ربما لا يدرك من يصرخون بالوعظ والإرشاد ما قاله أساتذة علم الأعصاب، بأن أدمغة الذين يمارسون التأمل الصامت تعمل بطريقة أفضل من أدمغة أولئك الذين لا يمارسونه. ولا يدرك هؤلاء بالقطع أنَّ للصمت لغة ولهجات، فقد وجد خبراء علم اللغويات الاجتماعي أنَّ للصمت وظائف وحركات وأدوارًا حوارية بالغة التعقيد، تجعل من عبارات مثل "إنَّ للصمت لغات مختلفة" أكثر من مجرَّد قولٍ مجازي، بل تعبير عن الحقيقة.
ولا يفهم هؤلاء أنَّ هناك ما لا تستطيع الكلمات الإحاطة به، وهنا يقول الدكتور مصطفى محمود في كتابه الروح والجسد، مستعرضًا محدودية قدرة الكلمات المنطوقة على التعبير عنَّا "نحن نتبادل الكلمات والحروف والعبارات كوسائل للتعبير عن المعاني وكأدوات لكشف كوامن النفوس، ونتصور أنَّ الحروف يمكن أن تقوم بذاتها كبدائل للمشاعر ويمكن أن تدل بصدق على ذواتنا ومكنوناتنا. والحقيقة أنَّ الحروف تحجب ولا تكشف، وتضلل ولا تدلل، وتشوه ولا توضح، وهي أدوات التباس أكثر منها أدوات تحديد.. وللصمت المُفعَم بالشعور حُكم أقوى من حكم الكلمات، وله إشعاع وله قدرته الخاصة على الفعل والتأثير .. فما أبلغ الصمت، وما أقدره على التعبير".
العالم اليوم لا يتوقف عن الكلام، ولا يُقدّر الصمت، ويُصفّق لمن يتحدث أكثر، ويصفه بالانفتاح وسعة الأفق. وفي المقابل أصبحت الانطوائية وتفضيل السكوت مرضًا يتنصَّل منه البعض، وتنهال على صاحبه الأوصاف السوداء تارة والساخرة تارة أخرى، من معقد ومنغلق ومحدود الفكر وكئيب، وفق ما يقول الدكتور خالد النجار في دراسته الصمت.. الفضيلة الغائبة.
الحرب الأهلية الصامتة
هناك من يعتبرون تمرَّد البشر نوعًا من رفض "صمت التاريخ"، بل إننا في بعض المجتمعات يمكننا أن نتحدث مجازًا عن "حرب أهلية صامتة"، وذلك حين يقود العوز وضيق ذات اليد وانزلاق التصورات الدينية من اللباب إلى القشور، وغياب الاطمئنان إلى التغيير السياسي الطوعي، وتراجع مؤسسات التنشئة عن أداء دورها على وجه مقبول، إلى تطاحن اجتماعي صامت.
الصمت الذي يصلح أن يكون وسيلة سيطرة لسلطة مستبدة يمكن في المقابل أن يصبح أداة مقاومة
وبعض هذا التطاحن يُنتِج ضجيجًا يكاد يصم آذاننا. ليس ضجيجًا كالذي يحدث تحت رايات الحرب، بل إنَّ بعضه يحدث همسًا، أو يمضي بلا نطق، لكنه ينخر في عظام المجتمع كالسوس، الذي لا نراه وهو يفري في دأب الأعماق التي لا تمتد إليها أبصارنا، حتى نفاجأ بتهاوي البناء، بينما ظنَّ الناظرون طيلة الوقت أنَّ كلَّ شيءٍ على ما يرام، طالما أنهم يحاصرون البناء من كل اتجاه، ويتابعونه ليل نهار بلا كلل ولا ملل.
ففي مجتمعات الوفرة، يتصرف الناس بأعصاب هادئة وتلفهم السكينة والاطمئنان. أما في مجتمعات الندرة فتشتعل الأعصاب، ويستيقظ القلق من رقاده، أو لا ينام أصلًا. فنجد الصراع والتكالب على كل شيء، ونجد الصراخ في كلِّ مكان، ويَجري كلُّ فرد خلف منافعه، غير عابئ بمصالح الآخرين واحتياجاتهم.
وتحتاج الجينات الاجتماعية في مثل هذ الأحوال إلى هندسة مختلفة، لا سيما في ظلِّ التحولات الجارفة التي يشهدها العالم مع ثورة اتصالات ومعلومات كاسحة، وإجراءات اقتصادية مغايرة، تتطلب نوعًا مختلفًا من التفكير والتدبير السياسي والاقتصادي والأمني، حتى لا تفاجأ هذه المجتمعات بما لم يكن في الحسبان.
في الوقت نفسه بوسعنا الحديث عن الثورة الصامتة، وهي مقاربة روَّجها حزب العدالة والتنمية التركي لوصف ما أحدثه من تغيرات في مجال الاقتصاد والتحول الاجتماعي والسياسي التي شهدتها البلاد بين 2002 و2012.
ورغم أنَّ هذا الاصطلاح ينطوي على نزعة دعائية واضحة، إذ سرعان ما جرى الانقضاض على التحول السياسي نحو الديمقراطية لاحقًا، فإنَّ هناك تغييرًا لا تخطئه عين، يتمثل في تقليص نفوذ الجيش في الحياة السياسية، لحساب التيار الديني المسيس.
ويستعمل ويليام واجنر الاصطلاح نفسه في وصف طريقة الدعوة إلى الدين الإسلامي في الغرب، إذ يقول "قليلون هم المسيحيون في الغرب الذين يعرفون معنى كلمة الدعوة. ففي حين أصبحت كلمات عديدة أخرى مثل الجهاد والله والقرآن ورمضان مُدرجةً في عدد من معاجم اللغة الإنجليزية، فإنَّ الدعوة تبقى مجهولة. ويعود أحد أسباب ذلك إلى الطريقة الصامتة التي يعتمدها المسلمون في محاولة حث الناس على الاهتداء إلى الإسلام بخاصةٍ في الغرب. فالدعوة هي ثورتهم الصامتة".
نزع الشرعية بالصمت
ويمكن أن تمتد الثورة الصامتة إلى ما يمكن أن نطلق عليه النزع الصامت للشرعية، وهو شكل من أشكال تجريد السلطة الحاكمة من كل مقوم أخلاقي وسياسي طبيعي، يضفي عليها الرضا الشعبي المطلوب، الذي يمثل جوهر الشرعية، بعيدًا عن التصورات والتبريرات النظرية والمماحكات والجدل القانوني.
في المقابل، هناك السيطرة الصامتة للسلطة على المجتمع، التي تتم، كما أورد جيوم سيبرتان-بلان في كتابه الفلسفة السياسية في القرنين التاسع عشر والعشرين عن ماكس فيبر، عبر ثلاثة أشكال؛ السيطرة الكاريزماتية وإخضاع المجتمع لما هو مقدس وبطولي منسوب إلى شخص يحمل هيبة، والسيطرة التقليدية عبر الاعتقاد اليومي بقداسة التقاليد وصلاحيتها لكل زمان وقدرتها على منح شرعية لمن يمارسون السلطة باسمها.
وهناك السيطرة الشرعية أو العقلانية، التي تتأسس على الاعتقاد بمشروعية القوانين الموضوعة والمقررة، وبحق الذين يمارسون سلطتهم، بهذه الوسائل، في إصدار التعليمات ومتابعة تنفيذها.
لكن هناك نوع من السيطرة الصامتة يصنعها بطش سلطة متجبرة، تفعل كل شيء قسري وجبري دون ضجيج، وتُخضع الشعب لسلطانها عبر القوانين والتشريعات والإجراءات، أو التصرفات القسرية غير المعلن عنها، بل التي يتم التنكر لها طوال الوقت.
في خاتمة المطاف، فإنَّ الصمت الذي يصلح ليكون وسيلة سيطرة لسلطة مستبدة، يمكن في المقابل أن يصبح أداة مقاومة، وهناك أحداث ومواقف في التاريخ لا يمكن تأويلها بغير فكرة الصمت البليغ. والتاريخ لا يصنعه من يصيحون فقط، لكنَّ الصامتين أيضًا يصنعونه، إذ قد يؤدي سكوتهم إلى تمرير قرارات وإجراءات سياسية، حين تطمئن السلطة إلى رضاء الناس عن أدائها، وقد يمنع تمرير أخرى، حين لا يستجيب الناس لتعبئتهم من قبل السلطة حيال مسائل أو قضايا معينة.