"جهاز الكفتة".. الذكرى العاشرة للمصاب الأعمق

عشر سنوات مرَّت على أحد أغرب الأحداث الاستثنائية في تاريخ مصر الحديث. ربما لم يدرك أغلب الناس وقتها خطورته ودلالته، وأنه يشكّل منعطفًا رمزيًا ومعنويًا في مرحلة تاريخية شهدت فيها البلاد زلازلَ ماديةً شديدةَ العنف وعلى نحو متسارع؛ ثورات وانقلابات واضطرابات ومذابح. وهو ما يجعلنا نلتمس الأعذار لعوام الناس وبسطائهم، فما شهدوه واختبروه في هذه الفترة كان شديد الوطأة ماديًا ونفسيًا. أما خاصتهم ونخبتهم؛ فهم موضوع هذا المقال.

في مثل هذه الأيام قبل عقدٍ مضى، زفّت إلينا الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، على لسان رئيسها اللواء طاهر عبد الله، بشرى إنجاز مصر اختراعين علميين غير مسبوقين في تاريخ الإنسانية؛ جهاز يعمل بالموجات الكهرومغناطيسية يكشف فيروسي الإيدز والكبد الوبائي في جسد المريض من دون أخذ عينة دم منه، وآخر يعمل بالموجات الكهرومغناطيسية ذاتها، لكن لعلاج أمراض الإيدز والكبد الوبائي والسكر والصدفية، عبر تدوير دم المريض، وذلك من خلال قدرة الموجات على تحويل الفيروسات إلى بروتينات وأحماض أمينية.

أثار الخبر فرحة ملايين المصريين من مرضى فيروس C الذي كان يستوطن بلادنا وقتها ويقتل عشرات الآلاف سنويًا، راحوا يهللون في تفاؤل وسعادة لبشرى القوات المسلحة. لم يكن ممكنًا في اللحظات الأولى ألا تؤخذ هذه الفرحة في الاعتبار، وكان التشكيك في مصداقية هذا الإعلان أمرًا حساسًا في الأيام الأولى، خاصة وأنه برعاية المؤسسة الأكثر انضباطًا في البلد، والتي، بنظر الكثيرين وقتها، أنقذت مصر للتو من الانزلاق لحربٍ أهلية.

المصريون أمام اختبار عسير

لكن سرعان ما ظهر نجم المشهد؛ اللواء مكلّف إبراهيم عبد العاطي، الذي قدمته القوات المسلحة وأجهزة الإعلام باعتباره مخترع الجهازين العلاجيين. لم يحتج كلُّ ذي فطنة أكثر من دقائق ليدرك ما أكدته المحاكم لاحقًا، أننا أمام نصاب محترف من عينة طالما قدمتها السينما المصرية. لكنَّ المأزق كبيرٌ بالفعل، فهذا الرجل يرتدي الزيَّ العسكريَّ المصريَّ، ويحمل على كتفيه رتبة اللواء. 

في قضية اللواء عبد العاطي تجلّى مبدأ سيادة العسكريين التامة على المدنيين في عالم ما بعد 2013 وتحققت مفاهيم إطاعة الأمر العسكري وإن كان خاطئًا

التحق والدي رحمه الله بالقوات المسلحة المصرية ضابطًا مهندسًا في سلاح الدفاع الجوي، خدم سبع سنوات وشارك في حربي الاستنزاف وأكتوبر، ليعود بعدها إلى الحياة المدنية وهو يحمل رتبة الرائد، فما الذي قدمه إبراهيم عبد العاطي ليزيَّن كتفيه بالنسر والسيفين، لواءً مكلفًا في الجيش المصري؟

شكَّل عبد العاطي اختبارًا عسيرًا لملايين المصريين، فكيف يمكنهم أخذ الدجل العلمي الذي يقدمه على محمل الجد؟ وكيف يستخفون بحديث يصدر عن شخص في مرتبة معنوية عالية، لم يصل إليها آلاف الذين خدموا في الجيش المصري من خيرة أبنائه؟

لم نعرف حتى الآن الظروف والسياقات التي حوَّلت فنيَّ معاملٍ مدانًا بمزاولة مهنة الطب دون أن يكون طبيبًا إلى لواء؛ بعد عشر سنوات فقدنا خلالها أهليتنا كمواطنين واحترامنا كمتعلمين. في قضية اللواء إبراهيم عبد العاطي، تجلّى، وبمنتهى القسوة المهينة، مبدأ سيادة العسكريين التامة على المدنيين في عالم ما بعد 2013، وتحققت مفاهيم إطاعة الأمر العسكري وإن كان خاطئًا؛ نفِّذ ثم اعترض. مفاهيم نتجرَّع ثمن نفاذها علقمًا حتى يومنا هذا.

عام 2014 بذل الصديق الراحل العزيز محمد أبو الغيط مجهودًا لافتًا في تتبع سيرة ومسيرة إبراهيم عبد العاطي، توَّجه بتحقيق ومقال في جريدة الشروق، اختتم أبو الغيط مقالة الجميل بقوله "ولأنَّ هذا ليس عصر عبد الناصر، بالتأكيد ستعلو أصوات فوق صوت المعركة".

كان محمد ما زال متفائلًا بأثر ثورة يناير البنَّاء على كفاءة الإعلام واحترافيته، لم يكن يعرف أنَّ إعلام زمن عبد الناصر كان أكثر احترافيةً ومصداقيةً من ذلك الذي نصلى في سعيره منذ عشر سنوات.

ولكن ما حدث أنَّ وسائل الإعلام هللت للإنجاز، وشنَّت حملة شعواء ضد كل من انتقده. أما اللواء نفسه فكان يعلم جيدًا أنَّ الإصرار على روايته وحتى النهاية وبمنتهى الثبات واليقين هو المدخل الوحيد لعدم كشفه، فقايض مستمعيه بعناصر العظمة المصرية التي تخدِّر وجدانهم وترضي غرورهم الوطني الجريح، وتحدَّث في جملٍ قليلةٍ عن المصرية والعروبة والإسلام والدولارات والمخابرات والجيش والفراعنة ومجد الأجداد الذي كان وسيظل.

رصاصة في قلب الحداثة المصرية 

في حينه، لم تتحرك النخب الطبية المصرية لمواجهة هذا الجنون المثير للغثيان، لم تنتفض لكرامة المهنة. انتظرت صيحات غاضبة من الدكتور محمد أبو الغار والدكتور محمد غنيم ومن بنفس مرتبتهما العلمية، لإيقاف هذه المهزلة، احترامًا للعلم والمعرفة والحداثة واحترامًا لمصر نفسها، لكنَّ معظم الأصوات كانت متقطعة وخجولة وخافتة، وسقط الجميع في الاختبار إلا أقلية صغيرة كانت تواجه هذا الجنون وكأنها تخوض حربًا انتحارية.

في تلك الأجواء حاورت صديقًا سابقًا يعمل في وزارة الخارجية المصرية كان متحمسًا وقتها لدور الدولة وأجهزتها، قال لي حينها، وهو شخص شريف ونزيه، إنه يعتقد أننا أمام إنجازٍ تاريخيٍّ استثنائيٍّ للدولة المصرية علينا أن نصدقه، لأنه "لو كذب هذا الإعلان، فستكون هذه نهايتي أنا شخصيًا وسأكفُّ عن الاشتباك مع الشأن العام بعدها"، والحقيقة صدَق الرجل ونفذ وعده.

خاضت النخبة المصرية في منعطف اللواء عبد العاطي ملحمة سقوطٍ حرٍّ أليمٍ، من داخل الدولة وخارجها. اختار السواد الأعظم من النخبة والإعلام والمتعلمين التطبيل الحماسي أو الصمت المتواطئ.

في ذلك الوقت، وقبل أن تملك السلطة ما لديها اليوم من أدوات القمع والتنكيل التي تجبر الجميع على اتخاذ مثل هذه المواقف، كان الاختيار ما زال متاحًا. ولكنهم وضعوا العِلم والمنطق واللياقة والاحترام وحياة البشر وصحتهم وشهاداتهم الجامعية وسمعة مصر وكل شيء في كفة، وفى الأخرى وضعوا ما تصوروا أنه سمعة القوات المسلحة، فاختاروا ما بدا لهم أنه دعم للجيش المصري، فيما كانوا يدمِّرون الأمة المصرية.

كان "جهاز الكفتة" منعطفًا رمزيًا مهمًا في تاريخ هذا البلد، من امتلك بعض البصيرة وقتها كان يعرف أنَّ ما يحدث هو إلقاء بذرة سنحصد ثمرتها لاحقًا، فما رأيكم في الثمرة الآن؟