قبل كتابة هذا المقال، عدت إلى قراءة كتاب الدكتور رشدي سعيد مصر المستقبل: المياه.. الطاقة.. الصحراء.
هذه ربما قراءتي الثالثة للكتاب منذ صدوره في سلسلة "كتاب الهلال" عام 2004. بعدها، شعرت بانعدام الدافع للكتابة، على الرغم من أنَّ "زراعة الصحراء" كانت ضمن مخططي من البداية كجزء أساسي من هذه السلسلة عن علاقة السياسة بالاقتصاد، بالعمران وتخطيط المدن، وبقوة الدولة وجودة الحياة فيها.
انعدام الدافع سببه أنَّ كلَّ شيءٍ نريد قوله اليوم قِيل سابقًا، بل وفي ظروف سياسية أفضل، كان من شأنها أن تجعل الكتابة مؤثرة في صُنَّاع القرار. لكن يبدو أنَّ سطوةَ الدعاية أقوى من صوت المفكرين، وتظاهُرَ النظام السياسي بالعمل أهم من العمل نفسه، والأهداف الغامضة أهم من الواضحة. وهذه قاعدة عامة قديمة، لم توضع في السنوات العشر الأخيرة، مرتبطة بجوهر نظام يغيب فيه التوازن عن علاقة السلطة التنفيذية بالمجتمع وكل مؤسساته.
تاريخ شعار زراعة الصحراء في مصر طويل، فخّه الأقرب والأكبر مشروع توشكى، وقبله كان شعار السادات "الثورة الخضراء" وقبلهما مشروع عبد الناصر "الوادي الجديد". وكلُّ تاريخ هناك ما قبله، حيث بدأ طرح المسألة بإلحاح في العقود الأولى من القرن العشرين، وكلُّ تجربة هناك الأسبق منها، وكلُّ مغامرة يُقدم على تنفيذها أحدهم، كانت فكرة لدى شخص قبله حالت الظروف دون تنفيذها.
يعود الدكتور رشدي سعيد بخيبات الزراعة غير المخططة في الصحراء إلى عهد الرومان، الذين توسعوا في زراعة الصحراء الغربية حتى جفت الآبار وتصحّرت الواحات.
تخضير الخيال
استقراء التاريخ من الخمسينيات إلى اليوم، يؤكد أنَّ سطوة شعار تحويل الصحراء إلى جنة يطغى في الأوقات التي تستحكم فيها الأزمات الاقتصادية، وكأنه نوع من الهروب إلى الأمام، كما في الأمثولة التاريخية للمرأة التي تتظاهر بالطبخ لأطفالها الجوعى، بينما ما يغلي في القدر ليس سوى الأحجار!
يقول رشدي سعيد في كتابه "دائمًا ما كان الخبراء في جانب والمسؤولون في جانب آخر، فقد كانت للمسؤولين دائمًا أهدافهم الأخرى". عارض رشدي سعيد بقوة مشروع توشكى عند إعلانه عام 1997 بوصفه مشروعًا "قوميًا" عملاقًا، ولم يستمع لاعتراضاته العلمية أحد. وطوال عقود سابقة على توشكى، قدَّم هذا العلاَّمة العديد من الدراسات حول الصحراء والطرق الأنسب لاستخدامها، لم يؤخذ بأيِّها أبدًا.
العنوان الفرعي لكتاب "مصر المستقبل" هو "المياه.. الطاقة.. الصحراء"، ليُحيلنا إلى فكرة الدوائر المتكاملة التي تؤثر إحداها في الأخرى، والتي أنطلق منها أنا أيضًا في هذه السلسلة من المقالات؛ حيث لا يمكن تحقيق نجاح في مسار تنموي دون الآخر، وحيث لا يمكن قياس النجاح في أحد مجالات الاقتصاد معزولًا عن المجالات الأخرى.
قد تُحقق زراعة الصحراء على سبيل الافتراض مليار دولار. وبتقييم مسار زراعة الصحراء منفردًا يبدو هذا نجاحًا. لكنه سيكون فشلًا إذا عرفنا أنَّ هذا المليار الناتج سيُسبِّب خسارة مماثلة في قطاع زراعة الوادي، وخسارة رهيبة إذا عرفنا أنَّ المياه التي استثمرناها في زراعة الصحراء كان بإمكانها أن تُدر عشرة أمثال ما جنته الزراعة، إذا استُخدمت في التعدين والصناعة وإقامة مدن في عمق هذه الصحراء، تستوعب الزيادات السكانية التي تضغط على الأرض الزراعية وتستخدمها للبناء، وتضغط أيضًا على مرافق العاصمة وتضاعِف الإنفاق عليها.
لم يُقصِّر رشدي سعيد المُلقب "أبو النيل" في شرح هذه الحقائق البسيطة والواضحة، بعد استعراض موارد مصر الأساسية من المياه: النيل، والموارد الفرعية المتجددة مثل الأمطار بطول الساحل الشمالي من مِساعد إلى رفح، والموارد الجوفية وفيها المتجدد ومعظمها غير المتجدد، وهو النسبة الأكبر من المياه الجوفية (خزان الصحراء الغربية).
وطبقًا لهذا التقسيم، يعتبر سعيد زراعة الصحراء مسألة هامشية جدًا مهما اجتهدنا، ويرى أنَّ أرض الوادي والدلتا الأصلية هما قَدر مصر الذي يجب الحفاظ عليه، وأنَّ نشر الخريطة السكانية تصنيعًا في الصحراء هو الأجدى، لتخفيف الضغط السكاني والتصنيع عن الدلتا. وكما تشكك رشدي في أهمية زراعة الصحراء، اعتبر أن الاستثمار السياحي في الساحل الشمالي عَقبة أساسية في تحقيق هدف تصنيع الصحراء، بإغلاق اتصالها بالمنفذ البحري.
في كتابه، يذكر رشدي سعيد أنه جرَّب أفكاره هذه وسط نخبة من المفكرين المستقلين في أحد المؤتمرات، فلم يوافقه على رأيه إلا القلة. وهذا بحد ذاته ينبهنا إلى أن شعار "تخضير الصحراء" استعمر الوعي المصري بما فيه وعي النخبة. وهو شعار سياسي برّاق، ليس بحساب نتائجه التي لم تخضع أبدًا للتقييم، بل لبنائه على مرتكزات عاطفية، وهي الحاجة إلى مزيد من الطعام، والرغبة في الانعتاق من أسر الوادي الضيق.
لكن ما الذي حدث طوال نحو ثمانين عامًا من جهود غزو الصحراء؟ لا أحد يمكن أن يقدم إجابة علمية، ورغم الاحترام لمحبة الزرع، ولو في أصص الشرفات، فالجدوى الاقتصادية لزراعة الصحراء يجب أن تُقيَّم ضمن السياق الاقتصادي والعمراني كاملًا.
إهمال الوصايا
لا يُذكّرنا إهمال وصايا رشدي سعيد في كتاب "مصر المستقبل" إلا بإهمال وصايا طه حسين في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر"، وبين الكتابين 57 عامًا. لنلاحظ كلمة المستقبل في عنواني الكتابين، هذا المستقبل لم يأتِ إلى الآن بسبب غياب الديمقراطية، فهي النظام القادر على وقف الهدر وجمع القوى والموارد في نظام يحقق المستقبل.
يقدم "مستقبل الثقافة في مصر" وصفةً لشكل نهضة تعليمية من شأنها أن تقود مصر للمستقبل، ويقدم "مصر المستقبل" الوصفة العمرانية والاقتصادية الموازية التي من شأنها أن تحقق للمصريين بلدًا مختلفًا، لكنه لم يزل بلدًا متخيلًا؛ لأنَّ للمسؤولين أهدافهم المختلفة دائمًا، حسب تعبير رشدي سعيد الذي يتردد عبر صفحات كتابه كإيقاع حزين.
النتيجة النهائية أنَّ الوجود الزراعي في الصحراء ظلَّ مؤقتًا ولم يسهم في توسيع رقعة العمران
لا يحتاج تردي التعليم إلى برهان، بينما يبدو واقع الصحراء برهانًا كافيًا على صواب رؤية رشدي سعيد؛ فأينما توجهنا في صحراء مصر، سنجد أطلال بيت بسيط أو قصر مهجور وسط مساحة من الحطب المتناثر الذي كان يومًا شجيرات زيتون أو شتلات نخيل. وربما نرى هنا وهناك أنقاض بيت مهدوم بفعل معدات الهدم الحكومية، وسط بستان يانع أو حطب جاف. وسواء كانت الأشجار خضراء أو جافة، والبيوت قائمة أو مهدومة؛ فهناك أسباب تفسر هذا الواقع الذي لا يتناسب أبدًا مع رنين الشعار، أبرزها سياسات تمليك الأرض الصحراوية بهدف الزراعة، التي تنحصر حتى الآن في مصدرين.
الأول، هو منحٌ تقدمها الدولة لأفراد وشركات ونقابات قد يكون أعضاؤها أبعد ما يكونون عن حرفة الزراعة. ينقسم مُتلقو هذه المنح بين حالمين بلا إمكانيات، وراغبين في التسقيع والبيع بسعر أعلى، وأغنياء لا تعنيهم التكلفة بقدر ما يعني الواحد منهم الشكل الاجتماعي لمالك العزبة، والقليل منهم شركات استثمارية قادرة بالفعل على تحقيق عائد يفوق التكلفة بفضل سياسات الإنتاج الكبير بالوسائل العلمية.
أما المصدر الثاني فهو الشراء من البدو واضعي اليد، والتقدم إلى الدولة بعد تشجير محدود من أجل التمليك، وهذا النوع من تملك الصحراء احتراف لا تقدر عليه إلا القلة المجربة.
في الحالتين، دراسات الجدوى غائبة أو في أحسن الأحوال ناقصة. والبنية الأساسية التي تقدمها الدولة، في حالة الري من النيل، هي الترع المبطنة رغم أن الأفضل أنابيب المياه المدفونة لمنع البخر والتسريب الأرضي بسبب الكسور التي تنشأ عن عيوب الإنشاء وانهيارات التربة. والدولة كريمة في تقديم هذه البنية المدفوعة بالشعار أو الرغبة في تنفيع المستثمرين، كما في حال مشروع توشكى عندما أنفقت 16 ألف جنيه بنية أساسية للفدان، وباعته بخمسين جنيهًا!!
في حالة ري الآبار، لا تتكلف الدولة شيئًا. حتى دراسات الملوحة يقوم بها المستثمر لنفسه، ولا توجد أي ضمانة لعدم جفاف الآبار بسبب غياب تقديرات الخزانات الجوفية وغياب ضوابط الاستخدام ومنع التوسع الجائر. وهذا النوع من الاستثمار مرشح للانهيار أكثر من غيره.
وفي حالة ري الأمطار، هناك غموض في تجاهل الدولة لهذا المصدر في السواحل الشمالية، غموض يجد تفسيره في شهوة الاستخدام السياحي لدى الدولة.
الصفر الكبير
في كل الأحوال هناك سؤال معلق عن الجدوى الحقيقية لزراعة الصحراء في ضوء ما تحققه مقابل جدوى إنشاء المدن الصناعية. وعلى القدر نفسه من الأهمية، سؤال آخر عمَّا حققته زراعة الصحراء للمعضلة العمرانية والسكانية.
الجواب صفر كبير؛ فالدولة التي دفعت المليارات لحفر الترع وتبطينها، لم تكمل جميلها بخلق تجمعات وقرى صغيرة في المناطق الزراعية الجديدة، تضم بيوتًا للعمال الزراعيين مع المرافق الضرورية التي تغريهم بالانتقال للعيش فيها مع أسرهم، وتخفيف العبء عن الأرض السوداء.
ما يحدث بعد ثمانين عامًا من تجارب زراعة الصحراء أنَّ العامل يعيش في المزرعة حياة صعبة بلا وجبة ساخنة أو أنيس، تاركًا وراءه أسرته في قريته الأصلية، يعود إليها في عطلات قصيرة.
المدهش أنَّ الحكومة لا تكتفي بالتقاعس عن إنشاء البيوت، بل تهدم بعضها، على الرغم من وجود نسبة للبناء في كل أرض زراعية، لكنَّ طريق التراخيص شاق ووعر. وهذا يعيدنا إلى ما كتبته في بداية هذه السلسلة من المقالات عن غموض التشريعات واللوائح التي تُسهِّل إدانة الجميع وإيهامهم بارتكابهم الخطأ. وهذا يضع في يد الموظف دائمًا الأسباب للتذكير بوجوده؛ فإما الهدم أو بقاء البناء مهددًا على الدوام.
والنتيجة النهائية أنَّ الوجود الزراعي في الصحراء ظلَّ مؤقتًا، ولم يسهم في توسيع رقعة العمران.