التدهور والانحطاط ليسا ذروةً للحظات درامية أو محطات مشهدية داخل ملحمة يسردها راوٍ. والتوحش ليس عضةً من كائن مسعور سيجعلك لعابُه مستذئبًا إذا عقرك. وحياة الناس ليست أحداث مسلسلٍ تليفزيونيٍّ تتصاعد أحداثه الدرامية لتسلية المشاهد. التدهور والانحطاط والتوحش عمليات ومسارات تتسيد ببطء لو لم تُقاوم بوعيٍّ ومشروعٍ مضاد.
لكن في الأغلب، من يضطرون للاستسلام والرضا بالعيش المعتاد تحت وطأة هذه الشروط، لا يكونون قادرين على إدراكها والإحاطة بآثارها الكاملة عليهم، إما لأنهم في حالة إنكار أو إخضاع وصدمة مستمرة، أو ربما لأنهم قرروا التواؤم معها والتطبع بطباعها. فالبشر يسعون دائمًا إلى التكيُّف مع أي ظرفٍ طالما اعتبروه قاهرًا أو "فوق طبيعي" بالنسبة لهم.
منذ أيام قليلة، قذفت بالوعات السوشيال ميديا في وجهنا فيديو لطبيبة أمراض نساء وتوليد اسمها وسام شعيب، وهي تقدم فاصلًا منحطًا من استباحة واحتقار مرضاها من النساء والفتيات القاصرات، بينما كانت تقود سيارتها مرتديةً نظارةً شمسيةً رديئةَ المظهر، وهي تظن أنها تقدم لمشاهديها فقرةً لطيفةً وفكاهيةً.
جاءت أغلب تعليقات الفيديو مؤيدةً للطبيبة في ما مارسته من تصرفات وما وصلت إليه من استنتاجات بشأن المرضى والشعب المصري عمومًا، وجاء الدعم الإلكتروني لها مستندًا إلى كونها طبيبة، صاحبة سلطة، ومرضاها من العوام الفقراء، الجانحين منعدمي الأخلاق والدين.
لكن على جانب آخر ومع انتشار الفيديو، كانت ردود فعل العامة في أغلبها مصدومةً ومستنكرةً لدرجة التبلد واللامهنية واللاإنسانية التي تحدثت بها الطبيبة عن مرضاها.
وما هي إلا ساعات قليلة، حتى تحركت أجهزة الأمن المعنية وألقت القبض على الطبيبة، من باب الاحتراز ومنعًا لاتساع الجدل والبلبلة، فالسلطة الحالية في مصر تحبس الناس أولًا إذا ما صدرت عنهم أي ضوضاء، ثم تحدد أسباب حبسهم لاحقًا، إذا ما تذكَّرت أنهم محبوسون عندها من الأساس!
هذه الطبيبة المُستبيحة لمرضاها بكلِّ هذا الشر هي وجه للسلطة الحالية في مصر ولرمزها الأعلى
جزء من عملية الاحتواء الأمني لما يطفح من البالوعات الإلكترونية من حين إلى آخر، هو الخوف من ردة الفعل الجمعية عليها أو تبلور خطاب تقدمي أو خيري أو حر مناهض لها. فكما أشرت في مقالات سابقة؛ الهدف النهائي للسلطة هو أن يرى الإنسان ألَّا شأنَ له في حياته، وأن يحمد الله على استبقائه نصف حيٍّ بحيث تصل السلطة بالجميع إلى مرحلة استقرار القبور، وأن تصبح الأرواح والنفوس هائمةً ومعذبةً، فيشاهد الناس أجسادهم من خارجها وهي تتحلل.
لكن الأمور لا تحدث فجأة أو بين عشية وضحاها، وقناعاتي الفلسفية والأيديولوجية أن التراكمات الكمية تؤدي إلى تغيُّرات نوعية، وأن التدهور والانحطاط لا يتوقفان من تلقاء نفسيهما، وأنه ليس هناك جوهر مجرد اسمه مصر ككينونةٍ مقدسةٍ تعلو فوق الزمن، محروسةٍ وخالدةٍ بإرادة الله النافذة.
يمكن لمصر، كمشروع اجتماع إنساني معاصر، أن تتحطم وتتشظى إذا تراكمت الشروط وتفاعلت الصراعات والإرادات التي تفضي بها إلى هذا المآل والمصير. وربما إحدى أكبر كبائر الحكم المعاصر في هذا البلد هروبه من تبعات ومسؤوليات أفعاله وتصرفاته بتبني الدروشة التي تخلط الوطني بالديني، وتكرار مقولات من نوع أن الله لن يترك مصر تعاني في محنة تطول. أتمنى ذلك على كل حال، إذا اعترف هؤلاء بأنهم هم المحنة التي طالت.
لكن التغيرات الكمية والمادية في مصر واضحة وجلية، وأهمها استمرار تقلص الموارد وشحها، مع تركزها في يد أقلية من السكان، وهذه عملية تفضي حتمًا إلى درجات من التوحش السياسي والاجتماعي بصيغٍ ومظاهرَ مختلفةٍ.
قواعد إنتاج غير علمية أو عملية، وبالتالي غير فعالة، تُفضي إلى قواعد وسياسات توزيع غير عادلة على قاعدة النحت من اللحم الحي، واستمرار النحت من اللحم الحي هو عين التوحش.
وعلى مستويات أكثر تفصيلًا، فإن واحدةً من أوضح التغيُّرات الكمية في مصر هو تحولها إلى بلد طارد للكفاءات والمواهب، وهذا طبيعي ومنطقي في ظل استمرار شرعية الجهل المسلح المخيفة والخطيرة والمهينة في اللحظة نفسها.
هذا الوضع جعل كل من هو قادر على الحصول على فرصة عمل في الخارج، لا يتردد في الرحيل عن البلد. يغادر مصر أطباؤها الأكفاء بالآلاف المؤلفة منذ سنوات، هذا هو التغيُّر الكمِّي الذي في تراكمه سيفضى إلى تغيُّرٍ كيفيٍّ ونوعيٍّ اسمه الطبيبة وسام شعيب، تمارس التوحش اللاأخلاقي من موقعها كممارسٍ للمهنة، فتفضح مرضاها وتحط من كرامتهم، بينما تهلل لها قطاعات من الجمهور لمجرد كونها طبيبةً باقيةً في كفر الدوار.
لا يمكنني الجزم بدوافع وسام شعيب وهي تصنع محتواها في بلاعات الإنترنت. ربما يدفعها تدفق مناكب التوحش إلى زيادة دخلها باعتلاء ترندات السوشيال ميديا، أو يجعلها البحث عن زبائن جددٍ لعيادتها الخاصة إلى الترويج لنفسها كطبيبة أمراض نساء تحافظ على "التقاليد والأصول" المحافظة.
وربما تحاول التأكيد على رقيِّ وعلوِّ موقعها الاجتماعي بتحقير مرضاها الفقراء البسطاء المضطرين للذهاب إلى عيادات عامة أو حكومية والحطِّ من كرامتهم.
لكن في كل الأحوال، فهذه الطبيبة المستبيحة لمرضاها بكلِّ هذا الشر هي وجه للسلطة الحالية في مصر، ووجه لرمزها الأعلى، حيث لا رحمة ولا مسؤولية أو عاطفة، بل احتقار عميق للفقراء والبائسين وكراهية تغلف نفسها باستعلاءٍ قيميٍّ ودينيٍّ عليهم، لتنتج عظات أخلاقية مفككة وكذوبة مصحوبة بأفعال وسلوكيات مجردة من أي أخلاق إلا أخلاقيات المجرمين.
سلوك وسام المفتخر بذاته يعيد التأكيد على فكرة أن السلطة والقوة فقط هما معيار الشرعية في مصر حاليًا، في ارتهانهم لمن هم خاضعين لهما، سلطة الطبيب المعالج على المريض الفقير المضطر لتسول الخدمة الطبية العامة؛ سلطة رجل الأمن على المواطن الخائف على أمنه، سلطة الدولة التي تحتكر المعلومة والقرار والمال في مجتمع استثمرت في إضعافه وتفكيكه تنظيميًا وحركيًا وفكريًا.
الطبيبة وسام هي الواقع الحالي للتوحش، فالتوحش لم يسكن الأجساد والأرواح فجأة، بل هو تراكمٌ كميٌّ أضحى واقعًا كيفيًا جديدًا، ومن داخل شروطه سيولد الضد المقاوم، ولا تتعجبوا أو تجزعوا لو حمل بعضًا أو كثيرًا من ملامحه.