لا أذكر متى أصبح سد النهضة "قضية موسمية" فيما تبقى من المجال العام بمصر. يبدأ النقاش مع إعلانات أديس أبابا عن نجاح ملء خزان السد سنويًا أو تعلية أمتار إضافية، وينتهي سريعًا ببيانات وزارتي الخارجية والري لإدانة التصرفات الإثيوبية الأحادية.
لكنَّ ظني أن كثيرين يعرفون كيف حدث هذا التحول الذي تراجع معه الاهتمام الشعبي بقضية حساسة وحيوية، تكاد تكون أهم ما يهدد كيان الدولة المصرية في السنوات الخمسين الأخيرة.
عام 2013 عُرض مسلسل الرجل العناب الذي جرى تصويره في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، بالتزامن مع تصاعد التوتر بين مصر وإثيوبيا بسبب سد النهضة، والاجتماع الشهير الذي بُث على الهواء على طريقة مشهد العزاء الشهير في فيلم الكيت كات بين مرسي وعدد من السياسيين، عندما تحدث بعضهم عن غزو إثيوبيا أو تخريب السد وغير ذلك من حلول عنيفة بدت في وقتها ساذجة وغير واقعية.
في المسلسل، قدم عصفور الجنينة (أحمد فهمي) دويتو "النيل الجميل" رفقة "شادي الأوروبي"، قائلًا "النيل قدامه شهر ويتشال.. أثيوبيا بقى". ربما يعتبر البعض تلك العبارة انهزاميةً، لكنها عكست موقع القضية وسيطرتها على الوعي الجمعي كتهديد وجودي، حتى بدأت تتسلل مبكرًا من "خناقات" التوك شو والصحف، إلى الأعمال الفنية.
اختفت لاحقًا من الدراما مثل هذه العبارات الملتبسة بين العبث والنقد، ربما تحت وطأة تغير أنماط الإنتاج وملكية وسائل الإعلام، لكنَّ القضية ظلت حاضرة بقوة في الصحافة المقروءة والإلكترونية والمرئية، وعلى السوشيال ميديا.
وفي مارس/آذار 2015، فوجئ المصريون بتوقيع اتفاق المبادئ مع إثيوبيا والسودان في الخرطوم، ثم بزيارة رسمية للرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أديس أبابا ألقى خلالها خطابًا تاريخيًا في البرلمان، تحدث فيه عن فتح صفحة جديدة من التعاون المشترك والصداقة. لكنَّ هذا لم يطمئن الرأي العام بصورة كافية.
وتحتفظ ذاكرة المصريين من السنوات التالية بمشاهد متناقضة لا يمكن تجاوزها في خضم المفاوضات المطولة للاتفاق على قواعد ملء وتشغيل السد، التي حفلت بالمغالطات والمماطلة والتلاعب، مثل تأكيد السيسي من أديس أبابا في يناير/كانون الثاني 2018 لأن نكون "مطمئنين تمامًا.. مفيش أزمة ونتكلم كدولة واحدة وصوت واحد"، وبعدها بستة أشهر حلف رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد "والله والله لن نضر مصر"، ثم تهديد السيسي من قناة السويس في مارس 2021 "اللي عايز يجرب يجرب.. ومحدش هيقدر ياخد نقطة مياه واحدة من مصر"، ثم لجوء القاهرة إلى مجلس الأمن وعقد جلسة استماع في يوليو/تموز من العام ذاته.
طوال سنوات المفاوضات المتعثرة وفّر اتفاق المبادئ البيئة الآمنة سياسيًا ودبلوماسيًا لتتمكن إثيوبيا من إنجاز معظم منشآت السد في وقت قياسي رغم الحرب الأهلية التي اندلعت هناك. ونجح الملء الأول في صيف 2020 حتى رأينا آبي أحمد وكأنه يزف البشرى لدولتي المصب بعد إتمام الملء الثاني في صيف 2021 "كما وعدتكم سلفًا، ملأنا السد بحذر وبطريقة لا تضر مصر أو السودان".
بدا الرأي العام المصري قلقًا، تتراوح مشاعره بين الحماسة الشديدة، ظنًا بقرب إنهاء الأزمة أو أملًا في عمل عسكري يتمناه البعض، والارتباك بسبب تناقض الخطاب السياسي والإعلامي وغياب المعلومات. ومع التقدم الإثيوبي في المشروع، تراجع بوضوح اهتمام وسائل الإعلام (الرسمية وشبه الرسمية) عدا نشر البيانات الرسمية، وتقلصت المساحات المخصصة للخبراء الفنيين والقانونيين، مع التركيز على شخصيات معدودة معروفة بتصريحاتها المتفائلة.
مقدمات خطيرة بلا تحرك
تستعد إثيوبيا هذا الصيف للملء الخامس الذي يبدأ في يوليو وربما يستمر حتى سبتمبر/أيلول، مستهدفًا إضافة 23 مليار متر مكعب إلى 41 مليارًا أخرى استطاعت حجزها في السنوات الأربع السابقة، وتوسيع وتهيئة بحيرة السد على أساسها، وإذا نجحت في تحقيق المستهدف فستتمكن من تشغيل خمسة توربينات إضافية لتوليد الكهرباء هذا العام.
ولا تزال الرياح تجري فوق هضبة الحبشة بما تشتهي مصر، فللعام الخامس على التوالي ننتظر فيضانًا سخيًا قد يؤمّن إتمام الملء مبكرًا وتصريف ما يفيض سريعًا إلى السودان ثم مصر، كما حدث في الأعوام الأربعة الماضية، لكنَّ الاقتراب الوشيك من فترات الجفاف مع غياب أي اتفاق عملي على قواعد الملء والتشغيل يبقى خطرًا داهمًا.
تشير السوابق والتوقعات إلى امتداد فترات الجفاف بين سبع وعشر سنوات أحيانًا بعد فترات الفيضان، وهنا ستكون مصر ثم السودان على موعد مع المجهول، إذ سيفاقم الجفاف الصناعي الناشئ عن إقامة سد النهضة آثار الجفاف الطبيعي، وسيعرقل وصول المياه إلى المصب، وحينها لن يجدي أي حديث عن اتفاق المبادئ الذي لا يزال حبرًا على ورق بالنسبة لمصر والسودان، مقابل كونه وثيقةً تاريخيةً لحماية السد بالنسبة لإثيوبيا.
من أجل ذلك؛ كان يجب أن يسبق الملء المقبل استعدادات مصرية تصعيدية متنوعة على ضوء أربعة مستجدات خطيرة.
وصلت حالة الفقر المائي في مصر إلى مستويات مزعجة قد لا تترجمها الأرقام لكنها تظهر في الأزمات المتتابعة
أول هذه المستجدات بالتأكيد النهاية الفاشلة للمفاوضات الأخيرة في ديسمبر/كانون الثاني الماضي، عندما أعلنت وزارة الري فشل المسار التفاوضي وليس فقط "فشل جولة التفاوض"، وهو ما ردت عليه إثيوبيا بأنها "ستواصل استغلال مواردها المائية"، وعادت للزعم بأن "مصر تتمسك بقواعد الحقب الاستعمارية".
يرتبط ذلك بالمستجد الثاني، وهو التوتر في القرن الأفريقي نتيجة الاتفاق بين إثيوبيا و"صوماليلاند"، الذي أُبرم مطلع العام الجاري، وأثار غضب قوى إقليمية مختلفة على رأسها مصر، التي ردت باستضافة الرئيس الصومالي وإعلان السيسي رفض الاتفاق وعدم السماح بالمساس بأمن الصومال، وتحذيره "محدش يجرب مصر".
أما المستجد الثالث، فيتصل بالوضع الكارثي في السودان، الذي يجعل الرهان على موقف الخرطوم مستحيلًا، مع التغيرات الميدانية والسياسية العنيفة، ودعم مصر الواضح للقوات المسلحة السودانية، مقابل تنسيق إثيوبيا المتصاعد مع قوات الدعم السريع.
إزاء المستجدات الثلاث السابقة، لم نرَ رد الفعل المناسب، ولا حتى توضيحًا لظروف التعامل مع الملء الخامس في ظل سوء العلاقات الثنائية، فضلًا عن أنها المرة الأولى التي يقترب فيها موسم الفيضان دون فتح قناة تفاوضية فنية أو سياسية.
تجليات الفقر المائي
أما المستجد الرابع الذي يصعب إنكاره، فهو وصول حالة الفقر المائي في مصر إلى مستويات مزعجة، ربما لا تترجمها الأرقام بشكل دقيق، ولكنها تتبدى في أزمات متتابعة ومتنوعة.
فقد أعلن وزير الري هاني سويلم مؤخرًا أن نصيب المواطن المصري من موارد المياه المتجددة تقل 50% عن خط الفقر المائي العالمي، مع ملاحظة اعتماد مصر على النيل بنسبة 98% من إجمالي تلك الموارد، كما تحاول الحكومة التوسع في "مشروعات قومية" لترشيد الاستهلاك وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والتغلب على عيوب تبطين الترع، بالإضافة إلى تشديد الرقابة على المساحات المزروعة بالمحاصيل الشرهة للمياه، وفرض قيود على حفر الآبار الجوفية.
ولا يمكن فصل ذلك عن ظاهرة قطع الأشجار المنتشرة في السنوات الأخيرة، والاتجاه لتبليط بعض الحدائق واستبدال أنواع المزروعات في الطرق والبساتين، حسب مصادر في ثلاث محافظات أبلغتني أن تعليمات مشددة لترشيد المياه من أسباب تلك الظاهرة في بعض المناطق.
يتصل ذلك أيضًا بالإجراءات الإدارية بشأن استخدامات المياه المنزلية، مثل تشديد التحصيل على استخدامات الحدائق ورفع سعرها، ومنع إقامة حدائق منزلية أو بمحيط العقارات في بعض المناطق الجديدة، ورفع أسعار عدادات المياه والتوسع في استخدام العدادات مسبقة الدفع.
ثم.. أمامنا هذا الرقم المفزع الذي ذكره السيسي منذ أيام، عن تنفيذ محطات تحلية مياه بتكلفة 190 مليار جنيه، في مقابل زيادة "مفترضة" في الاستهلاك، خاصة بعد تدفق بضعة ملايين من الوافدين من السودان وليبيا وسوريا خلال السنوات الأربع الأخيرة، تزامنًا مع تكرار مشاكل انقطاع المياه لفترات طويلة في مناطق متفرقة على مستوى الجمهورية خلال الشهرين الماضيين، وتبرير ذلك بنقص الإمدادات ومشاكل الكهرباء.
كل تلك المظاهر تؤكد أن الوضع لا يحتمل الانتظار أو المخاطرة، وأن أي خصم مستقبلي من حصة مصر مع غياب قواعد واضحة وتشاركية لملء وتشغيل سد النهضة، سيؤدي إلى أضرار قد يتعذر تداركها، وقد تتحول إلى مأزق لا فكاك منه.
من "الاحتكاك المحتمل" إلى الأسئلة المعلقة
كم هو مدهش الصمت الذي يسبق الملء الخامس بأيام معدودة! لا توضيحات، لا بيانات، لا شروح من الحكومة، ولا جدل في البرلمان! فقط أسئلة متراكمة تنتظر الإجابات منذ الإعلان عن فشل "المسار التفاوضي".
ما خطة مصر للتعامل مع سنوات الجفاف والجفاف الممتد؟ هل يكفل السد العالي حمايتنا؟ وما موقفنا الرسمي من اتفاق المبادئ بعدما أهدرت إثيوبيا كل كلمة منه؟ وما الذي يضمن عدم الإضرار الجسيم بمصر تحت التفسيرات الإثيوبية غير المنطقية لاتفاق المبادئ وتعاملها معه وكأنه "شيك على بياض"؟ وهل يمكن أن تكون النهاية سعيدة للجميع بإدارة واستفادة تشاركية للسد؟ وهل هناك أفق للتدخلات الدولية سياسيًا أو قانونيًا؟
سينبري البعض للتهوين من خطورة الوضع، أو الزعم بأن المخاوف مبالغ فيها. أذكّرهم بتصريحات السيسي السابقة، وبتصريحات وزير الخارجية سامح شكري في مجلس الأمن صيف 2021 عن "الاحتكاك المحتمل" بين مصر وإثيوبيا، في معرض مطالبته المجتمع الدولي بالتدخل.
كان استخدام هذا اللفظ مؤشرًا واضحًا على رغبة مصر في التصعيد لأبعد نقطة دبلوماسية ممكنة، وشحذ همة مجلس الأمن للتدخل بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، المتعلق بآليات الحلول السلمية للنزاعات التي سيهدد تفاقمها الأمن والسلم الدوليين؛ إما عبر التفاوض والتحقيق والوساطة والتحكيم والتسوية القضائية، أو التوصية بإجراءات معينة، أو بالعرض على محكمة العدل الدولية.
وتصور البعض عند خوض مصر ساحة مجلس الأمن قبل ثلاث سنوات أن استنفاد إجراءات السعي لحل النزاع سلميًا هو الخيار قبل الأخير، أو بالأحرى قبل أن تدخل القضية حيز الفصل السابع من الميثاق الأممي، الذي ينظم "حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان". إلا أن سامح شكري أعلن في مايو/أيار 2023 أن مصر لن تتوجه إلى مجلس الأمن مرة أخرى، وأن الأولوية هي "اتفاق قانوني ملزم يطلق التنمية في إثيوبيا ويحمي الأمن المائي المصري".
لا نعرف هل صدر هذا التصريح يأسًا من التوافق في مجلس الأمن، في ظل عدم رغبة دول دائمة العضوية مثل روسيا والصين في استحداث سابقة قد تُستخدم ضدها في نزاعات إقليمية، أم أن شكري كان يأمل في إعطاء دفعة لجولة تفاوضية كانت على وشك أن تبدأ.
اللافت أيضًا أن مصر لم تلوّح على الإطلاق بإمكانية التصعيد القانوني عبر محكمة العدل الدولية التي سبق لها التصدي لعدد من قضايا الأنهار واستخدامات المياه في أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، مؤكدةً في المقام الأول على أهمية احترام الاتفاقيات المشتركة حول الاستخدام المنصف والمستدام للمياه، وضرورة عدم إلحاق الضرر بأي طرف، والحق في التعويض العادل عن الأضرار، والتأكيد على أن الحق في المياه من ضمن الاحتياجات الحيوية للإنسان.
ومع استمرار فشل التفاوض وانخراط دول كبرى في مشروعات مرتبطة بسد النهضة، واقتراب فترات الجفاف الآتية حتمًا، ربما تكون محكمة العدل الدولية ساحة مناسبة لعمل خلّاق، ليس فقط سعيًا لإلزام قانوني، بل، أساسًا، للضغط ورفع التكلفة السياسية والاقتصادية.