المصريون المسافرون فاجأتهم تأشيرات دول غربية تحمل اسم هذا البلد أو ذاك، مكوَّنًا في العادة من كلمة، لا فرق بين مملكة وجمهورية رئاسية وأخرى برلمانية. مع هذه الدول، ولتكن ألمانيا أو هولندا أو إسبانيا أو السويد، يكفي الاسم، من دون صفة. والدستور يحدد طبيعة النظام السياسي، فاسم الدولة الراسخ يستغني عن مذكرة تفسيرية تشرح فلسفة الحكم، ولعل الإلحاح على تعدد الصفات تعويض عن غياب المعنى، وكان المملوك يستعجل لقبًا في بداياته، وكلما صعد أضاف ألقابًا، فإذا بلغ القمة تخفف من ألقابه. صعد كافور وحمل لقب الأستاذ. يحكم المملوك فيتخذ لقبًا واحدًا: المظفر، الظاهر، المؤيد، الناصر، المنصور.
تأشيرات الدخول دليلي إلى أسماء دول عربية، أوجزها LEBANON/لبنان من الأمن العام في مطار بيروت عام 2002. تليها في الإيجاز: الجمهورية التونسية، والجمهورية العراقية، وبعد الغزو الأمريكي تغيرت إلى "جمهورية العراق". كل تأشيراتي تحمل اسم الدولة بلغةٍ أو اثنتين. لكن تأشيرة بلاد الرافدين بعد الغزو تحمل اسم العراق بالعربية والكردية والإنجليزية، وإذن الدخول باللغات الثلاث: سمة الدخول/ڤيزه هتنله ژووره وه/Visa. تأشيرة في ثلاث أصابع تزاحمت سطورها وصغرت حروفها؛ لتَسَعَ زحمة بيانات باللغات الثلاث: اسم طالب التأشيرة وجنسيته، جهة إصدار جواز السفر، نوع الفيزا، عدد السفرات، تاريخ ورقم الموافقة، وتفاصيل تنتهي بمديرية الإقامة، وضابط الإقامة، والقنصل.
الثراء العربي أجدُه فقط في تعدد صفات الدول، منها ذات الاسم الرباعي، مثل الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، هناك رأيتُ سفارة الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. في العالم العربي فقط دول مسبوقة بكلمة "دولة". وفي اجتماع للقمة العربية سخر صدام حسين من القذافي، وعلى مهل نطق "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى". وكثيرًا ما سمّى الأعمى بصيرًا، والأقرع الشعراوي، والعقيد محا ليبيا شعبًا واسمًا، واستبدل به أطول اسم لدولة على الإطلاق. أما سوريا فاستردت اسمها، بالانفصال عام 1961. وظلت مصر تتخفى وراء مسمى الجمهورية العربية المتحدة. لا ننسى صوت أنور السادات ينعى جمال عبد الناصر "فقدت الجمهورية العربية المتحدة...".
سوريا انفردت بمسميات ذات دلالات تحمل بعض الالتباس؛ "الجيش العربي السوري"، وكأن فيها جيشًا آخر غير عربي. وكذلك "اتحاد الكتّاب العرب"، وهو اتحاد كتّاب سوريا لا العالم العربي. الوصف المحدد لكتّاب سوريا قد يغضب كتابًّا سوريين من الأكراد، ولو كانوا يكتبون بالعربية. وبعد الثورة تشكّل كيان آخر، أكثر دقة في الاصطلاح، هو رابطة الكتاب السوريين، كتجمع مستقل للمثقفين السوريين من التيارات الأدبية والفكرية خارج إطار الهيئات الرسمية. كنتُ شاهدًا على تأسيس الرابطة، والانتخابات التي أجريت في نقابة الصحفيين بالقاهرة في أبريل/نيسان 2012، لاختيار الأمانة العامة، وفوز المفكر صادق جلال العظم برئاستها. عدوى الصراعات أصابت الرابطة، ولا أعرف مصيرها.
مصر تحتفظ باسمها الثلاثي؛ "جمهورية مصر العربية"، وقد خضتُ تجربة شاقة أتقصّى اسم مصر قبل محوه، في الفترة التالية لإلغاء الملكية وقبل أن تَستبدَل باسمها عام 1958 جملةَ "الجمهورية العربية المتحدة"، وصارت الإقليم الجنوبي.
سوريا التي لم تعد الإقليم الشمالي اختارت اسم الجمهورية العربية السورية، وحافظت مصر على عهد الجمهورية العربية المتحدة لا تفرّط فيه. نراه في الوثائق الرسمية، مثل صورة البطاقة الشخصية لعباس محمود العقاد، في يناير/كانون الثاني 1964، قبل ميلادي بعامين. وبالمصادفة عثرت على دستور 1956، يتكون من 196 مادة، في سبعين صفحة صغيرة القطع. أعلى الغلاف "جمهورية مصر"، وتحته النسر والعلم ذو الهلال والنجوم الثلاث، ثم "الدستور".
في الصفحة الأولى "دستور الجمهورية المصرية"، عنوان الباب الأول "الدولة المصرية"، وتقول المادة الأولى "مصر دولة عربية مستقلة ذات سيادة. وهي جمهورية ديمقراطية. والشعب المصري جزء من الأمة العربية". لماذا لم يكتفوا، مثل أوروبا والدول المقدمة، بكلمة "مصر" وحدها لا شريك لها؟ لعلَّ ذلك لم يكن سهلًا عقب إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في يونيو/حزيران 1953. والآن يبدو لمن يكتفي بنطق كلمتي "جمهورية مصر" أنه سينكفئ، كان مسرعًا فتوقف فجأة أمام حفرة. هل أثار توصيف "جمهورية مصر"، آنذاك، غضب عروبيين أو قوميين أو إسلاميين؟
حملتُ سؤالي إلى أقصى الجنوب، في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة 2019، فرحْتُ بمعرض أنا بخير اطمئنوا. معرضٌ يوثِّق جانبًا من نضال المرأة العربية. من مقتنياته كارنيه عضوية نقابة المهن التمثيلية لهند حسين مراد رستم (الشهرة: هند رستم)، ولا يحمل اسم الدولة. وجواز سفرها يخلو من تاريخ الصدور، وينتهي في 30 أغسطس/آب 1955، صدر من القاهرة/Caire Le، بالعربية والفرنسية. في جواز السفر لا شيء عن اسم مصر، وأشياء تحتاج إلى بحث علاقات مصر بمحيطها العربي، ففي الصفحة الأولى مطبوع بالعربية والفرنسية؛ "هذا الجواز صالح للسفر إلى البلاد الآتية"، ومكتوب بخط اليد؛ "سوريا، لبنان، شرق الأردن، العراق"، وشُطب بالقلم على لبنان، كما شُطب على "Italie"/إيطاليا و"France"/فرنسا المكتوبتين بخط اليد.
مصر اسم أيقوني يكتفي بذاته ويفسّر نفسه ويغلق الأبواب أمام اللئام
في الآونة الأخيرة، صادفتني صورة للوحة الرخامية لمتحف الزعيم مصطفى كامل، وقد افتتحه وزير الإرشاد القومي فتحي رضوان في أبريل/نيسان 1956. أعلى اللوحة، داخل هلال يشير إلى العلم المصري، مكتوب بخط الثلث "جمهورية مصر". سألت المهندس العماري الدكتور عصام صفي الدين أن يمدّني بصورة أخرى، فأرسل إليَّ مشكورًا صورة تبدو صفحة من كتاب بالعربية والفرنسية، وفيها يرتدي اللواء محمد نجيب الزي العسكري، في صالون منزل فتحي رضوان مع ابنته عزة تتأمل صورة في إطار للواء نجيب "أول رئيس لجمهورية مصر". تاريخ الصورة 8 أبريل 1954. لعلها من الصور الأخيرة لنجيب، قبل إجباره على الاستقالة، وتحديد إقامته في فيلا زينب الوكيل.
عبد الناصر أول رئيس مصري منتخب. وفي ورقة واحدة طُبع استفتاءان، على اليمين استفتاء على دستور 1956، وعلى اليسار استفتاء على انتخاب عبد الناصر رئيسًا، وتعلو كلتا الورقتين "جمهورية مصر". ولأن العملات من علامات السيادة الوطنية، فمن عام 1957 توجد عملة معدنية فئة خمسة مليمات. وفي العام نفسه عثرت على صورة تذكرة مرور، يعلوها بالعربية "جمهورية مصر"، وبالفرنسية "REPUBLIQUE D'EGYPTE"، صادرة من إدارة الجوازات بوزارة الداخلية، يوم 25 يوليو/تموز 1957. التذكرة للخروج، بدون عودة، وتحمل اسم مارك باتان شاؤول عباده وزوجته ماري. تلك الأدلة، وغيرها، تؤكد وجود مسمى "جمهورية مصر"، فهل نأمل في رجوع "مصر" منفردًا؟
لماذا "مصر" وحده؟ لأنها اسم لا يختلف عليه العقلاء، الاسم الثابت منذ توحيد البلاد في دولة لم تتغير حدودها قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. خديوية، سلطنة، مملكة، جمهورية. هي مصر دائمًا، أيًّا كان الاسم المضاف إليها. مصر اسم أيقوني يكتفي بذاته، ويفسّر نفسه، ويغلق الأبواب أمام اللئام. في يوليو 2024 مات الدكتور محمد علي محجوب وزير الأوقاف بين عامي 1986 و1996. بعده تولى الوزارة الدكتور محمود حمدي زقزوق الذي قرأت له، في أولى ثانوي كتابًا عن الاستشراق ولم أعرف لمحجوب كتابًا، ومنذ خروجه من الوزارة لم أسمع باسمه، ولا أجد أحدًا يستدل بعلْمٍ له أو مؤلفات.
لم أعلم أن محمد علي محجوب حيٌّ إلا يوم وفاته، وسمعته في مقابلة تلفزيونية مسجلة يفخر بدوره في صياغة المادة الثانية في الدستور، وتتضمن لغم "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". تذكرت خديعة نائب رئيس الدعوة السلفية الطبيب ياسر برهامي عضو لجنة دستور 2012 الإخواني الطائفي، وإلى المادة الثانية القديمة أضاف المادة رقم 219 "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنة والجماعة". وتباهى برهامي بخداع أعضاء اللجنة، وتمرير هذه المادة، لأن "العلمانيين مش فاهمين المسألة، ولا النصارى فاهمين... هي عدّت عليهم والله لأنهم مش فاهمينها.. لما أخدوا بالهم منها قالوا مادة كارثية".
اسم "مصر" وحده عاصم من القواصم، لحماية الدنيا وتنزيه الدين عن شرار الساسة والسياسة، وضمان حقوق المواطنة للجميع. انسَ الكُمُون السلفي والإقصاء الإخواني، فالخطاب السياسي سلفي. كتبتُ كثيرًا أن المتأمل للخطاب الرئاسي يظن السيسي "واليًا على إمارة إسلامية"، ولو أجريت انتخابات نزيهة، عام 2024، لاكتسحها اليمين الديني، الإخوان أو السلفيون لا يهم، ولا نستبعد تغيير الاسم إلى "جمهورية مصر الإسلامية"، أسوة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية. سيفرح المصريون احتفالًا بالنصر المبين ويسهرون حتى مطلع الفجر، فإذا قضيت الصلاة اصطفّوا قبل الشروق أمام السفارات، ينتظرون تأشيرة أي دولة علمانية، اسمها من كلمة مجرّدة. هجرة بلا عودة، من ديار الإسلام إلى عدالة البشر.