المنصة
تصميم: يوسف أيمن

احتكار الله والمرض بالآخر

منشور الأربعاء 25 سبتمبر 2024

ضحايا الجحيم الأرضي لا يَرحمون، الديكتاتورية وقسوة الحياة لا تلين قلوبهم؛ فيطلبون تعويضًا غريبًا، لا يكفيهم الاطمئنان إلى الوعد بالجنة، فيمدّون حبل العشم إلى أقصاه، باحتكار الله، والاستحواذ على جنته، حتى إنهم يحلفون أن الآخرين محرومون منها، ويرون أن إيمانهم لا يكتمل إلا بهذا اليقين.

لا يختلف في هذا الاعتقاد مسلمون متدينون عن مسيحيين متدينين، ورجال دين على الضفّتين. أما غير المتدينين، أولئك المؤمنون الطيبون حقًا، فمتصالحون مع الله ومع الناس، يرجون الجنة لأنفسهم ولغيرهم، ويؤمنون بأن رحمة الله "وسعت كل شيء"، وأنه شرح صدورهم، وعصمهم من آفة تديّنٍ تجعل صاحبها فظًا غليظ القلب، حتى مع أبويه، وبالتدريج تنضب إنسانيته.

قبل الإعلان عن فيلم الملحد، وبالطبع قبل منع عرضه في أغسطس/آب 2024، أقسم صديقي الطبيب أن إبراهيم عيسى "شيعيٌّ كافر". لم يبالِ بنفي بعض الحاضرين تهمة الكفر عن مسلم، فبعضهم وافقه بالابتسام في صمت تأييدًا ونصرة للدين. فتحمس صديقي الطبيب وقال إن الشيعة كفار، لأنهم يقولون "عليٌّ وليّ الله".

ألا يكفي هذا لكفرهم؟ أما دليله على كفر إبراهيم عيسى فكان تشكيكه في بعض الأحاديث، ومحاولته زلزلة عقيدة المسلمين، وهذا يوجب "حدّ القتل، لو طبق الحاكم المسلم الشرع". سخر صديقي من تأكيدي إسلام الشيعة، واتساع الجنة للمسيحيين الذي يسميهم النصارى. وردد خطابًا مستعارًا من فتاوى ابن تيمية في حروب التتار.

لاستحلال القتل عواقب دامية، ظلالُ كلمةٍ تقتل. قال حسن البنا "ربنا يريحنا من الخازندار وأمثاله"، المرشد قصد القاضي أحمد الخازندار، ومسؤول التنظيم الخاص عبد الرحمن السندي ترجم الرجاء إلى فتوى، واعتبر الأمنية ضوءًا أخضرَ، تصريحًا بالقتل، فنفّذه في 22 مارس/آذار 1948.

أما الظروف المحيطة باغتيال فرج فودة عام 1992، فكانت أكثر تعقيدًا. أدان الضحيةَ دعاةٌ "معتدلون" برأوا القتلة. بددت القضية سراب الحدود الفاصلة بين الإسلامجية، أحدهم ألحّ في تكفير القتيل، وأجاز لآحاد الناس قتله. وآخر قال للمحكمة إن القصاص من المرتد مسؤولية القضاء، وإذا نفذه آحاد الناس "يكون مفتئتًا على السلطة". ودفاع القتلة اتهم فودة بالردة، "وقتله يُعد فعلًا مباحًا".

مضخات الفتاوى

ما ذكره صديقي الطبيب خطير لو امتلك قوة فِعْلِه. هو أيضًا ضحية الشحن المتواصل من مضخات فتاوى لا تتوقف. سمعت الدكتور أحمد كُريِّمة أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، في ندوة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، 2 فبراير/شباط 2016، يبدي انزعاجه من اصطلاح "علمانية الدولة"، وتباهى بأن الإسلام "يتسامح" مع "أهل الكتاب".

طلبتُ الكلمة، واعترضت على اصطلاح "التسامح الإسلامي"؛ فهو سلطوي استعلائي، يعني التفضل على مواطنين يُفترض تمتعهم بحقوق المواطنة نفسها. ومن يتسامح مع مجموعة من الناس يملك خيارات أخرى بحقهم؛ فلا نسمع من مسيحيي مصر مثلًا أنهم يمارسون مع مسلميها نوعًا من "التسامح المسيحي".

انفعل الشيخ، وقفز إلى دغدغة مشاعر عموم الناس في ندوة جماهيرية، وقال إنه يرفض "فوضى الكفر" تحت مسمى حرية الفكر، وإنَّ "الشريعة تتضمن جريمة الردة. من ينكر معلومًا من الدين بالضرورة، ويطعن في أصل من أمور الدين يجلس مع العلماء ثلاثة أيام ليستتاب".

كلام كُريِّمة عن حد الردة، المبتدَع لأسباب سياسية في ظرف تاريخي لا يعنينا الآن، يؤيد فتاوى يعيدها يوتيوب للحبيب علي الجفري أو علي الجفري الحبيب وللشيخ الشعراوي، ليس عن المرتد، بل عن الصوم بلا صلاة، فأجاب الشعراوي بأن تارك الصلاة يسأل "إن كنت منكرًا للحكم تقتل حدًا (...) تبقى كافر (..) وإن كان كسلًا يستتاب ثلاثة أيام ثم يُقتَل".

يوسوس لي الشيطان أحيانًا بأن "أكل عيش" رجال الدين هو كهربة العصب العاري للناس، بزراعة الخوف على الدين في أنفسهم. ماذا يتقن الشيوخ من الأعمال والأفكار لو صار المسلمون أتقياء أسوياء؟ لو اختفت النساء خلف النقاب؟ لا إضافات نوعية بعد الأعلام: محمد عبده، وعبد المتعال الصعيدي، ومحمد عبد الله دراز، وأحمد صبحي منصور، ومجتهدين قلائل ينتجون أفكارًا، ويعيدون النظر في "ما وجدنا عليه آباءنا". السطحيون ينشغلون بجسد المرأة، بتحريم يتضمن وصفًا تفصيليًا يؤكد لذة الاشتهاء المكبوت. 

يتكرر بإلحاح إعلان فيسبوك مدفوع، يطلب توظيف "مختصين في الفلسفة والمنطق والرد على الملحدين". لماذا يضيق المتدينون بالملحدين؟ الملحدون، بهذا التعميم غير المنطقي، هم غير المتدينين. لا فرق بين ليبرالي وشيوعي وشيعي. صديقي الطبيب يخشى على العقيدة من إبراهيم عيسي "الشيعي الكافر". قلت إن لك خمسين سنة تصلي وتصوم، فهل يهزّ إيمانَك برنامج تلفزيوني أو مقال؟ عليك مراجعة نفسك.

واستشهدتُ بأن الملايين من المسلمين في أوروبا والدول المتقدمة، الناجين من نار الاستبداديَن السياسي والاجتماعي في العالم الإسلامي، ينعمون بكرم العلمانية، آخر ما ارتضاه العقل. والقانون يحمي الناس في اعتناق الدين أو الخروج منه. فهل ارتد مسلم تأثرًا بعلمانيين وملحدين ومثليين؟

اللوثة السلفية السنية تقابلها لوثة شيعية، ربما لا تساويها في المقدار، لكنها مضادة في الاتجاه. يلعنون الحداثة والغرب "الصليبي الكافر"، ولا يتورعون عن استخدام ثمار هذا العقل وفوائض حداثة أتاحت لجيوش من المغفلين والحمقى، من الجانبين، إلهاء الناس عن جرائم الاستبداد، وإشغالهم بمصائر غيرهم في الآخرة.

في "المنتدى الرسمي للعتبة العباسية المقدسة" أسئلة من نوع "هل دخول النار حتمي لغير المسلم والشيعي؟"، و"هل من لم يؤمن بالولاية نهايته الحتمية جهنم؟". بدلًا من رفض السؤال، واتهام السائل بالتنطع، فإن هناك إجابة تؤكد للشيعي امتيازه يوم القيامة عن غير المسلمين وغير الشيعة. وهكذا يصبر على حياة كالجحيم، طمعًا في نعيمٍ أبديٍّ مقيم.

جهنم على طرف الألسنة

لا يمثِّل الدين أو المتدينون للعلماني مشكلة، لا دين للدولة العلمانية إلا القانون، وأنظمة الحكم الحرة تقف على مسافة واحدة من الأديان ومعتنقيها، تحميهم وتحترم حقوقهم في إقامة الشعائر، وتصون حق الملحدين في الإلحاد، وفي السياحة بين الأديان. لكن المتدين مريض بالآخر، لديه مشكلات مع المختلف في الدين أو المذهب، بل مع من يرى منسوب تدينه منخفضًا؛ فيوصيه بدروس تقوية.

لا يؤمن المتدين بآية "لكم دينكم ولي دين". واحتكار النعيم اعتقاد لم يتردد البابا شنودة في البوح به، في فتوى صوتية منسوبة إليه. سُئِل عن جواز الترحم على المسيحي المرتد، فأجاب "قوانين الكنيسة ما تسمحش بالترحيم.. ولا تسمح بالصلاة عليه".

هذا في الآخرة، أما في الدنيا فتجاوزت المسيحية الرسمية الغربية مفاهيم الرقابة والمصادرة والمحاكمة والتفريق بين الزوجين. أوروبا كفّرت عن خطايا الإرهاب المسيحي بصلابة وثقة، ولا تجرّم صحيفة شارل إيبدو لسخريتها من المسيح، وتحرر الإبداع؛ فكتب ديفيد هربرت لورانس رواية الرجل الذي مات، متخيلًا بعث المسيح بعد دفنه، لإشباع الجانب الحسي المهمل في حياته. ورسم الفنان الأمريكي أندريه سيرانو، عام 1987، لوحة سمَّاها "لنتبول على المسيح/Piss Christ"، بوضع صورة "المسيح على الصليب في البول". هل اهتزت عقيدة مسيحي، أو استنفرت الكنائس المصلين لذبح الرسام؟ لعلهم تدبروا الآية القرآنية الداعية إلى الإعراض عن "الذين يخوضون في آياتنا". إعراض لا قتل.

لم أسمع بمسيحي تونسي يندد برواية محمود المسعدي "حدّث أبو هريرة قال..."، لما تضمنته عن الرهبنة والرهبان الذين قال عنهم أبو هريرة "نظرت إليهم على اختلاف مذاهبهم، فرأيتهم يخدعون أنفسهم أو لا يعلمون ما يفعلون، أو يكونون أدخل من الملائكة في الروح يطلبون محل الآلهة ويقولون: لقد تألّه المسيح من قبلنا، وهم على ذلك لا يتخلصون من الحاجة تنزلهم إلى الغائط، ولا من الطعام يحرك فكوكهم كالإبل تجترّ، ولا من الشهوة يركب بعضهم بعضا، فقلت: سحقًا لآلهة كالقردة أو كالحمير. وقلت: سحقًا لرهبنة لا تكون إلا تألّهًا مستحيلًا أو غرورًا مؤلمًا".

صديقي الطبيب ليس وحده. ضحايا الاستبداد جموعٌ فقدت الأمل في عدالة الأرض؛ فراهنت على الجنة، وتحرِّمها على المتنعمين بالدنيا من غير المسلمين. جهنم على طرف الألسنة، يقذفون حممها إلى غيرهم، ولا يتأملون قوله تعالى "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة".

صديقي، الذي ربما لم يقرأ كتابًا، ليس وحده. لا يخلو تدوير المأثورات السلفية على السوشيال ميديا من دلالات على نجاح التجفيف والتجريف، وإخلاء الأرواح من الخيال، ليسكنها خطاب سلفي عشوائي، وخطاب رئاسي سلفي. لو أجريت انتخابات نزيهة اليوم، عام 2024، لاكتسحها اليمين الديني، الإخوان أو السلفيون لا يهم، مقدمة لانقلاب نابليوني.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.