منشور
الثلاثاء 10 يناير 2023
- آخر تحديث
الثلاثاء 10 يناير 2023
قرأت خلال ديسبمر/ كانون اﻷول الجاري بوست على فيسبوك، يحوي مقتبسًا من كتاب وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية، يتحدث عن غذاء المصريين في نهاية القرن الثامن عشر، والذي وُصف بالفقير بالغ السوء، المحدود وغير المتنوع، مما أصاب عموم المصريين بالضعف وسوء تغذية.
وقتها، وحسب موسوعة وصف مصر ذاتها، كان المصريون يتناولون وجبتين يوميًا، واحدة قبيل الظهر بقليل والثانية في بداية المساء. تخلو الوجبتان من اللحم سواء كان لحم طيور أو حيوانات، وتعتمدان على البقول المُدمسة في المستوقد العام، الذي كان يُطلق عليه الدماس، ويعتمد على الحرارة المتولدة عن حرق المخلفات لتسخين مياه الحمامات العمومية، ومن تلك البقول الفول واللوبيا والفاصوليا والترمس.
أما الخضروات الطازجة والفواكه فتنوعت بين الخيار والخس والبنجر والبصل والشمام والبطيخ والعنب. كذلك أوضحت الموسوعة أن المصريين، خاصة الذين يعيشون في الريف، يحبون تناول البيض واللبن والجبن القديم والسمك المملح.
إذًا، كان المطبخ المصري قبل مئتي عام فقيرًا إلى حدّ كبير، خاصة عند الطبقات الشعبية، قبل أن يصبح اﻵن حاوية تشمل أطعمة من كل صوب وحدب، حافل بشتى المأكولات التي تختلف حسب اﻷذواق والقدرة الاقتصادية، فكيف كان مطبخنا وقت الحضارة المصرية القديمة؟
بالعودة إلى الموسوعة، نجد أن الغذاء الأساسي للمصريين في تلك الفترة يتنوع بين البقول والخضروات الطازجة والدرنات، أي ساق نباتية متحورة تحمل البراعم التي تنمو لتعطي نباتات جديدة، كالقلقاس. وهو أمر طبيعي، باعتبار المكونات السابقة أساس زروع اﻷراضي المصرية منذ فجر التاريخ، كذلك الأسماك النيلية جزء من تلك العلاقة بين الإنسان وبيئته.
أما ما لم أتفق فيه مع علماء الحملة الفرنسية هو إدعاءهم بأن المصريين يتمتعون بكسل فطري، مما يجعلهم يشترون أطعمتهم سابقة التجهيز، أي المُدمسة، أو يتناولونها نيئة، وهو إدعاء ذو صبغة استشراقية، يؤطر المصريين جميعًا ويجعل منهم ذوي صفات واحدة وقابلة للحصر والتعميم.
منيو فرعوني
من الطبيعي أن تختلف اﻷطعمة والمأكولات من زمن إلى آخر، لكنّ الملاحظ استمرارية وصفات عدّة منذ بداية الحضارة المصرية حتّى وقتنا الحالي، ولعل الحديث عمّا جاء في وصف مصر فرصة للحديث عن إرثنا من المطبخ الفرعوني. كيف كان يأكل المصري القديم وماذا نأكل من طعامهم حاليًا؟
في كتاب وصفات من المطبخ الفرعوني، لماجدة مهداوي وعمرو حسين ومراجعة وتقديم عبد الحليم نور الدين، نقرأ أن المصريين القدماء عرفوا صناعة الخبز بأنواع عدّة، مثل الخبز الشمسي والبتّاو. ويبدو أن المصريين يعتنون بالخبز كثيرًا، إلى الدرجة التي يمكن القول إنه المكون الرئيسي في غذائهم. ومن الدقيق ذاته صنعوا الحلوى والفطائر بالسمن والبلح أو العسل، وكانت تخبز في الفرن أو تحمر في الزيت وتُحلى.
ويضيف المؤلفان أن المصريين كانوا يدمسون أو يجرشون ويسلقون الفول مع الأعشاب الخضراء، فيما يشبه حاليًا وصفة البصارة، أو يجففونه ثم يُعاد ترطيبه وطحنه مع الأعشاب وقليه في الزيت على طريقة إعداد الطعمية في الوقت الراهن.
كما عرف المصريون فنون طهي اللحوم بالسلق والتحمير والشواء، وصورت عملية الطهي كاملة، خاصة ذبح وتنظيف وشي الطيور على جدران المعابد والمقابر أبرزها مقبرة رمسيس الثالث بوادي الملوك، وتحوي مناظر تصور المخابز، ومقبرة بيبي عنخ ـ مير، وبها مناظر طهي الطيور، ومقبرة آخ حوتب ـ مير، وبها مناظر عملية شواء اللحوم، ناهيك عن المشروبات الساخنة كالحلبة والينسون والكراوية، التي كانت تُغلى في الماء وتُحلى بالعسل وتقدم ساخنة. إلى جانب المشروبات الباردة خاصة النبيذ والبيرة والبوظة.
أمّا بالنسبة للأسماك النهرية كالبلطي والقراميط والكلاب، واﻷخير سمك نيلي تصنع منه الملوحة، والبوري الذي كان يجري صيده من البحيرات، عرف المصري القديم أكثر من طريقة لطهيه، مثل القلي والشي والتحمير والتمليح.
إضافة لكل ما سبق، صنع المصري القديم الصلصات من البصل والمرق والأعشاب الخضراء التي تنمو في الأراضي المصرية بغزارة مثل البقدونس والشبت والكرات والسلق.
سفرة "دايمة"
سادت القائمة السابقة في بيوت الحكام وكبار الموظفين في الدولة كما تشير النقوش على جدران المعابد والمقابر، بينما كان غذاء عامة الشعب أبسط من ذلك بكثير. إذ اعتمدوا على نحو أساسي على الخضروات الطازجة والبقول، والطيور التي كانوا يربونها في البيوت. أما الأسماك فكانوا إما يأكلونها مشوية أو يملحونها ويحفظونها أثناء توافرها بكثرة بعد الفيضان، وهي طريقة تشبه صناعة سمك الملوحة حاليًا.
والمتتبع للنمط الغذائي للمصريين الآن يدرك بسهولة أن الوصفات السابقة لم تندثر، وإنّما استمرت وترسخت في وجدان الشعب، وظلت تقدم لآلاف السنين بالمكونات وطريقة الطهي والتقديم ذاتها، مع تطور بعض العناصر أو الاكتفاء بتناول بعض اﻷطعمة موسميًا مثل الملوحة والفسيخ في أعياد شمّ النسيم.
المطبخ المصري متكامل العناصر خاصة إن أدرجنا فيه الوصفات الأصلية للقرى والنجوع والواحات، دون أن نغفل مكونات أخرى باتت ركنًا أساسيًا بقائمة الطعام المصري، كاستعمال الطماطم والمانجو والفلفل الرومي الملون وأنواع الخس المختلفة والمكرونة وأنواع الأرز المتنوعة، كونها منتجات عرفها المصريون حديثًا.
خلاف الوصفات القائمة على السلق أو الشواء أو التحمير أو الطهي البطيء في طواجن الفرن أو الدس، وهو الطهى باللبن، لفت نظري في كتاب مهداوي وحسين مجموعة من الوصفات التي لا تزال موجودة في بعض المناطق؛ كالشلولو والبصارة والبلح المغلي واللواوي. واﻷخيرة تقدم في صعيد مصر، وتتشابه مع السمين، وهو وجبة شعبية تقدمها مسامط القاهرة.
تُطبخ اللواوي من الكرشة والأمعاء الرفيعة لحيوان الماعز، من خلال سلقهما على حدة بعد تنظيفهما جيدًا مع البصل والملح، وتقطيعهما لقطع صغيرة. وتُلف قطعة من الكرشة المسلوقة، وأحيانًا مع قطعة من الفشة المسلوقة، وتربطان معًا بقطعة من الأمعاء المسلوقة، ثم يحمر الكل في الزيت أو السمن، وتقدم ساخنة مع الخبز.
وفي الوقت الذي كان عموم المصريين يأكلون ما يتوفر من المسلوق أو المخزن، كانوا يدخرون الأكلات من أجل تقديمها قرابين إلى اﻵلهة، في مواعيد شبه ثابتة أمام رمز الإله، أو إقامة ولائم جنائزية لإرضائه خلال مراسم دفن متوفي وانتقاله إلى العالم الآخر. وهي ولائم عامرة بالأطعمة وقدور الشراب وأنواع الأزهار تقام وقت الوفاة وأمام قبره.
اليوم، وبعد مرور نحو قرنين على الحملة الفرنسية وعشرات القرون على الحضارة المصرية، لم يعد المطبخ المصري كما كان. حافظ على بعض أكلاته التي توارثتها اﻷجيال، واستقبل من مطابخ العالم وصفات أخرى، لكن دومًا وأبدًا خضعت الوصفات للتمصير، لتصدق المقولة الشائعة "كل شيء في مصر يتمصر".