وحتى إن قامت مبانٍ ضخمة في بعض الأحياء الشعبية، فإنها تعاني نقص بعض الخدمات، وسوء التخطيط، وغياب التناسب بين حجمها والشوارع التي تضمها.
في الوقت نفسه لا يجهد الناظر إلى شكل الشوارع والطرق في السنوات الأخيرة عقله لإدراك التعسف والإجبار الذي تمارسه السلطة على الشعب. حرمت الشوارع من أشجارها العتيقة، وأخرى فقدت وظائفها المعتادة لتصبح مجرد ممرات إلى المدن الجديدة المرفهة، وآلاف الشقق فقدت مزاياها بإقامة الكباري التي تحجب عنها الشمس والهواء والمدى.
ما جرى في المدن والقرى في هذه السنوات يترجم نزعة الجباية والاستحواذ التي تسيطر على ذهن السلطة، ويبين كيف تحولت الدولة من معناها التقليدي المتعارف عليه كشعب وأرض وحكم ومهام، إلى "شركة عقارات" كبرى، تتصرف كمقاول وسمسار عقارات في آن، لا كإدارة ترعى مصالح الناس، وهذا يفتح باب خطر اجتماعي كبير.