بداية هذا الشهر جدد هاني سويلم وزير الموارد المائية والري تصريحاته عن اقتراب مصر من الشح المائي، حيث يصل نصيب الفرد المصري الآن إلى 500 متر مكعب من الماء. وهي التصريحات ذاتها التي أدلى بها في 22 أغسطس/آب 2023، عندما قال إن نصيب الفرد في مصر يبلغ نصف حد الفقر المائي عالميًا المُقدر بألف متر، مشيرًا إلى وجود فجوة مائية بين الموارد المتاحة البالغة 60 مليار متر مكعب، والطلب المقدر بـ115 مليارًا.
موقع روسيا اليوم نشر تصريحات الوزير الجديدة مثل وسائل إعلام أخرى، ثم تابع القضية بردَّين من خبيري ري. عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة أوضح أن هذه الأرقام لا تعني أن الصورة مظلمة؛ فنصيب الفرد في دول الخليج يبلغ 100 متر فقط، وفي إسرائيل 200 متر، ورغم ذلك تصدّر الغذاء، خالصًا إلى أن التصرف في الماء هو الأهم، وقد تكون الخمسمائة متر أفضل من ألفي متر، والدليل نراه في دول إفريقية تعاني المجاعة، بينما يتجاوز نصيب الفرد فيها من الماء 20 و15 ألف متر!
في رده قال أستاذ الموارد المائية نادر نور الدين إنَّ حدَّ الشح المائي المقرر بـ1000 متر مكعب للفرد يشمل جميع الاستخدامات، بما فيها الصناعية التي تبلغ في الدول المتقدمة 57%، بينما لا تتجاوز 5% في مصر. وقال نور الدين إن الوزير يعيد نفس التصريحات بالنص "فتعمل عليها كل الفضائيات العربية والعالمية، وتتسبب في إحباط الشعب المصري، وتجعله يسترجع مشاكل سد النهضة وأنه هو السبب في ذلك".
الوزير سويلم لا يعزف وحده نغمة الترويع المائي؛ حيث نقرأ المنطلقات نفسها على موقع الهيئة العامة للاستعلامات في مادة بعنوان مصر وقضية المياه. هذه المادة التي لا تحمل توقيعًا تتوقع كارثتين، أولاهما أن يخفض سد النهضة حصة مصر بمقدار عشرين مليار متر مكعب من الـ55 مليارًا قيمة حصة مصر، أي أنَّ الخفض يتجاوز ثلث الحصة التاريخية. وفوق محنة العطش المؤكدة تضيف الورقة خطرًا معاكسًا، وهو الغرق إذا انهار سد النهضة!
ثاني الكوارث التي تتضمنها الورقة أن عدد سكان مصر سيبلغ 175 مليونًا عام 2050، وليس ذلك التاريخ ببعيد.
ماذا بعد خطأ الشعب؟
لا يمكن العبور على هذه المخاطر بسهولة؛ فأخطار السد إذا صحَّت تستدعي الحرب. والرقم المهول المتوقع لتعداد سكان مصر عام 2050 ينبغي دراسته، والعمل فورًا على تغييره. علمًا بأنَّ واقع الفقر وتنامي وعي شريحة واسعة من السكان يرجحان ألَّا تكون الزيادة السكانية المستقبلية بوتيرة العقد الماضي.
ودون شرح الأسباب التي دعت إلى توقع هذا الرقم، بوسعنا أن نعتبره مجرد شائعة ترويعية لإثارة الإحباط بهدف إجبار السكان على الرضا بالفقر والهوان الإقليمي. وهو ما يعزز تحليل الدكتور نادر نور الدين بشأن الترويع المائي في قول الوزير، وتحميل الشعب المسؤولية طبقًا لمدرسة تعرية الكتف والظهر.
كما تتضارب الأرقام بخصوص الأمطار تتضارب أرقام إعادة تدوير مياه الري والصرف وتحلية مياه البحر
الشعوب تخطئ. وهي عيال السلطة، خصوصًا في ظل الاستبداد. السلطة الأبوية مسؤولة مقابل استئثارها بالرأي. وهي بهذا مسؤولة عن خطأ مصر عندما عرت كتفها وعليها إصلاح خطأ الشعب وليس تركه إلى مصيره وتعذيبه بالندم. وبغير ذلك يكون انتماء أحد الطرفين للآخر وللمكان الذي يجمعهما موضع شك.
لقد أخطأ هذا الشعب، فما العمل الآن؟!
لكي لا نغادر موضوع الماء، وبصرف النظر عن تحليل خطاب السلطة الترويعي، فالمفترض من سلطة مسؤولة أن تبدأ العمل من أجل تجاوز الفقر المائي. وهناك ثلاثة محاور وجسور يؤدي أحدها إلى الآخر، وكلها بحاجة إلى إرادة سياسية تتجاوز قدرات واختصاصات وزارة الري، وتتجاوز الاستسلام لليأس.
المحور الأول: الحفاظ على حصة مصر التاريخية في مياه النيل، بكل السبل الممكنة، تعاونًا مع دول المنبع في التنمية، أو حربًا. وكل ما صدر عن السلطة حتى الآن هو وصف للصورة من موقع محايد، يقدم الواقع بصورة العقاب السماوي لشعب طائش.
المحور الثاني: تعظيم الموارد المائية غير النيلية، وهي الأمطار إلى جانب إعادة تدوير مياه الصرف وتحلية مياه البحر.
تقدير الوزارة وموقع الاستعلامات للأمطار يبلغ 1.1 مليار متر مكعب بما يتعارض مع تقديرات أخرى ترى أن أمطار مصر على الساحل الشمالي من 5 إلى 9 مليارات يتبدد معظمها بالبخر، بينما يجري نحو مليار ونصف المليار منها على سطح الأرض.
أي الرقمين صحيح وما حقيقة هذا التبديد إن كانت الأرقام الدولية هي الأصح؟ نقرأ في رطانة الوزارة كلامًا محفوظًا عن "محصول المطر" مرتبطًا بجهود توجيهه لتغذية الخزان الجوفي، وهذا ربما ينطبق على سيناء والساحل الشرقي لا الشمالي.
وبعيدًا عن لغة الأرقام، فإن مواعيد النوات في الشمال معروفة، ومعدل الأمطار كما يشعر به المواطن غير الممسك بمقياس المطر يبدو أكثر من كافٍ لزراعة القمح. ربما نحتاج إلى بضع طائرات رش تحسبًا للمفاجآت. لماذا، بحق الله، لا نزرع القمح في الساحل الشمالي؟
وماذا عن الأمطار فوق المدن؟ والشمالية تحديدًا؟ ولماذا لا يُعاد تأهيل الإسكندرية وغيرها؟ وماذا بخصوص المشروعات العمرانية الجديدة؟ قانون الموارد المائية والري 147 لسنة 2021 يُلزم المجتمعات العمرانية الجديدة والمطورين بالحصول على موافقة وزارة الري المسؤولة عن دراسة التدابير المائية، فهل حدث أن اعترضت الوزارة على إقامة مدينة أو حتى مشروع لمطور قطاع خاص؟ وهل ألزمت أي مشروع بخط صرف أمطار لجمع ما تُسميه "محصول المطر"؟
وكما تتضارب الأرقام بخصوص الأمطار، تتضارب أرقام إعادة تدوير مياه الري ومياه الصرف، وأرقام تحلية مياه البحر، كما تتعارض التقديرات المصرية للتكلفة تعارضًا هزليًّا مع الأسعار العالمية.
ودون إغراق القارئ غير المتخصص في هذه الأرقام يكفي هذا المثال: في مداخلة مع الإعلامي شريف عامر في برنامج "يحدث في مصر" أعادت جريدة اليوم السابع نشرها، قال طارق الرفاعي، معاون وزير الإسكان، نهاية العام الماضي، إن تكلفة تنقية المتر المكعب من مياه الصرف تبلغ خمسة آلاف جنيه، وفي الجملة التالية يصعد بالرقم إلى عشرة آلاف، حسب المنشور بالجريدة. لم أرَ أي استغراب على الرقم الذي يبدو محسوبًا على سعر مياه إيفيان الفرنسية مع ضريبة المبيعات!
تستند صفحة مدونات البنك الدولي على تقدير مؤسسة التمويل الدولية الذي يقول إن سعر تحلية المتر المكعب من المياه يبلغ 32 سنتًا أمريكيًا إذا كان المستهدف استخدامه في الزراعة والصناعة، و45 سنتًا إذا كانت التحلية للشرب، وهذا أمر مستبعد بسبب عدم استساغة الأمر نفسيًّا.
الإدارة بالأهداف تختلف عن الإدارة بالترويع
وبحساب الفوائد البيئية والصحية والصناعات التي يمكن أن تقوم على تدوير المياه المستخدمة، كإنتاج السماد والميثان، تنخفض هذه التكلفة، وتصبح عملية رابحة ربما تفوق قيمتها البيئية على أهميتها كمورد مياه، في حين أن الحصول على متر مكعب محلى من مياه البحر يحتاج في أحسن التقديرات وحال الإنتاج بقدرات عالية إلى تكلفة من نصف دولار إلى دولارين.
انحازت الدولة لتحلية البحر، وروجت له دعائيًّا في وقت شدة الخلاف مع إثيوبيا. الأمر الذي يشبه أن يستولي خصمي على شقتي فأعلن أني اشتريت شقة بديلة، هل يحتاج بعدها تأكيدًا على انسحابي من المواجهة؟!
هل هناك خطة؟
المحور الثالث من محاور تعظيم الموارد هو تقليل هدر ما بين أيدينا، وهذا يتطلب استنفارًا لكل جهات الدولة والمجتمع لاستخدام كل الوسائل من كبيرها، كتغيير نظام الري، إلى صغيرها، كتعديل العادات الغذائية.
تقليل الفاقد في الري يتطلب التوسع في الأنظمة الحديثة، خصوصًا في الصحراء الداخلية غير المطيرة. لا نزال نتحدث عن التنقيط والرش كمعجزات، فيما يتقدم العالم نحو الري تحت سطح الأرض، خصوصًا للأشجار، وهو نظام يوفر 60% من معدل ري التنقيط ويحفظ الجذوع بعيدًا عن الرطوبة المسببة للآفات، ويمنع الحشائش.
لم تتدخل الدولة لتقليل سعر مستلزمات الري الحديث ولم تُجرِّم الغمر في الصحراء، على كثرة العقوبات التي يتضمنها قانون الري الجديد الصادر في قلب المحنة. وهو قانون بالغ الطول يكاد يُجرِّم النظر إلى الترع والمصارف، دون إلزام بطرق الري. أشار القانون إلى تأسيس روابط لمستخدمي الماء على مستوى الجمهورية يمثلها مجلس منتخب ولكن التحكم في النهاية بيد الوزارة، دون أن يشير إلى زراعات الزينة وحمامات السباحة، رغم الطنطنة الإعلامية عن العدالة المائية.
ومن بين ما يتطلبه خفض الهالك من المياه مراجعة أهمية الصناعات المستهلكة للماء وتوجيه الصناعات غير الغذائية لاستخدام الماء المعاد تدويره ومنع صرف ملوثاتها إلى النيل، بالطبع ينبغي عدم التصريح بمصانع جديدة بالقرب من النيل.
يتطلب الأمر إجراءات قد تبدو على قدر كبير من البساطة مثل سلامة أنابيب وصنابير المياه وطرق إنفاق المياه في المنازل، ربما نكون بحاجة إلى دورة صرف مختلفة تقلل الحاجة إلى تشغيل الطرد، كما يمكن لدعم سعر المكرونة أن يحول الطلب عن الأرز، حيث يستهلك فدان الأرز ما تستهلكه عشرة فدادين من القمح.
كل الإجراءات كبيرها وصغيرها لا تحتاج إلى معجزات لتحقيقها، لكن الإدارة بالأهداف تختلف عن الإدارة بالترويع.