
فاوض وانتظر.. خيارات مصر المحدودة في اليوم التالي لسد النهضة
"اكتمل بناء سد النهضة" هكذا أعلنت إثيوبيا عن موعد حفل افتتاحه في سبتمبر/أيلول المقبل، ودعت مصر والسودان للحضور، لتبقى خيارات مصر، باعتبارها الدولة الأكثر تضررًا مُعلَّقةً مع تصاعد مخاطر تعرّضها للفقر المائي، فيما اتفق متخصصون تحدثوا لـ المنصة على أن خيارات القاهرة لحلحلة الوضع تكاد تنحصر في المسار الدبلوماسي، مستبعدين احتمال اللجوء للحلول العسكرية في المدى المنظور لحسم هذا النزاع.
لم يصدر عن الخرطوم ردُّ فعلٍ على الدعوة الإثيوبية، التي تأتي بعد نحو سنة ونصف السنة على إعلان فشل المفاوضات الثلاثية الممتدة منذ بدء بناء السد عام 2011 دون اتفاق، بينما اعتبرت القاهرة على لسان وزير الخارجية بدر عبد العاطي هذه الدعوة "مجرد عبث".
ورغم اتهام القاهرة لأديس أبابا بإفشال المفاوضات وخرق إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث عام 2015 بإصرارها على ملء السد بشكل أحادي، فإنها لم تتخلَّ عن الرهان الدبلوماسي وجهود الوساطة أملًا في التوصل لاتفاق يضمن حقوقها المائية، وهو ما استمرت في المطالبة به في كل المحافل، وآخرها قمة البريكس في البرازيل مطلع الشهر الحالي.
هل تضررتْ مصر من السد؟
السؤال عن خيارات مصر يسبقه سؤالٌ عن حجم وطبيعة الضرر الواقع عليها جراء السد، مع زعم إثيوبيا على لسان رئيس وزرائها أنه لم يؤثر على تدفقات المياه إلى السد العالي خلال سنوات الملء، مُستدلًا بأن مصر لم تفقد لترًا واحدًا من حصتها السنوية من إيراد نهر النيل البالغة 55.5 مليار متر مكعب.
لكن الدكتور عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة يفنِّد ذلك بإيضاحه أن "السد الإثيوبي مُخزّن به 60 مليار متر مكعب منذ سبتمبر الماضي، بالإضافة إلى 20 أو 30 مليار متر مكعب أخرى تبخرت أو تسربت منذ بدء الملء الفعلي في 2020. هذه المياه كانت ستذهب إلى دولتي المصب لولا بناء السد. الضرر وقع بالفعل، لكن لم يشعر به المواطن أو المزارع بسبب تدفق الأمطار بغزارة واستعداد الدولة لهذه المرحلة".
تبقى المخاوف من سنوات الجفاف التي تحد من كميات المياه التي تصل إلى مصر
ويعدد شراقي لـ المنصة الإجراءات التي اتخذتها مصر لتجنب الآثار السلبية جراء الملء، مشيرًا إلى إنفاق نحو 500 مليار جنيه على مشروعات في قطاع الري، منها إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، والتوسع في استخدام المياه الجوفية، بالإضافة إلى تخفيض المحاصيل المستهلكة للمياه وإبطاء وتيرة تصديرها، كلها إجراءات قللت من الشعور بفقدان من حصص المياه سواء المخصصة للشرب أو الزراعة.
ورغم أن مصر تفادت الصدمة الأولى، فإن المخاوف من سنوات الجفاف الطويلة التي قد تحد من كميات المياه إلى مصر هي محور الخلاف الأساسي بين البلدين، حيث لم يُتوصل إلى آلية تنظم مرحلة ما بعد التشغيل وتضمن تأمين حصص دولتي المصب.
تذهب أكثر الآراء تشاؤمًا في هذا الإطار إلى ما انتهت إليه دراسة حديثة أجراها باحثون بجامعة Texas A&M الأمريكية بأن حصة مصر من مياه النيل قد تتراجع بنسبة تصل إلى 35.47% في فترة ملء السد الإثيوبي في سنوات الجفاف ما قد يتسبب في فقدانها ثلث مساحتها الزراعية سنويًا خلال هذه الفترة.
غير أن شراقي لا يخشى سنوات الجفاف، ويرى في هذه التقديرات مبالغةً، نظرًا لأن الجفاف يقلل عادةً من الحصص المائية للدولتين بعكس سنوات الأمطار، وحينها ستضطر أديس أبابا إلى تقليل حجم الكهرباء المتوقع إنتاجها سنويًا دون الحاجة إلى استمرار الملء بنفس المعدلات، مع الحاجة للتنسيق لتقليل أي مخاطر محتملة إذا زادت سنوات الجفاف عن 7 سنوات.
لا تنفي المعطيات الفنية أن الأزمة مع إثيوبيا سياسيةٌ في المقام الأول لمحاولتها فرض الهيمنة على نهر النيل، والخوف الحقيقي من أن تبني أديس أبابا وغيرها من العواصم سدودًا جديدةً ستؤدي إلى تآكل حصة مصر المائية.
مصر تفاوض وتنتظر
ستواصل مصر التفاوض وإثارة ملف السد عبر القنوات الدبلوماسية الدولية والعربية للتوصل إلى اتفاق، وفق ما ترجّحه أماني الطويل، مديرة البرنامج الإفريقي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية.
تستبعد أماني الطويل تراجع ملف الأمن المائي على سلم أولويات صناع القرار في مصر، وإن كانت الحكومات المتعاقبة أفرطت في إبداء حُسن نيّتها في الموقف الإثيوبي، لدرجة أن اعتقادًا ساد في القاهرة بأنها ستنجح في التأثير على أديس أبابا بأدواتها وعمق تأثيرها قبل اكتمال بناء السد.
تؤكد مديرة البرنامج الإفريقي لـ المنصة أن الموقف الإثيوبي هو ما سيحدد طبيعة تعاطي مصر مع هذا الملف خلال الفترة المقبلة إذا استمر التعنت، لأن مخاطر اكتمال بناء السد اتضحت للرأي العام الدولي، ليس على مصر فقط، بل على الأمن الإنساني والحقوق الطبيعية في المياه ومخاطره البيئية حال الانهيار.
"كما اتضح جليًّا أبضًا في المجال الدولي أن الكفاءة الإثيوبية في استغلال المياه المحتجزة داخل السد باتت ضعيفة وبالتالي مصداقيتها نفسها تآكلت"، تقول أماني الطويل.
يوفر تكرار حديث الرئيس الأمريكي حول السد وخطره على مصر، معطى إضافيًا، حيث يعتقد ترامب أنه قادرٌ على حل الأزمة، زاعمًا في الوقت نفسه أن بلاده موَّلت هذا السد رغم علمها بتأثيره على شريان الحياة للمصريين، حسب تعبيره.
يحاول ترامب بتصريحاته إحياء جهود الوساطة التي قادتها واشنطن في ولايته الأولى عام 2019، لكنها فشلت بعد اتهامات إثيوبية بانحياز واشنطن للموقف المصري. وبينما ثمنت مصر مبادرته الأخيرة، قوبلت تصريحاته باستنكار أديس أبابا.
إلا أن حديث ترامب قد يكون له اتجاه آخر في اللحظة الإقليمية الراهنة، حسبما يرى السفير معصوم مرزوق، مساعد وزير الخارجية الأسبق.
يوضح مرزوق لـ المنصة أن ترامب يقدِّم نفسه باعتباره رجل صفقات ناجحًا، لكن الأوضاع الإقليمية الحرجة تلقي بظلالها على تدخله هذه المرة في ملف السد، الذي يمكن توظيفه ورقة مساومة وابتزاز لمصر للقبول بتهجير الفلسطينيين.
"هو في النهاية لن يساهم أو يأمر بضرب السد من أجلنا، بل سيمارس الضغط للتوصل إلى اتفاق يضمن عدم تأثر مصر خلال فترات الجفاف، وهو ما تستطيع الدبلوماسية المصرية إنجازه دون ترامب"، يقول مساعد وزير الخارجية الأسبق.
لكن السفير صلاح حليمة، نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الإفريقية، يذهب عكس ذلك ويعتبر "الإدارة الأمريكية أفضل من يقود هذه المفاوضات في الوقت الحالي للوصول إلى اتفاق ملزم وعادل للطرفين، لأن ترامب نفسه سبق وتوصل إلى اتفاق مماثل في 2019 قبل أن تنسحب إثيوبيا وترفض توقيع الاتفاق في اللحظة الأخيرة كما حدث في جولات سابقة.
ويرفض حليمة الربط في حديثه لـ المنصة بين مساري غزة والسد استنادًا إلى الموقف المصري الثابت من تهجير الفلسطينيين، الذي عبَّرت عنه القاهرة مرارًا على مدار عامي الحرب، لذا لا يتوقع أن تقدم مصر تنازلات أو تقبل بما رفضته قديمًا مقابل ضمان حقها في نزاع المياه، مهما تعرضت لضغوط.
المسار التفاوضي الآخر الذي يطرحه حليمة هو اللجوء مجددًا إلى مجلس الأمن لإثبات حقنا التاريخي في مياه نهر النيل، وتضرر دول المصب من أعمال سد النهضة، لدرء العدوان واحتمالات وجود تهديد وجودي طبقًا للفصلين السادس والسابع من المادة 51 من ميثاق مجلس الأمن والخاصة بحق الدفاع عن النفس، مشيرًا إلى أن مصر قد تستعين في ملفها أمام الأمم المتحدة بتصريحات ترامب، التي أكد فيها أن السد قد يؤدي إلى عطش المصريين، وتصريحاته السابقة التي أشار فيها إلى الحق المصري في ضرب السد لتهديده لوجودها.
وتكرر لجوء مصر إلى مجلس الأمن في السنوات التي شهدت تعثرًا في المفاوضات بشأن ملء وتشغيل السد، إلا أن المجلس اكتفى بحث مصر وإثيوبيا والسودان على استئناف المفاوضات والتوصل لصيغة اتفاق مقبول وملزم للأطراف. لكن مع فشل المفاوضات التي جرت تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، عادت مصر وأبلغت مجلس الأمن في 2024 بانتهاء مسارات المفاوضات بشأن سد النهضة، واتهمت أديس أبابا باستخدام المفاوضات غطاءً لإضفاء الشرعية على سياساتها الأحادية المناقضة للقانون الدولي.
هل نُطلق النار؟
دائمًا ما يُطرح الحل العسكري مع الحديث عن فشل التفاوض بين مصر وإثيوبيا، إلا أن القاهرة تدرك جيدًا مغبة هذا السيناريو وترفض التلويح به إعلاميًّا، حتى وإن تكررت على لسان مسؤوليها عباراتٌ مثل احتفاظ مصر بحق الدفاع عن مصالحها المائية، وأن الأمن المائي لمصر من الخطوط الحمراء.
وسبق للرئيس عبد الفتاح السيسي في 2020 أن طلب من وسائل الإعلام المحلية عدم التطرق إلى مسألة شن عمل عسكري ضد إثيوبيا، مؤكدًا أن مصر تخوض معركة تفاوضية ستطول لكنها ستكلل بالنجاح، ما يؤشر إلى أن الخيار العسكري مستبعد في الوقت الحالي بالنسبة للقيادة المصرية.
"الحل العسكري سيظل ورقة أخيرة في يد مصر، لكنه ليس بالسهولة التي يطرحها البعض، لأن توجيه ضربة عسكرية إلى إثيوبيا، وضد منشأة مدنية تنموية، سيجلب عليك عاصفةً من الغضب الدولي، ويصطدم بمصالح دول كثيرة شاركت في عملية تمويل بنائه، منها دول عربية تربطها مصالح بأديس أبابا، فضلًا عن دخول حرب استنزاف مع دولة تمتلك الصواريخ وقد يُمد جيشها بتقنيات عسكرية أكثر تطورًا لضرب منشآتك الحيوية كالسد العالي نفسه" حسب السفير معصوم مرزوق.
يربط مرزوق اللجوء للحل العسكري بأن تجد مصر نفسها في أزمة تهدد وجودها بخسارة حصص مائية، "حين يعطش المصريون ولا يزرعون حينها تصبح إبادة جماعية، ستجد نفسك مضطرًا للدفاع عن نفسك وتتخذ قرارًا لا رجعة فيه".
رغم المسار التفاوضي الطويل والمعقد مع الإثيوبيين، لا يعتقد مساعد وزير الخارجية الأسبق أن وقت المفاوضات نفد، وأن الدبلوماسية انقطعت كل سبلها، "فلا توجد قضية خاسرة بل محام جيد وآخر فاشل"، مشيرًا إلى أن القاهرة ما زال أمامها الكثير لتفعله في هذا الملف، سواء كان بالضغط الدبلوماسي أو الاقتصادي على أديس أبابا والتحول من مرحلة "الدبلوماسية الناعمة التي كانت السمة الغالبة في العقد الماضي إلى الدبلوماسية الخشنة" بتغيير من يقوم بالتفاوض واتباع أساليب أكثر ذكاء وحدّة لإجبار الحكومة الإثيوبية في النهاية على الالتزام بتوقيع اتفاق يبدد المخاوف المصرية والسودانية.