برخصة المشاع الإبداعي: Janna7، فليكر
رجل وامرأة يطلان من نافذة أوتوبيس نقل عام بالقاهرة عام 2007

سلطة تملك مصر بمن عليها

منشور السبت 28 سبتمبر 2024

‏تتصرف السلطة التنفيذية في مقدرات مصر وكأنها مِلك خاص لها. تُباع موجودات وأصول الدولة دون رجوع حقيقي للشعب عبر مجلس نيابي يمثله، أو من خلال حوار مجتمعي يقف على رأيه في كيفية التصرف في ماله، الذي من المفترض أن تكون السلطة مدركة أن حدود دورها تقف عند إدارته، وليس تبديده، أو إنفاقه على ما لا يعود على الناس بالمنفعة.

أتذكر حين قررت مجموعة أمانة سياسات الحزب الوطني قبل الثورة طرح شركات القطاع العام وبعض أصول الدولة، للبيع، لم تفتئت وقتها على حق الشعب في المعرفة والنقاش لأنه صاحب المال، بل قيل إنهم سيجرون حوارًا مجتمعيًا، حتى ولو كان شكليًا، أو عبر تزييف الإرادة كما اعتادوا، لكنهم على الأقل كانوا يدركون أن هذه الأشياء هي للمصريين، ولا يمكنهم إسقاط هذا من حسبانهم حتى لو اضطروا إلى التدليس.

وقتها تحدثوا عن توزيع حصيلة البيع على الناس ماليًا أو عينيًا أو في شكل خدمات تقدم فيما بعد، وهو أمر قوبل بسخرية المعارضة والناس، ونوقش بإفراط على صفحات الجرائد وبرامج المساء في الفضائيات، بل إن بعض الناس في الشوارع انخرطوا يحسبون أنصبتهم في المال العام المباع، مستعيدين في هذا ما ورد في الفيلم الكوميدي عايز حقي (2003). وحين طُرح الموضوع للنقاش على هذا النحو، ولاقى اعتراضًا، ورفعت التقارير الأمنية والسياسية والاقتصادية إلى مبارك، وكانت لا تحبذ المضي على هذه الدرب، أوقف البيع.

اليوم لا يعرف الشعب شيئًا عما يجري. يسمع الناس من صحف ووسائل إعلام أجنبية عن اتفاقات وصفقات، فيفتحون أفواههم دهشةً من هذا التجرؤ على المال العام، وكأنه مجرد عقار تملكه السلطة التنفيذية، ومن حقها التصرف فيه، بالبيع أو الهبة. وينتظر الناس أيامًا، وربما أسابيع أو شهورًا، حتى تتسرب إليهم نصوص الاتفاقيات، أو بالأحرى الصفقات، بعد نشرها في الجريدة الرسمية.

يدرك المصريون جيدًا أن البرلمان بغرفتيه بات أشبه بقسم "الاستيفا" في أي مصلحة حكومية، قنطرة للحفاظ على الشكل البيروقراطي، يمر عبرها القرار دون أن تهزه الريح. ويتساءلون في حسرة: من يتحدث باسم الشعب في كل ما يجري؟ ومن بوسعه أن يوقف التصرف في ماله؟ أو على الأقل: من ينبه السلطة التنفيذية إلى أن ما لدى المصريين ليس مالها الخاص تتصرف فيه كما تشاء؟ وهل هي غافلة عن هذا؟ وإن كانت واعية بالطبع، فكيف اعتادت التعامل مع المال العام بهذه السهولة؟ كيف غاب عنها أن ما يسمونه "الاستحواذ" يبدأ على مهل، وبالقطعة، وتتسارع وتيرته، فيجرد السلطة من أدوات التحكم في الإدارة، ثم يبتلع الدولة؟

أصبحت القلة المدللة تتعامل مع مقدرات مصر باعتبارها حقًا لها

ينظر المصريون باستغراب إلى استمرار التصرف في أموال المعاشات، وهي آفة بدأت أيام مبارك على يد وزير ماليته يوسف بطرس غالي، ولم تضع أوزارها بعد. ويتابعون أيضًا، ويعانون، من الزيادة المستمرة للضرائب والرسوم والغرامات التي لا يعود شيء منها إلى الشعب، اللهم إلا إذا كانت السلطة تعتبر الرواتب والأجور التي تدفعها مؤسسات الحكومة، كحق آني، والمعاشات كحق مؤجل، أعطيات تمنحها السلطة، عليهم شكرها عليها ليل نهار، ولو لم تكن متناسبة مع الزيادات المطردة في الأسعار.

هذه الزيادات بدورها، جاءت إثر قرارات اتخذت بالطريقة نفسها التي تتخذ بها قرارات التصرف في المال العام. فجأة وجد الناس أنفسهم أكثر فقرًا بعد أن زادت الأسعار أكثر مما يطيقون، دون أن ينصت أحد إلى شكواهم، وصار أغلبهم يحتارون في كيفية البقاء أحياء، في ظل تعذُّر تدبير الضروريات من غذاء ودواء وكساء وإيواء وتعليم.

إن الغلاء بلاء، ولا تشعر به القلة المدللة التي انهمرت عليها الأموال كالسيول من أبواب غريبة لا علاقة لأغلبها بعملية الإنتاج، بل هي نتاج الاحتكار والسمسرة والتجارة المشروعة وغير المشروعة. وهذه القلة هي التي تقاتل في سبيل الإبقاء على منافعها، غير عابئة بما يجري للأغلبية الكاسحة من المصريين، ويتعامل بعضها، إن لم يكن جلها، مع مقدرات مصر على أنها له.

والمشكلة الماثلة عيانًا بيانًا، أن هذه القِلة هي من يصل صوتها إلى سمع أهل القرار، وتصل أفعالها إلى أبصارهم، إذ لها منافذها إلى آذانهم وعيونهم، فيسود الاعتقاد لدىهم بأن الأمور على ما يرام. والأفدح أن بعض أهل القرار صاروا منهم، أو أُلحِقوا بهم، دون أن ينتبهوا إلى ما حذَّر منه عالم الاجتماع والمؤرخ العربي الشهير ابن خلدون، من أن خلط الإمارة بالتجارة يؤذن بخراب العمران.

وهناك قضية ثالثة يمكن النظر إليها كجزء مهم في مسار البرهنة على عدم تفكير السلطة التنفيذية في أحوال المصريين ومصالحهم. ففي ظل السعي المرير والمضني، وبأي طريقة، للحصول على العملة الصعبة في سبيل تسديد أقساط الديون وفوائدها، تقوم الحكومة بتصدير سلع أساسية إلى الخارج، رغم احتياج السوق المحلية لها، وهو أمر يعبر عنه المصريون طوال الوقت بشكوى تكاد تصم الآذان عن تعذر حصولهم على بعض الأدوية اللازمة لعلاج أمراض مزمنة من التي تزيد وتتفاقم بفعل الضغوط الحياتية المتواصلة على أعصاب الناس.

وإلى جانب الدواء، يرى المصريون نقصًا في بعض الخضروات، فترتفع أسعارها بشكل جنوني. وحين يبحثون عن الأسباب، يجدون الإجابة في تصديرها إلى الخارج. بل وتتباهى الحكومة بهذا التصدير، ويحصي مسؤولوها العائد الدولاري منه.

ولا يمكن في هذا المقام أن نتجاهل مسألة التلاعب بمصائر الأسر المصرية فيما يخص التعليم، فقد فوجئ الشعب بوزير التعليم الجديد يعلن ما أسماها "خطة تطوير" مدعيًا أن حوارًا مجتمعيًا قد جرى بشأنها، وهو ما لم يتم بالطبع، إذ إن الوزير حين قرر ذلك، أو بالأحرى نفذه، لم يكن أمضى في منصبه سوى بضع أسابيع.

وإذا كان بعض الناس، جراء فقرهم، قبلوا ضغط المواد الدراسية على هذا النحو العشوائي، طالما أن ذلك سيوفر لهم بعض النفقات فيوجهونها إلى الغذاء والدواء، فإن خبراء التعليم عددوا ما في هذه الخطة من عيوب، ستقود، مع الوقت، إلى الهبوط بمستوى التعليم المصري، في وقت بُحَّ فيه صوت الإصلاحيين المطالبين بتحسين هذا المستوى، ليواكب ما يجري حولنا، في الإقليم والعالم.

إن الجرأة التي تتخذ بها هذه السلطة قراراتها التي تمس حياة الناس، وآخرها قانون الإجراءات الجنائية، لم يسبق لها مثيل، ربما منذ أيام حكم المماليك. بل إن مراجعة التاريخ تقول إن ما يحدث الآن فاق كل حدود ما مضى، لا سيما إن قسناه بسمات العصر الذي نعيشه، حيث سقطت العبودية، وتراجعت النظم الشمولية والمستبدة، وعرف الناس حقوقهم، وتدفقت إلى آذانهم وعيونهم عطاءات ثورة الاتصالات.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.