تحتمل كلمتا "إرهاب الجماهير" الْتباسًا أُفضّل البدء بإزالته؛ لأن روح القارئ المستعجل في مناخيره، وقد لا يطوّل باله حتى ينتهي من القراءة.
المعنى الأقرب، والمريح للقارئ، هو تعرّض الجماهير لإرهاب صاحب سلطة. هذا معنى مباشر يعززه الهوان وبؤس الأحوال. وحالة الصمت تغري بإيقاع الأذى النفسي والبدني بالناس. ويتعدد القادرون على الأذى، من صحفي أو مذيع جاهل، إلى مسؤول عن أقوات الناس وأمنهم.
أما المعنى المقصود فهو قيام الجماهير بإرهاب أفراد، أو صناع للآداب والفنون. قد يحاول المكبوت تفريغ طاقة الغضب بإعادة إنتاج القهر، ويمارس دكتاتورية مجانية تزيده اطمئنانًا وثقة بنفسه، ويريد إبداعًا على مقاس عنوان البرامج الإذاعي القديم "ما يطلبه المستمعون".
حياتي المهنية طابعها ليليّ، فيها لقاء صباحي وحيد مع صلاح أبو سيف، في فندق كوزموبوليتان. أحاطتني رائحة الزمن، وظللت أرشّح الفندق لأصدقائي الزائرين، وأحببت القهوة أمامه، قبل مصادرة وسط البلد. حدثني عن رجل شاهد فيلم لا أنام، في وجود فاتن حمامة، وشتمها "يا بنت الكلب!"؛ رافضًا دور الشريرة، الاستثنائي، لممثلة عوّدت الجمهور على نغمة ينتظرها.
الجمهور دكتاتور، تغيب عنه ثقافة التلقّي، فلا يفصل بين الدور والممثل، ولا بين شخصيات النص الإبداعي وكاتبه. وليس على الكاتب إرضاء القراء. تملُّق الآخرين يُفقِد الكاتب استقلاله، فيكتب وهو يفكر في ردود الفعل، ويتفادى غضبًا متوقعًا. هنا يبدأ التنازل، خوفًا من انصراف القراء. فبماذا يضحّي؟
الاختيار بين الانحياز إلى الضمير والاستسلام للتصفيق. التضحية بالحقيقة خيانة. ليس مطلوبًا من الكاتب تدليل القارئ أو تضليله. لو اكتفى المبدعون والفلاسفة ورواد الإصلاح والثوار والعلماء بإرضاء الجماهير، المدعومة بأغلبية سلفية من الكتاب والعلماء، لتأخرت مسيرة التطور الأخلاقي والعلمي، ورأينا تجارة العبيد في القرن العشرين، فضلًا عن تأخر الكشوف العلمية الباهرة.
لو تخاذل المستكشفون، وتنازلوا عن حقائق العلم، خضوعًا لما اطمأنت إليه أغلبية العلماء الرافضين لكروية الأرض، ودورانها حول الشمس.
التقليد مفيد لمن ينشدون اليقين. والتجديد يحفز على السؤال والتجاوز. والمسار الصاعد للعلم والأخلاق يزخر بأسماء رواد الابتداع، ولا يحتفظ برموز الاتِّباع إلا كمعاندين لحركة التاريخ، معادين للمجددين.
ظهر الصحابة ولم يتأثر الوجدان
حسم الأمور، مهما تكن التكلفة، أفضل من المراوغة والالتفاف ونفاق الجمهور. في التراجع إذعان، إنتاج أعمال ملساء بلا نتوءات، تتشابه وتتراكم وتسدّ الطرق إلى المستقبل، وقد تؤدي إلى طفح يصعب تفادي آثاره.
رفض صناع فيلم الأب الروحي تهديد رجال المافيا؛ فأبدعوا عملًا عابرًا للأجيال. ومن حسن حظ صناع فيلم جمال أمريكي أنهم لم يتوقعوا فوائض النفاق الاجتماعي في مصر. وفي عام 1994 قدم صناع مسلسل العائلة اعتذارًا دراميًا للثعبان الأقرع، لضمان استمرار إذاعة المسلسل الرمضاني الذي أغضب الأزهر. ففي إحدى الحلقات سمع المواطن كامل سويلم/محمود مرسي شيخًا يتحدث عن عذاب القبر، فاعترض. ودعاه إلى انتهاج الترغيب لا الترهيب.
إنكار عذاب القبر لا يمسّ العقيدة. لكنَّ الأزهر ثار، وهدد بوقف عرض المسلسل، وأمام المدّ المتشدد جرى الترقيع، بإضافة مشهد "توفيقي"؛ لتمرير المسلسل.
أُجبِر وحيد حامد على كتابة مشهد يؤديه حمدي غيث، الذي اُستدعي كضيف شرف، ليقول إن في القبر عذابًا. وتم تضمين المشهد في حلقة تالية، للإجابة عن سؤال: هل عذاب القبر حقيقة؟ والإجابة اليقينية: نعم هو ثابت بالقرآن والسنة والإجماع.
وللأزهر سوابق أشهرها البيان الرافض لفيلم الرسالة لمصطفى العقاد "لا يجوز من الناحية الإسلامية السماح بإنتاج الفيلم، كما لا يجوز السماح بعرضه. وندعو حكام المسلمين وأولياء أمورهم، كما ندعو الأمة الإسلامية كلها، إلى إيقاف العمل في هذا الفيلم".
لنتخيل نتائج انقياد صناع فيلم الرسالة لبيان شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، باسمه وباسم الأزهر وباسم مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة. كنا سنهدر عملًا لا تجد الفضائيات العربية أفضل منه للعرض في كثير من المناسبات الإسلامية. لو نفذت "الأمة الإسلامية كلها" فتوى الأزهر، لخسرنا أعمالًا أخرى، منها المسلسل الإيراني يوسف الصديق، والمسلسل السوري الحسن والحسين، والمسلسل السعودي القطري عمر الذي ظهر فيه كل الصحابة بداية بأبي بكر.
لم يتأثر وجدان المسلمين كما خشي شيخ الأزهر، الذي شدد على أنه لا يجوز السماح بإنتاج أو عرض أي فيلم "يتناول بالتمثيل، على أي وضع كان، شخصية الرسول أو الصحابة".
الخائف من رفاقه
الإرهاب، الذي يحدد للمبدعين ما يجب وما لا يجب، لا يقتصر على الأزهر واليمين الديني. اليسار السلفي لا يقل تشددًا يُرهب أبناءه أنفسهم. وكان على يوسف إدريس أن ينتظر ثلاثين سنة حتى يطمئن إلى نشر رواية البيضاء في مصر.
تلك رواية تجسد ذروة عنفوانه. وبسبب تأخر نشرها، قلما يذكرها مؤرخو الأدب. تجاهلها الدكتور سيد حامد النساج في كتابه بانوراما الرواية العربية الحديثة. كتب عن الحرام للكاتب "الجريء يوسف إدريس"، وعن العيب باعتبارها "روايته الثانية". وفي قاموس الأدب العربي الحديث (دار الشروق 2007، طبعة ثانية عن الهيئة العامة للكتاب 2015) كتب الدكتور صبري حافظ بحفاوة عن عالم إدريس.
يهمني هنا ما كتبه عن الروايات. قال إن "قصة حب" روايته الأولى، "أما الرواية التالية 'الحرام" فتعد أفضل أعمال يوسف إدريس الروائية". لم يذكر "البيضاء" التي أراها أهم روايات يوسف إدريس. وقد حرص على إبعاد توقيت كتابة الرواية عن اعتقالات الشيوعيين بداية من يناير/كانون الثاني 1959.
سجل في السطر الأخير أنه انتهى منها في صيف 1955، وفي المقدمة القصيرة قال "كتبتها في صيف عام 1955. ونشرت بعضها تباعًا في جريدة الجمهورية عام 1960. وأخيرا قررت نشرها هذا العام"، 1990. لكن فاروق عبد القادر كان له بالمرصاد. في كتابه "من أوراق الرفض والقبول" فصلٌ عنوانه "البيضاء.. أوراق يوسف إدريس القديمة وأكاذيبه المتجددة".
لو جرؤ يوسف إدريس على نشر "البيضاء" في كتاب، ومطارق النظام تقصف رفاقه في المعتقلات، لخسر كثيرًا
تساءل عبد القادر عن سر تغيير تاريخ نشر "البيضاء"؛ "لماذا يتعمد أن يضلل قارئيه حول هذا التاريخ؟... ولماذا يماحك حول تاريخ كتابتها؟"، وقد بدأ نشرها يوم السبت 3 أكتوبر/تشرين الأول 1959، مشيرًا إلى شروعه في كتابتها "في الليلة الفاصلة بين عامي 55 و56". وتواصل النشر يوميًا، تقريبًا، حتى الثلاثاء 22 ديسمبر/كانون الأول 1959.
ويخلص عبد القادر إلى أن يحيى بطل "البيضاء" يختلف تمامًا عن أبطال إدريس آنذاك، وأن الرواية لم تكتب في صيف 1955، "وهذا مستحيل، لأن يوسف قضى ذلك الصيف كله معتقلًا". وأراد بهذه الرواية "تبرئة نفسه، بتقديمه بطلًا يختلف مع جماعته... طلقة يطلقها يوسف في معركة يخوضها النظام ضد رفاقه".
هي رواية الصراع بين الأجيال، والسخرية من انفصال القائد عن القاعدة، والرفض لاستبداد رجل أعمى شبه متسول بقيادة تنظيم شيوعي سري. ماذا لو امتلك يوسف إدريس شجاعة الإعلان عن التاريخ الحقيقي لكتابة الرواية؟ لو جرؤ على نشرها في كتاب، ومطارق النظام تقصف رفاقه في المعتقلات، لخسر كثيرًا. كان ذلك سؤالًا وجّهته إليه عام 1991، ضمن حوار طويل للنشر في صحيفة الحياة اللندنية، ثم نشر في مجلة حريتي في 5 مايو/أيار 1991.
سألته: لماذا أعدت نشر "البيضاء" بعد 30 سنة، بعد أن كان توقيت نشرها في سنة 1959، توقيتًا سيئًا، على حد تعبير الناقدة فريدة النقاش، لدى الشيوعيين المصريين؟
أجاب: أعتقد أن موضوع رواية "البيضاء" كان أول اكتشاف مصري للمرحلة الستالينية في مصر. وقد بدأت نشرها في الجمهورية في سنة 1958، وهي الفترة التي استمتع بها الشيوعيون المصريون بنوع من عدم الاعتداء من قبل السلطات، ورأيت أنها فرصة مناسبة لأناقشهم فيما يفكرون وما يفعلون، ولم يكن ذلك النقاش متاحًا من قبل؛ لأنهم كانوا محلًا للضرب والتنكيل. ولكن حدث للأسف أن تم اعتقال الشيوعيين في بداية عام 1959، فأوقفت النشر فورًا؛ فلا أرضى أن أنتقد إنسانا في حالة السجن والتنكيل.
هامش: كلامه يناقض حقيقة النشر المسلسل عام 1959، وما كتبه في المقدمة؛ "ونشرت بعضها تباعًا في جريدة 'الجمهورية' عام 1960".
وأضاف يوسف إدريس: وبعد الخروتشوفية والجورباتشوفية أصبح نقدي للشيوعيين نقدًا مهذبًا جدًا، وأحسب أن من يقرأ كتاب الأستاذ مصطفى طيبة عن تاريخي في الحركة الشيوعية، فسوف يرى أنني كنت على حق تمامًا في كل ما قلت، بل يمكن القول إنني كنت طليعيًا جدًا؛ حيث رأيت كل هذا الذي رأيته وكتبته في مرحلة مبكرة جدا أثناء ازدهار الستالينية، ولم أنتظر انهيارها لأقول رأيي.
وللأسف الشديد فإن الشيوعيين المصريين، والذين أصبح معظمهم شيوعيين سابقين، لم يفهموا، مثلهم مثل فريدة النقاش، ما كتبت، وأخذوه على أنه هجوم وخيانة بحساسية المضطهدين، ولو قرأوا البيضاء الآن لوجدوا أنهم أخطأوا في حقي خطأ كبيرا.
أعجب لكاتب في شجاعة يوسف إدريس وشهرته أن يراوغ، ويخضع لإرهاب رفاقه. ربما أعيد نشر حواره معي، أظنه كان آخر حوار.