
فيضان إدارة نهر النيل
منذ آلاف السنين، وفيضان النيل حدث محوري في حياة شعوب الوادي. هو الذي حمل الطمي المتجدد وخصّب الأرض، ومن هذا الطمي بُنيت البيوت بطين الهضبة الإثيوبية، وهو الذي حدد التقويم الزراعي حتى ارتبطت بدايته عند المصريين القدماء بميلاد عام جديد.
غير أن هذا الحدث الطبيعي لم يعد على حاله؛ فقد شُيّدت على النهر سدود وقناطر ومحابس حوّلت مجراه وغيّرت طبيعته من نهرٍ حُرٍّ طليقٍ إلى مجرىً مائيٍّ منضبط، بالذات في مصر، مصبّه الأخير.
لكنَّ الأمر يختلف في السودان، حيث لا يزال الفيضان أقرب إلى ظاهرة طبيعية متكررة مرتبطة بالمناخ، وإنْ تفاوتت حدتها من سنة لأخرى، حسب حجم الفيضان وجاهزية السدود السودانية الصغيرة.
بيان متزّن لا يرى الحرب
رغم الوعود الإثيوبية بأن يسهم سد النهضة الذي يقع على بعد 40 كيلومترًا فقط من حدود السودان بجعل النيل هناك ترعة هادئة ومدجنة؛ تسببت الإدارة المنفردة لأديس أبابا، وعدم شفافية بياناتها، في تفاقم أزمة الفيضان خاصةً في ولايات السودان المنخفضة. كما زادت من معاناة السكان فوق تضررهم من الحرب وضعف البنية التحتية والتخطيط المائي، بعد أن أسفر الفيضان عن مصرع العشرات في عدة ولايات، بالإضافة إلى نزوح عشرات الأسر، وتلف مئات الأفدنة من الأراضي الزراعية.
رغم ما عكسه بيان السودان من إدراك لتعقيد ظاهرة الفيضان فقد أغفل أثر الحرب عليها
في مواجهة هذه الخسائر، أصدرت وزارة الزراعة السودانية بيانًا بنهاية الشهر الماضي، أكدت فيه التزامها بخدمة المواطنين "آلينا على أنفسنا ألا ندَّخر جهدًا في خدمة الشعب وإعادة الإعمار والخدمات في قطاعي المياه والزراعة"، ثم قدّمت تفسيرات لأسباب الفيضان، تمثلت في تغير نمط الأمطار وتأخر الخريف، وزيادة إيراد النيل الأبيض بنسبة 60 - 100% فوق المتوسط منذ 2020، وتصريف سد النهضة الذي بلغ 750 مليون متر مكعب يوميًا منذ 10 سبتمبر/أيلول 2025.
الأهم أن البيان شدّد على ضرورة تجنّب التهويل، إذ أوضح أن "وصول المنسوب إلى مستوى الفيضان لا يعني بالضرورة غرق المنطقة بالكامل، بل وصول المياه إلى حافة المجرى النهري".
هكذا، قدّم السودان صورةً متماسكةً لفيضان طبيعي في جذوره، نتجت عنه خسائر بشرية ومادية ملموسة، لكنه ظل مرتبطًا بالتغير المناخي والسدود، وعُرض على المواطنين بلغة علمية حذرة.
لكن رغم ما عكسه البيان من إدراك لتعقيد الظاهرة وأسبابها المركبة، فقد أغفل جانبًا مهمًا يرتبط بأثر الحرب على كفاءة عمل وإدارة السدود، وكذلك بانخفاض استهلاك المياه زراعيًا نتيجة الظروف الأمنية التي أضعفت الزراعة والمزارعين، كما في مشروع الجزيرة، أكبر المشاريع الزراعية في السودان. إذ تشير صور الأقمار الاصطناعية إلى تراجع حاد في المساحات المزروعة داخل المشروع نتيجة الحرب المندلعة منذ عام 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
فيضان صناعي مفتعل
أما في مصر، فالنيل بات أقرب إلى ترعة صناعية كبرى، تُدار بصرامة عبر سياسات دقيقة وسريّة تتحكم فيها وزارة الري. لكن هذا العام بدا المشهد مختلفًا.
على الرغم من أن مصر تمتلك السد العالي وبحيرة ناصر ومفيض توشكى، وهي منظومة قادرة تقنيًا على استيعاب أي فيضان مهما كان حجمه، فإنه خلال الأيام القليلة الماضية في محافظة المنوفية، لا سيما قرية دلهمو، غرقت منازل وأراضٍ زراعيةٌ نتيجة ارتفاع منسوب مياه نهر النيل، لدرجة اضطّر معها الأهالي إلى استخدام المراكب للتنقل وحمل أطفالهم على الأكتاف، في مشاهد مأساوية لم نشاهدها منذ أكثر من 60 عامًا قبل إتمام مشروع السد العالي.
السلطات المحلية دعت السكان إلى إخلاء المنازل الواقعة على حرم النهر، وأكدت أن الأراضي التي غُمِرت من أراضي الطرح التي تتعرض بطبيعتها للغمر عند ارتفاع المناسيب.
بدوره ألقى البيان الرسمي الصادر عن وزارة الموارد المائية والري في 3 أكتوبر/تشرين الأول الحالي مسؤولية ما حدث على "الإدارة الأحادية المتهورة" من جانب إثيوبيا في تشغيل سد النهضة، حيث اتهم أديس أبابا بتقليص التصريف إلى 110 ملايين متر مكعب يوميًا في 8 سبتمبر، ثم إطلاق أكثر من 780 مليون متر مكعب في يوم واحد بعد ثلاثة أسابيع، واصفًا ذلك بأنه "استعراض إعلامي وسياسي".
ومع تركيز البيان على تحميل المسؤولية للخارج، تجنب الاعتراف بأي مسؤولية في الداخل. فبينما تحدّث عن "الرصد اللحظي باستخدام أحدث النماذج الرياضية"، وأكد أن "الأراضي التي غمرتها المياه هي بطبيعتها جزء من مجرى النهر"، تجاهل النقاش حول حقيقة ما جرى محليًا.
كما استخدم لغة التطمين، نافيًا أن يكون ما حدث "غرق محافظات"، ومؤكدًا أنه مجرد "غمر لأراضي طرح النهر التي اعتاد النهر استيعابها عند ارتفاع التصرفات". لكنه في الوقت ذاته ألقى باللوم على التعديات على مجرى النهر، معتبرًا أنها السبب في تقليص القدرة التصريفية وتفاقم الأزمة.
هذه اللغة تغفل حقيقة أن التعديات ليست السبب المباشر في قرار فتح تصريفات المياه من بوابات السد العالي فجأة، الذي ألمح إليه بيان وزارة الري دون إعلان، ودون إبلاغ المواطنين مسبقًا بوقتٍ كافٍ، وهو القرار الإداري الذي سبب كارثة اجتماعية يتحمل آثارها صغار المزارعين وسكان مناطق طرح النهر.
غياب الشفافية في بيان وزارة الري المصرية يجعل الفيضان في مصر صناعة سياسية أكثر منه ظاهرة طبيعية
الخبير المائي الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، أشار في بوست على فيسبوك يوم الجمعة الماضي إلى أن ما تشهده مصر اليوم لا يُشبه حتى أعلى فيضان في تاريخها عام 1988، بل هو نتيجة قرارات إدارية مدروسة؛ مياه تُصرف من بوابات السد العالي بكميات محسوبة، لكنها تتجاوز قدرة النهر وفروعه. وانتقد غياب المرونة في الإدارة، متسائلًا: إذا كان مفيض توشكي يعمل بكفاءته، فلماذا لم تُصرف المياه تدريجيًا؟ ولماذا تُفتح البوابات فجأة؟
غياب الشفافية في بيان وزارة الري المصرية، وتضخيمه للخطر الخارجي مقابل التعتيم على القرارات الداخلية، يجعلان الفيضان في مصر صناعة سياسية أكثر منه ظاهرة طبيعية، ويفتح المجال أمام التكهنات والشائعات بدلًا من إجلاء الرؤى.
إعادة إنتاج خطاب الكارثة
تُظهر المقارنة بين السودان ومصر أن الفيضان ليس مجرد ظاهرة طبيعية عابرة، بل انعكاس مباشر لطبيعة الإدارة والسياسات والعلاقة المركبة للإنسان بالبيئة. ففي السودان، قُدّم الفيضان حدثًا طبيعيًّا معقّدًا، مرتبطًا بالتغير المناخي وتصريف السدود، ومدعومًا بالأرقام والتفاصيل، وإن أغفل أثر الحرب وسوء الإدارة. ومع ذلك حاول طمأنة المواطنين رغم الخسائر الفادحة.
أما في مصر، فقد صِيغَ الخطاب على نحو يلقي المسؤولية مباشرة على الخارج، متجاهلًا الأسباب الداخلية الحاسمة مثل قرارات فتح بوابات السد العالي دون إنذار مسبق أو خطة واضحة لتوزيع المياه.
جزءٌ كبيرٌ من أزمة النقاش حول الإدارة المائية في مصر يرتبط باحتكار الجهات الرسمية، على رأسها وزارة الري، للخطاب العام. فهي الجهة التي تحدد نبرة النقاش وتضبط حدوده، بينما تُقصى الأصوات الأخرى من باحثين وخبراء، أو تُستوعب داخل مشاريع مرتبطة بالوزارة تجعلها أكثر حذرًا في إبداء آراء مستقلة، خشية انعكاس ذلك على مستقبلهم الأكاديمي، وفق أكاديمي تحدث إلى كاتب هذه السطور مفضلًا عدم ذكر اسمه.
تُضاف إلى ذلك محدودية البيانات المتاحة، إذ لا توفر الوزارة معلومات دورية ومنتظمة تسمح للباحثين بالانخراط في النقاش العام، ما يجعله مبنيًا على معطيات مجتزأة أو غير مستقرة، أو مستندًا إلى سيناريوهات متخيلة يصعب التحقق منها.
في هذا السياق، يظلُّ النقاش العام حول المياه والفيضان فقيرًا ومشوهًا، ومقتصرًا على ترديد الرواية الرسمية، مع شيطنة أو تخوين أي صوت مخالف يحاول السرد خارج السرب. وفي النهاية، يصنع هذا الاحتكار والاحتقان فراغًا معرفيًا خطيرًا ويغلق المجال أمام أي نقاش علمي أو عام جاد.
هذا المسار خلق حالةً من إنتاج الهلع والخوف منذ بداية أزمة سد النهضة؛ سيولة في خطابات الرعب، وغياب للنقاشات الرصينة في الفضاء العام وتخويف وتخوين الآراء المخالفة. والأدهى أن هذا النمط يتكرر منذ أربع سنوات تقريبًا؛ ففي كل عام، وفي التوقيت نفسه، تتجدد موجة هستيرية من التصريحات المتناقضة، تصنع رأيًا عامًا مضللًا يُحمِّل المسؤولية دومًا للخارج، بينما تُغفل إدارة المياه داخليًا: من توزيعها إلى نفاذها وحرمان الفئات الأضعف منها.
رغم الفوارق بين تعاطي السودان ومصر مع أزمة الفيضان، فإن البلدين يتشابهان في أن الفلاحين والمزارعين والمهمشين هم من يدفعون الثمن. في السودان تُترجم الكارثة إلى خسائر بشرية ومادية ملموسة، وفي مصر يُهجّر السكان وتُغمر الأراضي بالمياه بغلاف سياسي وإعلامي يعيد إنتاج خطاب الكارثة، لتبقى الأسئلة الكبرى بلا إجابة: من يصنع الفيضان؟ من يدفع ثمنه؟ ومن يجني مكاسبه؟
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.