كطباخة ومنسقة طعام، أستطيع القول إن اللحظات الأخيرة قبل المواسم والمناسبات الدينية، دائمًا ما تكشف الحالة الاقتصادية للمواطنين الذين يأمل أغلبهم في الترويح عن أنفسهم عبر وليمة يناسب حضورها على موائدهم الطقس الاحتفالي.
في مناسبة قريبة مثل تلك، انتظرت في زحام طويل أمام الفرارجي، تقف إلى جواري عجوز بجلباب أسود، تطلب نصف كيلو من أجنحة الدجاج، قبل أن تميل على البائع لترجوه أن يضيف رقبة "فوق البيعة عشان أمصمصها يا ابني، نفسي فيها والله"، لكنه يرفض، فتصمت السيدة منكسرة الخاطر، بينما أتأمل أنا ما جرى في استغراب؛ كيف وصل الحال بتلك المرأة لتسول رقبة دجاجة؟
في رمضان الماضي، مثلًا، قفز سعر كيلو الدجاج فجأة من 23 إلى 39 جنيهًا، ثم واصل صعوده خلال ذلك الشهر حتى وصل بنهايته إلى 43 جنيهًا، أي أن السعر تضاعف تقريبًا في أقل من شهر. هذا جنون.
لم يعتد المصريون من الطبقة المتوسطة شراء احتياجاتهم بمقدار الوجبة الواحدة، فالتاريخ القريب لسلوكهم الغذائي يوضح عكس ذلك. كتاب أبلة نظيرة، وهو المرجع الأساس للطبخ المصري الحديث، يتضمن فصولًا كاملة عن تخزين اللحوم والدجاج وعمل المربات والمخللات وحفظ الخضروات بالتجفيف والتجميد. تلك الصناعات المنزلية التي كنتُ من أواخر الأجيال التي درستها بالمدارس.
اعتادت المصريات، حتى الساكنات منهن في المدن، تربية الطيور والدواجن فوق أسطح البيوت مما كان يوفر أمانًا وسِعةً في الغذاء المنتج منزليًا. ولكن في السبعينيات تغير المجتمع المصري تغيرًا قويًا وحادًا؛ فمع الانفتاح أصبحت السوق المصرية مهبطًا لكل المنتجات المستوردة، قبل أن يظهر مصطلح اﻷمن الغذائي الذي يشير إلى قدرة الدولة على إنتاج أو توفير ما يحتاجه الشعب أو الأفراد من سلع وغذاء بشكلي جزئي.
وبات المستوردون المصريون، تحت مظلة الدولة، يستقدمون الدجاج واللحوم المجمدة، بالإضافة ﻷنواع العصائر والمربات والمشروبات الغازية والحلوى. كل ما كان ينتج ويصنع منزليًا أصبحنا نستورده بتكلفة كلية أقل من حيث الوقت والمجهود والمال، في ترجمة للمثل الشائع "شرا العبد ولا تربيته".
انتشرت المتاجر الكبرى وسلاسل السوبر ماركت، وفي الأحياء الشعبية والفقيرة انتشرت متاجر صغيرة لبيع المنتجات الغذائية المجمدة. أذكر منها محلًا صغيرًا بجوار منزلي كان يسمى البركة للأمن الغذائي.
هذا التغير الكبير في "تأمين" الغذاء واكبه تفتت الطبقة المتوسطة، التي انقسمت بين عليا وأخرى باتت اليوم تقترب من خط الفقر حتى أوشكت على التواري تحته.
ومع السنين أفرزت كل شريحة منهما ثقافتها الغذائية، تنعكس في سلوك شرائي، وجدت فيه الطبقة العالية ضالتها في الصعود المتنامي لسلاسل السوبر ماركت، فيما توجهت الشريحة الأقل دخلًا للشوادر وفروع الأسواق التي تدعمها مبادرة كلنا واحد، بعد تراجع الجمعيات الاستهلاكية.
وبحكم عملي المرتبط بالطهي، زرت تلك الشوادر والأسواق المدعومة مرات عديدة. ولاحظت أنها لا تقدم أسعارًا تنافسية، وإنما منتجات رخيصة ذات جودة متدنية تقبل عليها الطبقات الأقل دخلًا، بهدف تأمين وجبة مشبعة بأقل تكلفة.
مثل الوجبة التي كانت تأمل في الحصول عليها العجوز التي زاملتها في طابور الفرارجي، ودفعني فضولي لأعرف كيف ستطهو الأجنحة التي حصلت عليها دون رقبة الدجاجة. بالتأكيد لن تشويها، وفق وصفة الـ chicken wings الأمريكية الشهيرة.
أخبرتني المرأة وصفة قررت تجربتها في البيت لاحقًا؛ نصف كيلو من أجنحة الدجاج، ونصف كيلو من البصل المقطع مكعبات، وثمرتين من الطماطم المعصورة، وملح وما يتوفر من التوابل، بالإضافة إلى ملعقتي زيت وثلاثة أكواب من الماء.
يقلب البصل في الزيت على النار حتى يذبل، ثم تضاف قطع الدجاج وتقلب، وبعد ذلك تضاف الطماطم والتوابل ويقلب الخليط ويترك ليغلي على النار، ثم تتم إضافة الماء وتترك الوجبة لتنضج.
تأملت الوصفة بينما تسرد مقاديرها وخطواتها. لقد أضافت الكثير من البصل لتضاعف الكمية وتُكسب القوام كثافة تُسهِّل التغميس. جربتها في البيت باستخدام أفخاذ الدجاج، لكن النتيجة لم تعجبني، نعم كانت الكمية كبيرة ومشبعة، لكنها من دون قوام وتفتقر للنكهات.
كانت الوصفة بحاجة للكثير من التطوير والتعديل والإضافات، رغم ذلك يبدو أن الفقر يفرز وصفات، تبتدعها النساء، تكيفًا مع قلة الموارد المتاحة لهن، لتصير مشبعة وتشبه الوليمة، حيث يحضر "الزفر" بغض النظر عن كميته.
أترك المرأة ووصفتها إلى قنوات التليفزيون. على شاشة القناة الأولى برنامج طبخ بعنوان أكلة أمي. يوحي الاسم باحتمالية اكتشاف وجبة جديدة تشبه ما تبتكره النساء للتكيف مع المستجدات الاقتصادية. ولكن الشيف أحمد المغازي، مقدم البرنامج، كان يعد في ذلك اليوم وصفتّي ريزوتو الجمبري وسمك القاروص المشوي، وفي يوم تالٍ كان يقدم جمبري مقلي كريسبي، ومكرونة بالجمبري والكريمة. يبدو أن أصول والدته تعود إلى إيطاليا.
للأسف لا تناسب وصفات الجمبري والقاروص ومكرونة الصلصة البيضاء ميزانيات المصريين، الذين تعيش نسبة 29.7% منهم تحت خط الفقر، طبقًا لتصريح وزيرة التخطيط هالة السعيد أمام وفد صندوق النقد الدولي.
في مشاهدة فاحصة دورية لمطابخ الإعلام الرسمي أو الخاص، بدا أن تلك الفضائيات لا تعبأ بتقديم ما يوافق التطلعات الغذائية لنسبة كبيرة من المواطنين بما يناسب قدرتهم المادية الفعلية، وكأن ثمة تجاهل مقصود وتهميش للفقراء. أو بصيغة أخرى، يبدو أن أطباقهم الرخيصة لا تناسب بهرجة الاستوديو، وتنقص من رصيده.
قنوات مثل CBC سفرة وPNC food لا يوجد بهما برنامج واحد أستطيع أن أقول بثقة إنه موجه للشرائح الدنيا من المجتمع المصري، بل تتبارى برامجهما على تقديم رولات اللحم المحشو، والمافن، والبحريات المشوية، والطيور التي تُحشى وتزينها المكسرات.
أما البرامج التي تستهدف الفئات الأكثر احتياجًا وتقدم نفسها للجمهور، وفق تلك الصيغة مثل برنامج "على قد الإيد" (CBC سفرة)، الذي يتضح من اسمه الرغبة في التوجه إلى الطبقات ذات الميزانية المنخفضة، فمقدمته وفريق إعداده، يوجهون مجهودهم إلى أكلات ذات طابع شعبي، صحيح، لكن تكلفتها مرتفعة شأنها شأن البرامج التي تقدم وصفات أوروبية.
هل يخجل مقدمو البرامج في التليفزيون المصري من عرض الحقيقة؟ لماذا يقدمون وصفاتهم على أي حال رغم أن أغلب المشاهدين لا يستطيعون تنفيذها؟
يذكرني ذلك الأمر، بجزار كان يبيع فيما مضى "السقط" في الخفاء، ولا يعرضه ظاهرًا في واجهة محله حتى لا يظن زبائنه الموسرين أنه جزار درجة ثانية. والسقط هو كل ما يتخلف عن الدبيحة من رئتين وأمعاء. ورغم أن ذلك النوع من الجزارين لم يعد موجودًا الآن، صار السقط سلعة رئيسية في أغلب محلات بيع اللحوم، فيما بات الفرارجي يرفض التنازل عن رقبة ربما كان يلقي بها في الماضي للقطط، لأن كل شيء تغيّر اليوم.