Sb- فليكر برخصة المشاع الإبداعي
تماثيل الديكتاتور من معرض على نهر كواي- تايلاند

الديكتاتوريات الصغرى والكبرى

منشور الأحد 23 أكتوبر 2022

لو امتلك تشارلز داروين، مؤلف كتاب أصل الأنواع، فائضًا من الجهد والترف الذهني لألف كتابا عن أصل الديكتاتوريات.

جذور الديكتاتوريات واحدة، وكذلك نهاياتها وثمارها المُـرّة والدامية. وبين الجذور والثمار تتعدد المسارات، وتتنافر الوسائل، وتختلف الآثار الزائلة والباقية، وإن أمكن تمييز الديكتاتوريات الكبرى عن الصغرى.

وبينهما، أو على التخوم منهما، ديكتاتوريات عربية شاردة وشريدة، عصيّة على التصنيف، طبعات ناقصة، غير منقّحة. والبعض من المنظرين يُعرض عن دراسة تلك الطبعات المقلّدة؛ فيتجاهلها ويطويها طيّ السجل، استعلاء على هذا الديكتاتور العربي أو ذاك، ونفورًا من سريالية التفاصيل، على العكس من ديكتاتوريات استلهمت فلسفات، وربما أشاد بها فلاسفة، انبهارًا عابرًا أو تورطًا طويل الأمد.

غبار المعارك الظافرة لنابليون أعمى الفيلسوف الألماني هيجل، بهرته القوة حتى عن غزو الإمبراطور الشاب لألمانيا، فقال "رأيت الإمبراطور، رأيت روح العالم، يمتطي جواده، وتمتد يده لتطور العالم". هي القوة التي استمدها أدولف هتلر، متمثلًا طموحات فريدريك نيتشه. ولم ينظر مارتن هايدجر إلى الأعمار القصيرة للديكتاتوريات؛ فتورط في تأييد النازي.

من رموز الديكتاتوريات الكبرى نابليون وهتلر وستالين، ويتبعهم كمال أتاتورك رمزًا لديكتاتورية متوسطة. وتنشأ الديكتاتوريات عادة بعد هزائم عسكرية تهزّ الروح الوطنية، أو ثورات لم تنجز مهامها. ومن دون هؤلاء الأربعة، كانت الأمور ستنتهي إلى ما آلت إليه، مع فروق التوقيت والأداء، حسب طبائع الشخصيات التي تحمل ألوية تنتظرها الشعوب.

انتهت سنوات الأحلام المصاحبة لاندلاع الثورة، ثم سنوات الإرهاب. وفي إحدى ذرى الضيق الشعبي بحالة الثورة، صعد الضابط نابليون عام 1795 وعمره 26 سنة، واستطاع قمع تمرد أنصار الملكية. بروزه أزعج الطامحين إلى الحكم، واستراحوا لقيادته الحملة على مصر عام 1798. وفوجئوا بعودته سرًا بعد ثلاث سنوات، والمسرح مهيأ للقادم من الخلف، مدفوعًا بالطموح إلى تأديب أعداء الثورة.

جنرال لم يسهم في الثورة أحدث انقلابًا شاملًا، وتوّج نفسه إمبراطورًا لنظام ملكي وراثي جديد، وأضفى البرلمان شرعية على انقلابه على أهداف الثورة، وسلطاته تجاوزت سلطات لويس السادس عشر، ديكتاتورية كبرى لإمبراطور لا تكفيه حدود بلاده، فيذهب بعيدًا وينتصر. ويخضع للنهاية التقليدية للتراجيديا.

المأمور المهان ينتظر يومًا يعيد فيه إنتاج الهوان على الأدنى رتبة، فإذا واتته فرصة الصعود إلى الحكم صار الشعب كله محلًا للتنكيل

لا يسلم ديكتاتور من نهاية مذلة

ستالين استثناء يؤكد القاعدة. انتهى نابليون مهزومًا منفيًا، وهتلر منتحرًا، وموسولويني معدومًا وكذلك شاوشيسكو، وفرديناند ماركوس هاربًا وشاه إيران أيضًا.

في كتابه، معنى الكلام، ينقل أنيس منصور عن الشاه، رسالة قال إنه كلفه بنقلها إلى السادات، جاء فيها "إن أحدًا لم يخدم الأمريكان في هذه المنطقة كما فعلت أنا.. ولكن الأمريكان لا عندهم مبدأ، ولا خلق.. فعندما كنت أرقص مع زوجة الرئيس كارتر وهو يرقص مع زوجتي وكان يهمس في أذن زوجتي ويقول لها: إيران جزيرة الأمان، كان مدير المخابرات المركزية في انتظار الخميني في طهران.. أخي أنور لا تثق بهم.. فإن قبلوك اليوم قتلوك غدًا".

نسي السادات النصيحة، وسمح للأمريكان بألّا يمنعوا اغتياله. سيناء مقابل السادات. حتى اللصوص لا يفقدون الأمل في أن يسترها عليهم ربنا، وتتم السرقة على خير، ويعمي عنهم عيون الشرطة. وما من ديكتاتور تسعفه ذاكرته بنهايات أسلافه. كل ديكتاتور ناشئ وفيّ لأسلافه، يتشابه الكبار والصغار، السابقون واللاحقون، في مجابهة عدو، وإذا لم يوجد اختلقوه.

يرون أنفسهم حرّاسا للوطنية، مؤتمنين على أمجاد البلاد، ووصل الحاضر بالماضي. الكبار يُعلون من شأن شعوبهم، يتحدثون بثقة عن استحقاق السيادة، وامتلاك مؤهلاتها. لا يشيعون اليأس العمومي بحجة فقر الموارد. يمنحون الآمال ولو كاذبة، ولا ينشرون النكد وكراهية الحياة. الديكتاتور الراسخ لا يعرف ولولة الأرامل. الراسخ فقط.

بعد الهزيمة في الحرب الأوروبية الأولى، تهيأت المسارح المنهارة لظهور أفراد لديهم كاريزما لقيادة بلادهم الجريحة، وإيهامها بالتفرّد. في ألمانيا تصادف أن كان هتلر، وفي إيطاليا موسوليني، وانتظرت تركيا قائدًا سيمنح نفسه لقب أتاتورك، ويصير الضابط مصطفى كمال أبًا لشعب سقط عليه سقف دولته.

والقادمون من ساحات القتال، من مكاتب مكيفة أو بغبار العمليات الميدانية، لا يؤمنون بالديمقراطية، ليس المصطلح في قاموسهم. هؤلاء آمرون أو مأمورون. المأمور المهان ينتظر يومًا يعيد فيه إنتاج الهوان على الأدنى رتبة، فإذا واتته فرصة الصعود إلى الحكم صار الشعب كله أدنى، محلًا للتنكيل، عقابًا له على ثورة فاشلة، أو حرب أهلية انتصر فيها الجنرال.

تسجل الدكتورة أثير محمد علي في كتابها "فسيفساء لذاكرة حاضرة.. حوار المستعرب الإسباني بدرو مارتينث مونتابث"، مقابلات مع مونتابث المولود عام 1933، وقد توفيت أمه مع بداية الحرب الأهلية (1936 ـ 1939). الصبي لم يدرك تلك الحرب اللعينة، ولكن تحتفظ ذاكرته بشيء من آثارها.

بعد إحكام قبضة الجنرال فرانكو، أراد الالتحاق بكلية العلوم السياسية، فحذره أبوه الذي يدرك طبيعة حكم الجنرال قائلًا "هل أنت غبي!! في إسبانيا الفرانكوية لا يمكن أن تدرس العلوم السياسية". ربما كان ذلك التحول حسنة أسداها فرانكو بغير قصد إلى الدراسات العربية، إذ دخل الفتى كلية الآداب والفلسفة. ينفق الديكتاتور الكبير بسخاء على العلوم الطبيعية. الكبير فقط.

 العاقل يعجب للديكتاتور، الكبير والصغير. كلهم يشبهون اللص الذي يعوّل على الستر الإلهي في كل "عملية"

يطول أمد الديكتاتوريات أو يقصر، فهي إلى زوال. مات ستالين عام 1953، ونجا من مصائر نابليون وهتلر وموسولويني وشاوشيسكو وماركوس والشاه والسادات وصدام والقذافي. شاهدتُ في مهرجان الجونة السينمائي، عام 2019، فيلم جنازة رسمية، للمخرج الأوكراني سيرجي لوزنيتسا. أغرب فيلم وثائقي صامت تقريبًا، ويخلو من الملل، لا شيء يحدث لمدة ساعتين، إلا مشاهد من جنازة الرجل الحديدي.

لقطات أرشيفية اختارها المخرج بذكاء، لرسم جدارية لسيكولوجيا شعب يودع الزعيم بالنحيب والورود ووسائل التخليد بصنع التماثيل ورسم اللوحات. نجح الإرهاب والآلة الدعائية في تأليه رجل حكم ثلاثين سنة. وسوف تتفكك دولته بعد أقل من أربعين سنة، ولن يبكيها المواطنون الذين سلبهم إنسانيتهم.

عرض جثمان ستالين بجوار جثمان لينين، وفي عام 1961 حرموه من ذلك الشرف، وأبعدوه بالدفن في مقبرة خلفية، ضمن حملة خروتشوف لإزالة آثار حقبة ستالين. ولم يكن حظ فرانكو أفضل، ففي عام 2019 قررت الحكومة الإسبانية نقل رفاته من مقبرة الدولة التي دفن فيها عام 1975، إلى مقبرة عائلية بعيدة، وتحويل مجمع مقبرة الدولة إلى نصب تذكاري لنصف مليون مواطن من ضحايا الحرب الأهلية التي أشعلها فرانكو.

في العادة لا يعترف ديكتاتور بأحكام القضاء، الجدار الذي لجأت إليه أسرة فرانكو، لمنع نقل رفاته. لكن المحكمة العليا رفضت الدعوى. فرانكو أحسن حالًا من القذافي مجهول القبر، بعد 42 سنة من حكم كوميدي.

 العاقل يعجب للديكتاتور، الكبير والصغير. كلهم يشبهون اللص الذي يعوّل على الستر الإلهي في كل "عملية". الديكتاتوريات الكبرى تراهن على البقاء الأبدي، وتتسلح بالقوة العسكرية المخيفة، ثم تزول تاركة آثارًا باقية، في الصروح المعمارية والصناعية. ينتهون وتبقى العقول القادرة على النهوض بالبلد، بعد نزع السم الديكتاتوري.

والديكتاتوريات الصغرى ريعية، تخضع فيها الجيوش للعشيرة أو الأبناء، وقد تستبدل كتائب صغيرة بالجيش الوطني، فإذا هلك الديكتاتور تفكك الجيش وتحاربت الكتائب، حتى فناء أنصبتها من الأسلحة. تطول أعمار الديكتاتوريات استنادًا إلى قوتها العسكرية والاقتصادية الصناعية. وتقصر أعمار الديكتاتوريات الصغيرة بالقفزة السريعة من مرحلة "ما أريكم إلا ما أرى"، إلى مرحلة "أنا ربكم الأعلى".

لا أعرف توصيفًا دقيقا للديكتاتوريات العربية. منها البوهيمي الذي يذكّر بما قبل نشوء "الدولة"، وبعضهم يتحدث الفرنسية كأهلها. منها المدني والعسكري والعشائري والطائفي. ليست كبرى إطلاقًا، ولا صغرى تمامًا، ولعل المنصة تسمح بنشر نهاية مختلفة للمقال، خارج المقرر الديكتاتوري العربي وليله الطويل.

جاء في كتابَي "العمدة في محاسن الشعر وآدابه" لابن رشيق القيرواني، و"كتاب الفصوص.. في المُـلح والنوادر والعلوم والآداب" لأبي العلاء الربعي البغدادي، أن رجلًا لقي آخر فقال له "إن الشعراء ثلاثة: شاعر وشويعر وماصّ بظر أمه، فأيهم أنت؟ قال: أما أنا فشويعر، واختصم أنت وامرؤ القيس في الباقي". ولا أعرف تصغير كلمة "ديكتاتور". مأزق ينقلنا إلى الخيار الثالث.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.