ليس من المفهوم أبدًا، ولا من المقبول، أن تبقى مصر بلا مجالس شعبية محلية منتخبة من قَبل ثورة يناير بسنوات وحتى الآن، مهما كانت حالة هذه المجالس، ورغم توقع إخراجها بالطريقة نفسها التي خرج بها مجلسا النواب والشيوخ الحاليان إلى النور.
مرت نحو أربعة أشهر منذ أن عرض رئيس الوزراء المكلف مصطفى مدبولي برنامج حكومته أمام البرلمان وفيها ما يخص المحليات، لكن حتى الآن لم يرَ قانون المحليات النور، وبالتالي تُرجأ انتخابات المجالس الشعبية المحلية إلى أجل غير مسمى، وكأنها شيء لا فائدة له، أو يمكن استمرار الدولة من دونه.
لكنَّ المحليات بداية السياسة ومنتهاها، فمن الجذور الاجتماعية العميقة تُولد المصلحة العامة، وعلى الدولة أن تأخذ هذا في الاعتبار وهي تقيم سياساتها الخارجية وعلاقاتها الدولية، لا سيما في ظل "دبلوماسية التنمية" التي تعمل على أن ترجع الفوائد والعوائد التي تُحصَّل من الخارج، في أي علاقة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو أمنية، إلى المجتمع المحلي، ويلمس المواطنون انعكاسها على معيشتهم.
والمحليات أيضًا هي منبع الشرعية الحقيقية، إذ إن الناس في أحياء المدن وأصقاع القرى والنجوع والكفور والعِزَب يبنون جزءًا مهمًا من رضاهم عن السلطة السياسية بقدر ما يصل إلى أيديهم من خدماتها وتصرفاتها، التي تهبط من علٍ إلى القواعد الراسية على أرض المجتمع. كما أن فاعلية الأحزاب السياسية تُقاس أيضًا بقدر وصولها إلى هذه القواعد، لتوعيتها بحقوقها وواجبها، وجذبها إلى الانشغال بالقضايا العامة.
احترام المحليات من احترام الدستور
كما أن المحليات هي الطريق الأساسي والمباشر لتعزيز المشاركة، سواء بإشراك المواطنين في القرار المتعلق بالشؤون المحلية، عبر اختيار ممثليهم في المجالس الشعبية المحلية، أو بالمساهمة في تنمية المجتمعات المحلية، وهما مسلكان يُكمِّل أحدهما الآخر، ويجعلان الديمقراطية والتنمية في وفاق وعناق.
والمحليات هي واحدة من الجسور المهمة الواصلة بين الإدارة العليا المركزية للبلاد والمواطنين، وهي توفر المسارات التي يمكن أن تسلكها الدولة نحو عدالة التوزيع، أو ضمان أن تتساقط ثمار التنمية من أعلى إلى أسفل، أو ضمان عدم إهمال إقليم من أقاليم الدولة لحساب آخر، بما يؤدي إلى تمييز يثير غبنًا وحنقًا وغضبًا.
على الجميع احترام الدستور الذي أقره الشعب، ومنع تغول الحاكم عليه
ولا بد في هذا المقام من تطبيق المادة 242 من الدستور المصري التي تنص على أن "يستمر العمل بنظام الإدارة المحلية القائم إلى أن يتم تطبيق النظام المنصوص عليه في الدستور بالتدريج خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذه، ودون إخلال بأحكام المادة 180 من هذا الدستور".
والمادة 180، إلى جانب نصها على كيفية توزيع المقاعد داخل المجالس الشعبية المحلية، وتحديد مدتها بأربع سنوات، فهي تحدِّد اختصاصاتها في متابعة تنفيذ خطة التنمية، ومراقبة أوجه النشاط المختلفة، وممارسة أدوات الرقابة على السلطة التنفيذية من اقتراحات، وتوجيه أسئلة وطلبات إحاطة، واستجوابات وغيرها، وفى سحب الثقة من رؤساء الوحدات المحلية، ثم تحيل إلى القانون تحديد اختصاصات المجالس المحلية الأخرى، ومواردها المالية، وضمانات أعضائها واستقلالها.
هذا يعني أن السلطة التنفيذية تباطأت في تطبيق الدستور والقانون، ومن أجل ذلك لا بد من التفكير المستمر والعمل الجاد لبناء نظام محلي سليم وكفء وقوي ومستقر وفعال، يكون رافعة للحياة السياسية والاجتماعية والإدارية والاقتصادية.
يتحقق ذلك بسن قانون يحدد سلطات المجالس الشعبية المحلية، واختصاصاتها وصلاحياتها، ويبين موارد الإدارة المحلية الحكومية أو مخصصاتها من الميزانية العامة، على أن يتم إجراء نقاش عميق حول مشروع القانون، ليس من خلال مجلسي النواب والشيوخ فحسب، بل بإشراك الأحزاب السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني، وعدد من الشخصيات العامة، والإنصات إلى صوت الجمهور، الذي تهمه المحليات بالطبع، وتمثل له الحلقة الأولى في وجود الدولة.
ولا بد أيضًا من وجود ضمانات لا لبس فيها لانتخابات محلية ديمقراطية، تتوافر لها شروط الحرية والنزاهة والشفافية، بما يسمح بمنافسة حقيقية بين الأحزاب السياسية والمرشحين الأفراد لعضوية المجالس الشعبية المحلية.
ينبغي أن تقوم الإدارة المحلية بتنفيذ السياسات التي تضعها الهيئة المنتخبة، تحت رقابة المجالس الشعبية. مع توفير موازنة محلية مستقلة توظفها الإدارة في تنفيذ السياسات.
إن تطوير الإدارة المحلية باعتبارها تمثل عصب التنمية يشكِّل أولوية، لتصبح قوية ومستقلة وفعالة، قادرة على تلبية احتياجات المجتمعات المحلية من جهة، وعلى تجاوز نقص الكفاءة في استغلال الموارد البشرية والطبيعية، وتحقيق العدالة بين الأقاليم في التنمية، من جهة ثانية.
يفتح ذلك الباب أمام إرساء اللا مركزية في الحكم المحلي، وتمكين المحليات ماليًا وإداريًا، بما يخفف العبء عن العاصمة.
على الجميع احترام الدستور الذي أقره الشعب، ومنع تغول الحاكم عليه، بإزاحة الحدود الفاصلة بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، والامتثال للمبدأ الراسخ الذي يؤكد أن السيادة للشعب، وأن الأمة هي مصدر السلطات، وأن السُلطة المطلقة مَفسَدة مطلقة.
خطة "المحافظين"
ولتحقيق هذه الأسس يجب القيام بعدة إجراءات، فضلًا بالطبع عن تنفيذ الاستحقاق الدستوري الخاص بالحكم المحلي. وقد توقفت عند المقترحات التي قدمها حزب المحافظين في هذا الشأن، التي وردت في تصور مبدئي عن تأسيس الحزب وهويته ومبادئه وأهدافه وتصوراته حول مختلف القضايا.
لمواجهة الهجرة الداخلية ينبغي توزيع الاستثمارات والخدمات المادية والأمنية والإدارية بطريقة عادلة وفعالة
وضع الحزب تصورًا لتقسيم إداري للأقاليم والمحافظات، يضمن توفير ظهير صحراوي لها، وامتداد حدودها حتى الشواطئ الساحلية، مما يوفر لكل محافظة أو مجتمع محلي موردًا اقتصاديًا، يتعزز بتحسين فرص الاستثمار الوطني والأجنبي، طبق المزايا النسبية التي تتمتع بها كل محافظة أو إقليم، الأمر الذي من شأنه تحسين جودة حياة المواطنين.
في هذا المضمار تُقسَّم الجمهورية إلى عدة أقاليم يتراوح عدد سكان كل منها بين 12 و15 مليون نسمة، ويضم الإقليم عدة محافظات، تنقسم بدورها إلى مراكز بحيث لا يزيد سكان أي مركز عن مليون نسمة، تتوزع على مدن وقرى وكفور ونجوع وعزب، لا يزيد عدد سكان كل وحدة منها عن مائتي ألف نسمة.
ويكون لكل إقليم حاكم يُنتخب لخمس سنوات من بين أبنائه، بالاقتراع الحر السري المباشر ممن لهم حق الانتخاب، وفق القانون، على أن يقيم في أكبر مدن الإقليم. أما المحافظون فينتخبون بواسطة أعضاء المجالس الشعبية المحلية، على أن يقوم المحافظ بترشيح رؤساء الوحدات الإدارية المحلية، ولا يتم تعيينهم في مناصبهم إلا بعد موافقة المجالس المحلية المنتخبة عليهم.
ولا يجوز حل المجالس المنتخبة بإرادة الشعب إلا باستفتاء من لهم حق الانتخاب في النطاق الجغرافي للوحدة المحلية، يدعو المحافظ إليه، ويشترط لإقرار صحته ألا تقل نسبة المشاركين فيه عن نسبة من انتخبوا المجلس المزمع حله. ويصبح المجلس المحلي منتهية ولايته عند موافقة 75% من عدد الأصوات الصحيحة للناخبين على ذلك.
ويتوسع الحزب في إقرار اللا مركزية لتشمل إعطاء سلطة اتخاذ القرار لحكام الأقاليم والمحافظين، وتوفير الموارد المالية من عوائد الاستثمار والضرائب والرسوم والمساهمات أو التبرعات، وكذلك في مجال تشريع القوانين المحلية، ورسم السياسات، وترتيب جدول الأولويات وفق الاحتياجات، وإعداد برامج التنمية، والإشراف على المشروعات المحلية.
ولمواجهة الهجرة الداخلية سعيًا إلى الرزق والأمن الاجتماعي المتوفر في المدن الكبرى، ينبغي توزيع الاستثمارات والخدمات المادية والأمنية والإدارية بطريقة عادلة وفعالة.
ما قدمه حزب المحافظين هو مثال لانشغال الأحزاب السياسية بقضية المحليات، وكل منها قدم تصوره في هذا المجال، وله مقترحه، الذي يمكن أن نختلف حوله ونتفق، لكن لا أحد من أصحاب الدراية العامة بوسعه إنكار ضرورة سن قانون عادل للمحليات، وإجراء انتخابات المجالس الشعبية المحلية في أسرع وقت، وأن يكون للأحزاب السياسية دور في هذا.