تتنازع المصريين رؤيتان، الأولى ترى "مصر هبة النيل"، والثانية تراه "هبة المصريين"، لكن الحقيقة تبين أنها حصيلة الاثنين. فأي نهر يجري بين كسالى أو متواكلين، أو لا طموح لهم أو ليست لديهم رؤية ونزعة إلى التحضر والترقي في العيش، لا يمكن أن يُحدِّث فارقًا كبيرًا في حياتهم، لأنهم لا يستغلون وجوده على الوجه الأمثل.
فالجيبانا، وهي أسفار مصر القديمة، تقول إن المصريين سعوا إلى النيل في القرون الغابرة، بعد أن وقع الجفاف في صحراء مصر الغربية، التي كانت مروجا خضراء، فراحوا يتنقلون وراء سبل الحياة، حتى اكتشفوا ذلك النهر يجري بين أدغال وبوص، فشمروا عن سواعدهم، وأعملوا مناجلهم الحجرية، حتى انكشف الماء يجري، وانبسطت الأرض اللينة، وصارت صالحة للزراعة، فبذورا فيها الحب، وانتظروا الحصاد.
وامتد كفاح المصريين على ضفاف النهر حتى النصف الأول من القرن العشرين، فقبله اُستصلحت أراض واسعة، بعد أن وزع محمد علي الجفالك والأوسيات على وجهاء الريف في ظل نظام الالتزام، فدفعوا أموالهم في سبيل تهيئة الأرض المستصلحة للزراعة، وإضافة الجديد إليها كل يوم، حتى وصلت الرقعة الزراعية إلى ستة ملايين فدان.
من هنا، صُنعت مصر التي نراها الآن، ونعرفها على وجه معقول، من دأب المصري مع النيل
وسمعت من أهالي إحدى قرى الدلتا أن البدراوي عاشور، تمكن بمفرده من استصلاح نحو أربعين ألف فدان، من قلب المنصورة حتى كفر الشيخ، وأنه استعمل في ذلك البقر والثيران، فكانت تعلق في رقابها عروقًا عريضة من الخشب، تجرها فوق الأحراش والبوص فتتساقط أمام فؤوس الفلاحين، فيقطعونها، لتنجلي تحتها أرض خصبة. وقبل عاشور، ومثله أو معه، قام آخرون بذلك حتى أربعينيات القرن العشرين.
واستغل المصريون النيل، بطريقة أخرى، بدءًا من تسعينيات القرن نفسه، فحفروا في صبر وراء المياه الغائرة تحت رمال الصحراء، الموصولة في البعيد بعيون النيل، فصارت آبارًا تدر ما مكنهم من زراعة الأرض الممتدة على جانبي الطريق الأسفلتي من القاهرة إلى الإسكندرية، وصنعوا واديًا جديدًا، مزروعًا بالمحاصيل، وحدث الأمر نفسه في أماكن أخرى مثل الكريمات في بني سويف، وغرب المنيا، وغيرها.
من هنا، صُنعت مصر التي نراها الآن، ونعرفها على وجه معقول، من دأب المصري مع النيل، في جريانه الأساسي من الجنوب وحتى يصب في البحر المتوسط عبر فرعي رشيد ودمياط، وفيما يهديه إلى مزارعي الصحراء أو محاربي الرمل والقحط، الذين أدخلوا وسائل جديدة للري، تعتمد على التنقيط، وليس ري الحياض أو الري بالغمر، الذي عرفه المصريون على مدار التاريخ.
واستعمل المصريون النيل في النقل النهري، وفي تربية الماشية ومختلف الدواب، وصيد الأسماك، وفي إمداد المدن والقرى بما تحتاجه من الماء العذب، وفي الصناعات التي تحتاج المياه فيها. وبالماء نفسه أقيمت الحدائق، وزرعت الأشجار على جانبي الشوارع، التي ما إن تشب عن الطوق، حتى تعتمد على نفسها في جلب المياه عبر جذورها المديدة الراسخة.
هكذا تشكل المجتمع من النيل، وتشكل النيل، أو أعيدت هندسة وظائفه الحيوية، بأيدي المصريين، وصار الاثنين كلًا في واحد، لا يتصور أحد افتراقهما، ولا تُرى الدولة المصرية إلا من خلالهما، حتى بعد أن تطورت الصناعة وتعددت الموارد ومنها السياحة، وحصيلة دخل قناة السويس، وتحويلات المصريين العاملين في الخارج.
وساهم النيل في تكوين شخصية المصري، بعدما انطبعت به سماتها، بدءًا بالنظرة إلى الذات، وانتهاءً بتصور الكون، مرورًا بالتعامل مع المجتمع العام. فالمصري لا يبدو إلا شخصية مفطورة على الزراعة، تسربت خصائصها إلى نفسه، فعرفت أن تحصيل الماء والشراب يتطلب صبرًا ودأبًا ورجاءً من الله.
يغرس الزارع غرسه ويرعاه، وينتظر الحصاد، داعيًا ربه ألا يغدر به جفاف أو آفات أو ريح عاتية، ويدرك وحدة الوجود دون أن يعي بالضرورة ما قاله بشأنها الفلاسفة والمتصوفة. ينظر إلى نباته وحيوانه باعتبارهما جزءًا أصيلًا من حياته، لا يتصورها بدونهما، ويرى النبتة الخارجة من فلقات الحب وليدًا يصرخ معلنًا قدومه إلى العالم، وعليه أن يمضي في الحياة، حبوًا ومشيًا وعدوًا، معتدل القامة أولًا ومطأطأ إياها ثانية، صغيرًا وكبيرًا، كما يبدأ الزرع رحلته، من الغرس إلى الحصاد.
والمصري إن خرج على السلطة ليست أمامه غابات يختبئ فيها، ولا جبال شاهقة عامرة بالكهوف يهرب إليها، إنما صحراء قاحلة
لهذا لا يجيد المصري التجارة، مقارنة بأهل الشام أو الخليج، وتصعب عليه الصناعة التي تسهل على الأوربيين. وإن صنع فيميل إلى صناعات تعتمد على ما تجود به الأرض، وينجح إن كان مشروعه الصناعي متكئًا على ما يزرعه ويربيه من ماشية، فهذا يجعله في غنىً عن آخرين.
والنيل ساهم كثيرًا في تشكيل علاقة السلطة بالناس. فالحُكم، قام منذ أول التاريخ، على تنظيم الري، ووظف فيه قدراته الإدارية والمعرفية، فربط الفلاحين به، وحصل منهم على الطاعة مقابل المياه. كما ارتبط أهل مصر جميعًا بالنهر، كثافتهم السكانية حوله، فسهل ذلك على الإدارة التحكم في الناس. والمصري إن خرج على السلطة ليست أمامه غابات يختبئ فيها، ولا جبال شاهقة عامرة بالكهوف يهرب إليها، إنما صحراء قاحلة، لا يفهم أسرارها إلا أهلها، ولا يطيق العيش فيها إلا من ألفوها من البدو.
والنيل ساهم في رفد علوم المصريين، خصوصًا في الاجتماع والجغرافيا والأنثربولوجيا والآثار والتاريخ، فجعلوا ابتداءً تلويث المياه العذبة من الكبائر. ونشأت الدراسات الريفية، واقتصاديات الزراعة، وجغرافيًا الموارد الطبيعية والبشرية، ووجدت العلوم السياسية فرصة للحديث عن "سمات المجتمع النهري" و"الدولة المركزية" و"شرعية السلطة" التي تهتز كثيرًا إن لم تعتن بالنهر أو تحسن توزيع مياهه على المزارعين.
ووجد علماء الاجتماع موضوعات للبحث حين أمعنوا النظر في تعاون الفلاحين في الري، وفي مواسم الزراعة والحصاد، وإطفاء الحرائق، وأيام كانوا يتراصون في شجاعة لمواجهة الفيضان قبل إنشاء السد العالي.
وحدد النيل أماكن وجود آثار المصريين القدماء وكنوزهم، فمدنهم وقراهم على ضفافه، وغربه في الصحراء يدفنون موتاهم، وفي بعض شرقه أيضًا كما نرى في تل العمارنة وطنها الجبل وصان الحجر، وفي قلبه أحيانًا مثلما نرى في آثار منف. وأهرام الجيزة الثلاثة يقال إن النيل كان طيعًا في نقل الأحجار الضخمة التي تراصت لتصنع معجزة. لهذا تهتدي البعثات الأثرية بالنيل في بحثها عن المدفون والمطمور من مدن وقرى ومقابر قديمة، ولا يمضي عام إلا وتعثر على جديد.
ومع النيل أنتجت قرائح المصريين الأمثال والحكم والسير والأساطير والأغاني والألعاب الشعبية. كما أن كثيرًا من الحكايات والذكريات التي تستعاد في ليالي السمر، تأتي على ذكر قصة كل منهم مع النيل؛ ابن القرية الذي سبح فيه أو اصطاد منه، أو كانت له ساعات شقاء مع وسائل الري القديمة مثل الطنبور والشادوف، وابن المدينة الذي لا يزال يرى السكنى على ضفتي النيل غاية ومقصد يستحق السعي والفخر، ويرى التنزه على كورنيشه فرصة للترويح عن النفس، ولقاء المحبوب أمام مياهه السارية غير لقاء.
هكذا صارت شخصية مصر، وفق تعبير جمال حمدان، مسكونة بالنيل، فإن غفلت السلطة عنه، فتلك مشكلة، أما إن غفل الشعب فهذه مأساة. فأي سلطة هي عابرة حتى وإن طال بها المقام بعض الوقت، أما الشعب المصري فهو الباقي إلى قيام الساعة، وبقاؤه مرهون في جانب كبير منه باستمرار تدفق مياه النيل، لهذا يمكن لأي سلطة أن تتلهى أو تتغافل، أو تتهرب، لكن الشعب يجب أن يكون يقظًا، مدركًا أن حياته لا يمكن لها أن تستقيم أو تستمر إن غاب النيل أو نقص أو جف، لا قدر الله.