تحايل المصريين| المقاومة الشعبية الحذرة
إذا أردنا اختيار قيمة مركزية تدور حولها حياة المصريين عبر تاريخهم فهي "التحايل"، الذي لا يعني بالضرورة الرضاء بالانحراف عن الحق، إنما هو صنف من المقاومة غير المباشرة، تعتمد في كثير من الأحيان على الذكاء والفطنة، واستدعاء موروث تاريخي في التصدي غير المُكلِّف للعسف المتواصل، في بلد عرف عبر الزمن كل أنماط الاحتلال الخارجي، والاستغلال الداخلي، حتى يُبقوا بلدهم قائمًا على قيد الحياة، ويصبح عيشهم مستمرًا حتى إن حلَّ به ضيق شديد.
بوجه عام، فإن الحيلة المرتبطة بثقافة أو عادات مصرية معينة، تتوزع على موضوعات ومواقف عدة، منها الحيل السياسية، حيث رحلة البحث عن مخارج، أو محاولة تحويل المشكلات إلى فرص، والحيلة القانونية، التي رمت إلى تجنيب الناس أي أذى تصنعه مواد قانونية تسنها أو تضعها الفئات أو الطبقات المهيمنة على المال والقرار.
ويمتد الأمر إلى الحيل التي سبكها الفقه الإسلامي والتصور المسيحي حين يتفاعل مع يوميات الناس، للبحث عن وسائل عبور أزمات، أو تجاوز صعوبات، دون فقدان ترطيب الضمير، أو الالتزام بدوائر الحلال.
لا يعني هذا أن المصريين لم يعرفوا أشكال المقاومة والمواجهة المباشرة، إن دعت إليها ضرورة، أو ساقت نحوها مواقف وأحداث جسام. فقد رفعوا السلاح في وجه محتلين، وضد سلطات باطشة سارقة. ورفعوه أيضًا لتمكين أفكار فريق أو طائفة فيهم من التحقق، كما عرفوا أشكالًا متنوعة من المقاومة المدنية تبدأ بالتذمر وتنتهي بالثورات والحروب.
لكن الطريقة الأكثر استمرارًا في حياة المصريين كانت هي المقاومة بالحيلة، التي لم تغب حتى في ظل حضور أشكال المقاومة الأخرى.
تاريخ من التحايل
قبل 25 ألف سنة تحايل سكان المروج الخضراء التي أصبحت اليوم الصحراء الغربية، على التحول المناخي الكبير الذي قلَّت معه الأمطار في تلك المنطقة حتى توقفت، فراحوا يبحثون عن الماء، أو أرض بديلة، فاهتدوا إلى النيل الذي كان مجراه يسري وسط أحراش كثيفة وأشجار داغلة، فأعملوا فيها مناجلهم الحجرية حتى انبسطت الأرض الخصبة، كما يخبرنا بهذا كتاب الجيبتانا الذى حوى أسطورة مصر القديمة، وبعض تاريخها البعيد.
تحايل المصريون على ضيق ذات اليد بوجباتهم الشعبية التي تجمع بين القيمة الغذائية ورخص السعر ولذة الطعم
ثم تحايل المصريون القدماء على النيل؛ فراقبوه وعرفوا موعد فيضانه ليروضوه، وموعد انحساره ليستعينوا على أيام الجفاف حتى تذهب. وعلى هذا الأساس كان يتم تحديد مواعيد الزراعة وجني المحاصيل.
وتحايل المصريون على ضيق ذات اليد باختراع أطعمة رخيصة، كان أولها "المش" بصموده في وجه الزمن، ثم توالت وجباتهم الشعبية التي تجمع بين القيمة الغذائية ورخص السعر ولذة الطعم، مثل مختلف تشكيلات الفول الحراتي والبصارة وليس انتهاءً بالكُشري. وهم في هذا ليسوا وحدهم، فكل الشعوب تقريبًا تعرف هذا النوع من التحايل، لكن أقدمهم فيه هو الشعب المصري.
وفي العصور القديمة أيضًا، عندما لم تتوافر الأخشاب بكثرة، وكانت باهظة الثمن، تحايلوا على هذا النقص باستخدام ستائر تقوم مقام الأبواب، وحتى في بيوت كبار الأثرياء فيما مضى، كانت الستائر مستخدمة بكثرة، وتُصنع من قطع من الستور أو قماش الخيش، مطرزة بالحرير.
فنون الاحتجاج
ثمة مثال بارز على هذا التحايل في العصور الوسيطة، عندما غالى الفاطميون في الضرائب التي فرضوها على المصريين، وحاولوا إجبارهم على اتباع المذهب العبيدي الشيعي، وكتابة عبارات على جدران المنازل وأبوابها تعبر عن أيديولوجية الفاطميين السياسية والدينية.
في مواجهة ذلك اخترع المصريون تعبيرَ "أنا أحتج"، فلمَّا ذاع وشاع بين الناس، قرر الفاطميون عقاب من يكتبه أو يتلفظ به بالجلد والحبس ودفع الغرامات، فلم يعجز المصريون عن الالتفاف على هذا العسف بتلخيص العبارة أو اختزالها في كلمة "أحت".
فطن الفاطميون إلى هذا أيضًا فقرروا العقوبات نفسها على من يكتبها أو ينطقها، لكن الناس غيروها إلى أحا ونشروها في ربوع البلاد، وبرز فريق منهم يقول إنها كلمة ليست ذات معنى أو دلالة، إنما لفظ عامي متداول لا يقصد به الاعترض السياسي، فأصاب الفاطميون الملل، وأخذوا بظاهر الكلمة، وتركوها تجري على الألسنة حتى وصلت إلى أيامنا هذه.
ولعل المثل الأكثر ذكرًا على ألسنة المثقفين اليوم هو ما تعلق بزعيم الحركة الوطنية بعد ثورة 1919 سعد زغلول، الذي صار مجرد ذكر اسمه بعد نفيه من الاحتلال البريطاني أمرًا يثير الشبهة حول صاحبه، ويستوجب التنكيل والعقاب، فأبدع المصريون أغنية "يا بلح زغلول.. يا حليوة يا بلح"، التي تبدو في ظاهرها نداءً يصدح به بائعو البلح في الترويج لبضاعتهم. ولكن لمَّا بات الكل يرددها في كل مكان، ويغنيها مطربون مشهورون، لم يجد البريطانيون بُدًّا من الصمت والتجاهل.
وخلال ثورة 1919 أيضًا، تحايل المصريون على غلق قوات الاحتلال الإنجليزي الطرق المؤدية إلى ساحة الأزهر أمام المتظاهرين، بإبداع مسالك أخرى يجهلها الجنود، منها طرق ضيقة بشارع الشنواني لا يعرفها سوى الأزهريين.
وهناك من صعد إلى أسطح المنازل يتنقل من أحدها إلى الآخر حتى يصل إلى مبتغاه، بل هدموا جدارًا بأحد المنازل المجاورة للأزهر كي يصل الناس منه إلى المسجد، وكان لهم ما أرادوا.
ثغرات قانونية
حين تصدر السلطة السياسية قوانين يرى أغلب المصريين أنها لا تعمل لصالحهم، لا يعترضون عليها، ولا يتصدون لها، إنما يلتفون حولها بحيل لا تنتهي، ويلجؤون في هذا إلى محامين بارعين في معرفة الثغرات الموجودة في مختلف القوانين، وخصوصًا قانون الإجراءات.
وطالما تحايل المصريون على مصادرات السلطة لأملاكهم فكانوا يوقفونها ليضمن ذوو الأملاك لذويهم دخلًا مناسبًا.
وحين أمَّم جمال عبد الناصر الأراضي، لجأ بعض ملاكها إلى توزيعها على رجال قريبين منهم، واستكتبوهم صكوكًا بأثمانها يسميها المصريون "أوراق ضد".
استبدل المصريون الماكريل الروسي بسمك الرنجة
وعندما صدر قرار في عهد عبد الناصر بوقف استيراد الرنجة من أوروبا ضمن برنامج تقشف حكومي، لجأ المصريون إلى بديل سريع، فاستوردوا أسماك الماكريل الروسية، ضمن اتفاقيات التبادل السلعي في بداية السبعينيات، وقاموا في مهارة بتحويلها إلى رنجة مدخنة، بعد أن أضافوا إليها كميات من الكركم، فظهرت للمشترين على أنها رنجة من نوع آخر، لتظهر على عربات الكارو في بعض الأسواق الشعبية.
وهذا اللون من الغش، الذي ينطوي على قدر من التحايل، هو أقل ضررًا من مواد كيماوية يضعونها في الفول المدمس، وهو الوجبة الشعبية الرئيسية في مصر، ليُطهى سريعًا، وورنيش أسود يصبغون به الزيتون غير الناضج ليأخذ اللون الأسود والباذنجاني الأعلى سعرًا.
التحايل المعاصر
للتحايل على الضرائب المفروضة على العقارات توقف ملاكها عن تسجيلها، مكتفين بإخطارات تصدر من المحاكم تضمن حقوقهم، حتى وجدنا بعض الإحصاءات الرسمية تذكر أن نحو 90% من عقارات مصر غير مسجلة.
وتتحايل النساء اللاتي يقبضن المعاشات بعد وفاة أزواجهن بزواج عرفي، يضمن للواحدة منهن حياة زوجية دون أن ينقطع معاشها.
وبعض الأزواج، مع ضيق الحال، لجأوا إلى تطليق زوجاتهن اللاتي يحصلن على معاش مقرر لهن من الأب أو الأم أو كليهما، ثم الارتباط بهن عبر زواج عرفي، وقد أفرط الناس في هذا حتى صار الطلاق الوهمي ظاهرة اجتماعية لعصرنا.
وتحايل المصريون على البصمة الإلكترونية التي تضبط مواعيد الحضور والانصراف في المؤسسات والمصالح والهيئات والشركات بإتلاف جهاز البصمة عبر استخدام الماء والكلور أو العطور والكريمات، فيما يخلط البعض كمية من السليكون السائل مع الشمع وقطعة صلصال، لاستنساخ بصمة الأصابع، وتبادلها بين الموظفين.
وحين قررت الحكومة إجراء تحليل للمخدرات للموظفين وسائقي الشاحنات والميكروباصات والمرشحين للانتخابات البرلمانية، تحايل المصريون على القرار باللجوء إلى ابتلاع أقراص منع الحمل، أو شرب خليط من العسل واللبن والخل لمدة تزيد على عشرة أيام، أو شرب بعض الكيروسين قبل التحليل مباشرة، لتظهر نتيجته سلبية.
تحايل على الغلاء
حين زادت أسعار السلع الضرورية، وبات من المتعذر على الفقراء الحصول عليها، بحثوا عن السلع الأقل جودة والأرخص سعرًا، وتلك التي تم استعمالها قبل ذلك، فوجدنا أسواقًا لبيع الطعام المطبوخ الفائض من الفنادق والحفلات وبيوت الأثرياء. وفي مواجهة ارتفاع أسعار اللحوم تشارك بعض الجيران في شراء الذبائح، ليأخذ كل منهم نصيبًا منها على قدر ما دفع في عجل أو خروف أو تيس.
ويواجه المصريون ارتفاع أسعار قطع غيار السيارات بتجميعها من سيارات قديمة يبيعها أصحابها أو تلك التي تعرضت لحوادث مهلكة، ويقيمون لها سوقًا في مدينة الحرفيين بات مقصدًا يجد فيه أصحاب السيارات ما يريدونه من بدائل.
استخدم المصريون الوصلات في مواجهة احتكار حقوق البث
وتحايل المصريون على الزحام وغلاء أسعار التنقل في شوارع المدن وحواريها باللجوء إلى العجلات "البايسكل" والدراجات البخارية والتروسيكلات والتكاتك، واستخدموا عربات الكارو في التنقل داخل الأحياء الشعبية، خصوصًا النائية منها، وعربات النقل الصغيرة التي كانت مخصصةً لنقل السلع والخضروات والفواكه من أسواق الجملة إلى محلات التجزئة، لتتحول إلى وسيلة نقل للآدميين.
ويرتاد المصريون أماكن بيع الملابس المستعملة (البالة)، ويترددون على الإسكافي لترقيع أحذيتهم، وعلى الترزي لإصلاح ملابس بليت بعض جوانبها، وعلى الرفا لسد ثقوب أو مزق فيها. ويجوب على المقاهي بائعو شفرات الحلاقة المستعملة، بعد أن يجمعها جامعو القمامة، وتباع لمن ينظفونها، ويعيدون تغليفها.
وحين احتكرت بعض الفضائيات حق بث مباريات كرة القدم العالمية والقارية، وأتاحتها للناس لقاء اشتراك للبطولة الواحدة أو سنوي، استحدث المصريون خصوصًا في الأحياء الشعبية نظام "الوصلات" المنتشرة في كل شارع، وهي عبارة عن جهاز استقبال لدى أحد محلات "الدش"، وجهاز منظم تخرج منه عشرات الكابلات إلى البيوت، ولكل كابل قيمة مادية بسيطة، تمكن المشاهد من متابعة البطولة.
وذهب آخرون إلى الحصول على اشتراكات جماعية بين عدة أسر، لتحقيق شيء من الخصوصية، وعدم التحايل القانوني. ثم طور تقنيون في محلات بيع أجهزة الاستقبال التلفزيوني وسائل لفك القنوات المشفرة، بل وصلوا إلى أجهزة تقوم بهذا الدور، يمكنها أن تعمل من خلال شبكة الإنترنت.
هذا كله ليس إلَّا غيضً من فيض تحايل المصريين، وهي أمثلة في أغلبها حديثة ومعاصرة، إن تتبعنا وجودها في أزمنة سابقة سنخرج بمئات أخرى تؤكد أن الحيلة واحدٌ من بين وسائل أو أساليب المصريين للتغلب على صعوبة الحياة، وتجبَّر السلطة، وكذلك تحايلها، الذي سنتحدث عنه أكثر في المقال المقبل.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
