تصوير خالد منصور، بإذن خاص لـ المنصة
استعراض عسكري لهيئة تحرير الشام في ساحة الأمويين، دمشق، ديسمبر 2024

مأزق "التكامل الوطني" في سوريا

منشور السبت 9 أغسطس 2025

في الوقت الذي كانت فيه لجنة التحقيق الوطنية في أحداث الساحل السوري تعلن النتائج التي توصلت إليها بشأن الاعتداءات والانتهاكات الجسيمة التي وقعت في مارس/آذار الماضي، كان الاضطراب ثلاثي الأطراف في السويداء لا يزال قائمًا، بينما بقيت مناطق الأكراد في مثلث الجزيرة تحت سيطرة مسلحي "قسد"، وكل هذا يعكس أزمة "تكامل وطني"، تعاني منها الدولة السورية في الوقت الراهن.

ويدور سجال في الساحتين السياسية والثقافية السورية خصوصًا، والعربية عمومًا، عما إذا كان هذا ناجمًا عن إزاحة نظام حكم البعث، أم هو سابق عليه، إثر التدابير العنيفة التي اتّخذها بشار الأسد على مدار الأربعة عشر عامًا الأخيرة من سنوات حكمه.

لكنْ هذان الفريقان اللذان يتباريان الآن في إظهار الحجج التي تبرهن على وجهة نظريهما، يُهملان تصورًا أبعدَ وأعمقَ؛ يتعلق بإخفاق النظام السوري على مدار نصف قرن في تحقيق الدمج والانصهار الوطني الطوعي في ربوع البلاد، وهي مشكلة تعاني منها دول عربية عدة في مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي.

رأيناها صارخة متحققة في العراق والسودان واليمن ولبنان، ويُحتمل أن نراها لاحقًا في بلدان عربية أخرى، تعاني هشاشةً اجتماعيةً متباينةً نسبيًا على المستويين الرأسي، حيث الاختلافات العرقية والمذهبية، والأفقي المتعلقة بالتوزع الجغرافي، والتفاوت الطبقي، والثقافة المرتبطة أساسًا بإدراك الهوية، وما تفرضه من تصورات وتحركات.

الحاجة إلى العقد الاجتماعي

دخول قوات الشرطة العسكرية إلى السويداء، 15 يوليو 2025

ابتداءً، لا يوجد أي بلد في العالم المعاصر يتمتع بتجانس اجتماعي تام. فالدول تضم أشتاتًا من البشر في تشكيلات اجتماعية قد تُعبّر عن طوائفَ أو طبقاتٍ أو مذاهبَ أو قومياتٍ أو لغاتٍ ولهجاتٍ مختلفة. لكنْ هناك دولٌ استطاعت، باستراتيجية مدروسة، تفادي أخطار هذه الاختلافات وتحويلها إلى تنوع بشري خلاق. فيما أبقت دول أخرى الحدود الفاصلة بين مكوناتها الاجتماعية قائمةً على حالها، متكئةً فقط على إحكام القبضة المركزية على الأطراف، أو غلبة مكوِّنٍ اجتماعي على البقية بممارسة أشكال من العنف المادي واللفظي والرمزي، أو التحكم الصارم في الثروة والسلطة.

وفي الحالة الأخيرة تظهر حالة من التعايش الظاهري تغطي ضغائن مكتومة، ما إن تجد فرصةً في ارتخاء قبضة السلطة المركزية، أو إخفاق عملية الأدلجة المستمرة في إقناع الجميع، أو اندلاع اضطراب اجتماعي حاد يلجأ الناس إلى حسمه بالسلاح؛ حتى تطل برأسها من جديد، عائدة بأهل كل مكون إلى ما خَبَّأناه تحت السطح، ليتحول الاختلاف إلى شقاقٍ بل تطاحنٍ سافر.

وجدت سوريا كدولة نفسها بعد سقوط نظام البعث أمام رواسب تاريخية صنعها الاستبداد الطويل، وتغليب الطائفة العلوية على بقية الطوائف، والعربي على الكردي والدرزي. السلطة الحالية في سوريا ليست مسؤولة عن ذلك بالكلية، لكنها في الوقت نفسه مطالبةٌ، وخلال زمن وجيز وفي ظل تحديات كبرى أولها وقوع سوريا المضطربة في أفق المشروع الإسرائيلي، بحلِّها، أو على الأقل منع انزلاقها إلى ما يهدد بقاء سوريا واحدة.

إن بلوغ الاندماج الاجتماعي ووحدة التراب الوطني، يمثل الآن التحدي الأكبر الذي يواجه حكومة الرئيس أحمد الشرع، وهو تحدٍّ حقيقي وأصيل وخطر، وفق ما تخبرنا الدراسات السياسية، لا سيما في مجال الاجتماع السياسي، والتنمية السياسية، والدراسات الإقليمية، والعلاقات الدولية. لأن تكوين "الجماعة السياسية الوطنية" غاية مهمة لا يجب أن تنحرف عنها أنظار أي سلطة سياسية في أي بلد، خصوصًا لو كان خارج الزمن السياسي الحديث.

شروط الحفاظ على الجغرافيا

في ظل هذا، لا بد من توافر شروط تعيها الحكومة السورية الجديدة وتضعها نُصبْ عينيها، وهي تحاول أن تُبقي سوريا الجغرافية التي كانت قبل 2011 على قيد الحياة؛ فتمنع تفككها، لكن دون القيام بذلك بالطرق القديمة، التي أثبتت تجربة البعث فشلها بعد نصف قرن.

أول هذه الشروط هي "الطوعية"؛ بمعنى عدم استخدام التدابير والإجراءات القسرية أو العنيفة في بلوغ الاندماج الاجتماعي، أو الاكتفاء بحالة "المجاورة" التي كانت قائمة من قبل، وطالما حالت دون امتزاج وتفاعل مكونات سوريا الاجتماعية بإرادة ذاتية. هذا التفاعل الرضائي هو ما يمكن أن يحفظ تماسك المجتمع إذا تحللت السلطة بروابطها السياسية، مثلما نرى في سوريا اليوم.

يجب ألَّا تعيد السلطة الجديدة في سوريا إنتاج عيوب سابقتها وهي توحّد البلاد قسرًا

أما الشرط الثاني فهو إيجاد الإطار أو المرجعية العادلة التي تُعلي من مبدأ المواطنة. ويتطلب هذا وضع دستور يشارك كل السوريين في كتابته، يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ويغلق الباب أمام أي أفعال اضطهاد سواء على مستوى الأفراد أم المؤسسات، ويفتح الباب أمام مساءلة مرتكبيها. ثم تنتقل النصوص إلى تطبيق صادق وأمين في الواقع المعيش، تنهض به المؤسسات، وتدافع عنه الثقافة والخطاب السياسي.

والشرط الثالث هو وجود مشروع سياسي وثقافي مشترك، يتحلق حوله الجميع، ويخفف من الآثار الضارة للانتماءات الأولية، لاسيما العرقية والمذهبية. ويحافظ هذا المشروع على القواسم المشتركة والمصالح المتبادلة بين مختلف طوائف وطبقات وشرائح المجتمع، ويجد كل فرد مصلحته أو هواه السياسي والفكري متمثلًا فيه، ويدرك معه أن عوائد الاندماج الوطني أفضل كثيرًا من آثار التفكك والصراع.

ويعمل هذا المشروع على إيجاد "رابطة عاطفية"، تتمثل في توافر نقطة جذب لمشاعر الجماهير، تأخذ بعقولهم ونفوسهم أكثر من غيرها، وتتعدى مجرد الاكتفاء بالشعارات والخطب الرنانة عن "الوطن" إلى تحويل هذا الوطن إلى مسألة أولى بالرعاية من كل فرد؛ حين يرى نفسه ممثلًا فيه، وجزءًا منه، ويشعر أنه هو الجماعة الأساسية التي يجب الانتماء والولاء لها.  

والشرط الرابع هو تحفيز "الخصائص البنيوية المشتركة" للمكونات والموارد البشرية، بما يخلق تيارًا اجتماعيًا رئيسيًا عريضًا، وذلك عبر اكتشاف وتحديد القيم الاجتماعية المحلية المتوارثة، والإيجابية من الوارد والوافد جديدًا، لخلق ثقافة مرنة تحكم الأذهان والأفهام وتصقلها، وتحدد السلوك وتعّذيه وتغنيه.

أول هذه الخصائص هو التعايش وقبول الآخر والتفاهم وحل المشكلات بالحوار لا بالسلاح. وثانيها هو بناء شبكة مصالح اقتصادية بين الفئات والشرائح والطوائف تجعلها حريصة على أن تُبقي علاقات جيدة مع الكتل الاجتماعية المغايرة. وثالثها هو البناء السياسي الديمقراطي حيث إدارة الاختلافات بلا قسر، وتداول السلطة، وقيام المؤسسات السياسية من مجالس نيابية وأحزاب وقوى مجتمع مدني. ورابعها هو توظيف المؤسسات الإدارية والأمنية، مثل البيروقراطية والجيش والمعاهد التعليمية، في تعزيز الانصهار الوطني.

نعم، يحتاج تحقيق كل هذه الشروط إلى وقت، لكن البدء فيه من الآن أفضل كثيرًا من تأجيله إلى الغد، تحت أي ذرائع. وفي كل الأحوال يجب ألَّا تعيد السلطة السياسية السورية الجديدة إنتاج عيوب سابقتها؛ حين أبقت الدولة موحدة ظاهريًا بالقوة أو توظيف العنف بمختلف أشكاله، بينما هي في باطنها مرشحة لتكون مشروعات انفصالية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.