أتخيل المسؤول الصغير أو الكبير، في مؤسسة دينية أو إدارة مدنية، يشعر بالفخر، بل يَمنُّ على الله في علاه، أنه تمكن من تعطيل الترخيص بالعرض العام لفيلم الملحد في اللحظة الأخيرة، قبل عرضه الذي كان مقررًا في 14 أغسطس/آب الجاري، لمن فوق 16 سنة.
التصريح بالعرض خطوة أخيرة، قبلها تمرّ الأفلام بخطوات بعضها مضحك، فيدفع المؤلف رسومًا ماليةً نظير مراقبة السيناريو، والتأكد من خلوّه من المحظورات التقليدية (الدين، السياسة، الجنس)، وترتيبها يختلف من مرحلة إلى أخرى حسب أوضاع مراكز القوى الحاكمة أو قوى الشارع. ومنذ 2013، بصعود المرحلة الثانية للقوى المضادة لثورة 25 يناير 2011، أضيفت محظورات تخصّ الشرطة والقضاء والوزراء وصفوة الفاسدين.
الشريط النهائي تشاهده الرقابة للتأكد من تطابق الفيلم والسيناريو المصرح بتصويره، وعدم استبدال جُمل حوارية أخرى بما وافقت عليه. وفيلم الملحد اجتاز هذه الاختبارات، ونال ترخيصًا بالعرض العام من الإدارة العامة للرقابة على الأفلام والفيديو، التابعة للإدارة المركزية للرقابة على المصنفات السمعية والسمعية البصرية، التابعة للمجلس الأعلى للثقافة.
لكن هذه الإدارة، التابعة لإدارة تابعة لمجلس أعلى رئيسه وزير الثقافة، تبدو مجرد واجهة لجهة خفية تحكم الأمور، وتُحكم قبضتها، وتأمر رئيس الرقابة بما يفعل، وبما يقول، وفي بعض الأحيان تنهاه حتى القول، فلا يجرؤ على التعليق، لأنهم لم يرسلوا إليه بيانًا يوضح سبب المنع. وللرقابة مساخر تنتظر مخرجًا بموهبة رأفت الميهي.
جهاد سيذهب سدى
يظل فيلم آخر أيام المدينة للمخرج تامر السعيد عنوان الرقابة الخفية. أعلن مهرجان القاهرة السينمائي "الدولي" عام 2016 مشاركة الفيلم في مسابقته الرسمية. ثم استبعده منها؛ بحجة مشاركته في مهرجانات أجنبية. لكنه استبعده أيضًا من أي قسم خارج المسابقة. والتزمت ماجدة واصف رئيسة المهرجان الصمت التام.
ثم أُعلنت مشاركة الفيلم في مهرجان شرم الشيخ السينمائي، في مارس/آذار 2017. حلٌّ ذكي أن يعرض في مصر، لحفنة من النقاد والصحفيين في منتجع سياحي. آنذاك أخبرني مسؤول أن الفيلم سيظل على الأعراف، لن يعرضه أي مهرجان، ولن يُمنع بقرار، بسبب هتاف "يسقط حكم العسكر"، في خلفية مشهد، في فيلم تدور أحداثه عام 2009.
تكتمل الدراما بأن مهرجان القاهرة استبدل بفيلم آخر أيام المدينة عام 2016 فيلم البر التاني، الضعيف المفروض بالأمر المباشر على المسابقة الدولية. ودخل منتجه وبطله المقاول محمد علي دار الأوبرا وسط حرس شداد أساؤوا التعامل مع الحضور. وفي خريف 2019 سبّب المقاول صداعًا سياسيًا نوعيًا.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 قالت ماجدة واصف (الرئيسة السابقة) إن إحدى الجهات منعت عرض آخر أيام المدينة، ورفضت هذه الجهة "الإعلان عن سبب الرفض، حتى إننا طلبنا من جهاز الرقابة على المصنفات الفنية إعلان رفضه للفيلم، لكنهم رفضوا أيضًا ووضعونا في 'وش المدفع' واضطررنا أن نقول إننا رفضنا الفيلم بسبب مشاركته في 35 مهرجانًا".
أتخيل الذين منعوا عرض فيلم الملحد، وقد انتشوا بالنصر، يمنّون على الله، وتنتفخ صدورهم بدفتر الحسنات. وأشفق عليهم؛ لأنهم حُرِموا لذة النظر "في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله"، ولم يتأملوا الشمس وحدها، تدور حولها تسعة كواكب، والمجموعة الشمسية تقع عند طرف مجرّة درب التبانة، والشمس على بعد نحو ثلاثين ألف سنة ضوئية من مركز المجرة التي تضم مليارات النجوم، والسُدم الفاصلة بيننا وبين المجرات الخارجية.
في هذا الكون المكتشف، في حدود علم الإنسان، أكثر من مائة مليار مجرة، في كل منها مليارات من النجوم التي نراها ليلًا، في سماء ليست سماء إلا لأنها تبدو سماء.
رأى الغزالي إحباط عمله وجهاده ولم يعش عبد الحليم محمود ليرى كيف صار فيلم الرسالة مفخرة
الشموس تِبْنٌ، كثيرة وتافهة، والأرض أكثر تفاهة، ولو أنها "تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء"، ولو عرفوا شيئًا أحقر من جناح البعوضة لذكره الحديث. فهل يضرّ الله ارتدادُ مسلم، أو إلحاده؟ "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا". ما الأرض؟ ما المجموعة الشمسية؟ ذرة في كون لن يحيط به بشر لم يؤتوا "من العلم إلا قليلًا". وأتخيل الخائفين على الله، كنت مثلهم وأنا طالب أجهل أن "هذا الدين متين"، فأستقبل العام الجديد في المدينة الجامعية بصلاة جماعية. أمدّنا خيالنا الفقير بأن نصارى ومسلمين عصاة تطربهم "المعازف"، يسكرون الآن ويعربدون، فيعكّرون صفو مُلك الله.
المسؤول الصغير أو الكبير، في مؤسسة دينية أو مدنية، لا يعلم أن الأرض قد يدمرها نيزك أحمق يخترق الغلاف الجوي، وأن كائنًا عملاقًا يستطيع إطفاء الشمس أو ابتلاعها، وفي هذه الحالات تقوم القيامة، ثم تبدأ حياة جديدة، وقد قامت قيامات وبدأت حيوات، وما نحن إلا ذرة غير مرئية في كون لا نهائي. ولو كَفر أهل الأرض، واجتمعوا على أفجر قلب، ما نقص من مُلك الله شيء. ولا يتعلم الخائفون على ملكوت الله من التجارب والخيبات. رواية أولاد حارتنا أزعجت الشيخ محمد الغزالي، فجمع أعضاء لجنة الدفاع عن الإسلام، وآثر "أن يكتب بيده" محضر الجلسة، "وكان الحكم بإلحاد نجيب محفوظ وتكفيره".
استقال سكرتير اللجنة سليمان فياض، وسجل الواقعة في كتاب النميمة: نبلاء وأوباش، فمنذ تقرير الغزالي، "وقصة التكفير والاتهام بالإلحاد.. لا تتوقف". ومنعت الرواية من الصدور في مصر. ويشاء الله ألَّا يموت الغزالي إلا وهو يتحسّر على جهاد ذهب سدى، بنشر دار الشروق للرواية عام 2006، بمقدمة لأحمد كمال أبو المجد، وكلمة الغلاف الخلفي لمحمد سليم العوا. ولا يخلو من الرواية الآن مكان في الشارع يبيع الكتب المقرصنة. وكان الغزالي يعلم أن الرواية تصل من دار الآداب البيروتية، وتباع سرًّا وعلنًا في مصر، ولا تؤدي قراءتها إلى ارتداد مسلم. فهل ينتظر متشكك في إلحاده مشاهدة فيلم الملحد، لتتأكد له صحة اختياره؟
ما يرفضه زمن يسمح به آخر
المسؤول الصغير أو الكبير، في مؤسسة دينية أو إدارة مدنية، يعاني قصورًا في الخيال، وعطبًا في الذاكرة، ولا يعلّمه التاريخ أن معارك الرقابة تنصف المبدعين، ويخسرها الموظفون والمرتعشون والخائفون على الله.
في 15 يونيو/حزيران 1976 نشرت مجلة روزاليوسف أن جامعة الأزهر، بعد أن قررت عدم إرسال بعثات إلى الدول الاشتراكية، "واجهتها مشكلة مبعوثيها العائدين بشهادات الدكتوراه من هذه الدول. لم تجد مفرًّا من تعيينهم بعد أن هددوا برفع الأمر للقضاء، وقبل التعيين استقبل فضيلة الشيخ عبد الحليم محمود اثنين منهم، واستنطقهما عبارات التوبة".
الإمام الأكبر شيخ الأزهر استتاب باحثين، وأنهى مشكلة المبعوثين، لكي يقود حربًا على فيلم الرسالة لمصطفى العقاد. أصدر بيانًا يشدد على أنه "لا يجوز من الناحية الإسلامية السماح بإنتاج" الفيلم، "كما لا يجوز السماح بعرضه. وندعو حكام المسلمين وأولياء أمورهم، كما ندعو الأمة الإسلامية كلها، إلى إيقاف العمل في هذا الفيلم".
رأى الغزالي إحباط عمله وجهاده، ولم يعش عبد الحليم محمود ليرى كيف صار الفيلم مفخرة، ولا تجد الفضائيات العربية أفضل منه للعرض في المناسبات الدينية. لم يتواضع بيان الإمام الأكبر فيقول إنه اجتهد، وهذا مبلغ علمه، وإنما قال إن عدم الجواز يستند إلى "الناحية الإسلامية"، وتبين أن الإسلام لا يمنع، بدليل إنتاج أعمال فنية تصور النبي يوسف، كما ظهر كبار الصحابة في مسلسل عمر لحاتم علي.
معارك الرقابة تخسرها الأنظمة، ويربحها المبدعون، ويظل الإبداع أطول عمرًا من الرقباء. بعد عرض فيلم المذنبون عام 1976، احتج أوصياء مصريون في الخليج بأنه "يشوّه سمعة مصر"، وعُوقب الرقباء الذين سمحوا بعرضه.
مقصّ الرقيب أرحم أحيانًا من رقابة الرياء الاجتماعي، وقد بقيت أفلام مهمة منها المذنبون والبريء دليلًا على أن ما يرفضه زمن يسمح به آخر. لكن تعنت السلطة يمنح قيمةً واستحقاقًا لأعمال ضعيفة، عقوبتها أن تعرض وتفنى.
لم أشاهد فيلم خالد يوسف كارما، وتابعت مسخرة السحب المفاجئ لترخيص عرضه عام 2018، لأن تكتلًا برلمانيًا طالب بمنعه. وقد لا يكون فيلم الملحد إلا خطبة لمؤلفه إبراهيم عيسى، فما الضرر؟