تصميم: يوسف أيمن - المنصة
الحلول الجماعية وتكاتف الناس قد يكون المخرج الوحيد في مواجهة الصعاب الهائلة.

المجتمع المدني.. هل يملأ الفراغ القائم في العمل العام

منشور السبت 26 يوليو 2025

يعاني المجتمع المدني المصري منذ سنوات حصارًا شديدًا؛ ماديًّا بتجفيف الكثير من روافده المالية، ومعنويًّا بحملات لتشويه صورته لدى عموم الناس، وذلك لأن السلطة الحالية قدرت أن أداءه، لا سيما الشق الحقوقي منه، كان أحد الروافع المهمة لتغذية المعارضة ودفعها إلى مسار الاحتجاج الذي قاد إلى ثورة يناير 2011.

لذا، تتعامل السلطات مع المجتمع المدني وكأنه خنجر في خاصرة الوطن، أو طابور خامس، أو كتيبة فيما يُسمى "حروب الجيل الرابع والخامس". ومثل هذا التصرف ارتد إلى صدر أهل الحكم بعجز المجتمع المدني عن أداء أدواره مع الاستبداد السياسي، وانفصال القرار عن الواقع.

شروخ في جدار الثقة

فبين السلطة والشعب، حتى لو كانت الأولى عادلة ونزيهة وشرعية وكفئًا، تنشأ دائمًا فراغات أو شروخ، يصنعها اختلاف الأفهام وتعارض المصالح وتغذيها الشكوك والانتقادات التي تتوالى عبر الصحافة والمنافسين، وكذلك احتياجات الناس التي لا يمكن لأي سلطة تلبيتها كاملةً، علاوة على طبيعة النقص الذي يشوب كلام البشر وفعلهم.

ولا يمكن للمؤسسات التمثيلية وحدها سدَّ هذا الفراغ مهما كانت أمانتها وتقديرها للمصلحة العامة، خصوصًا مع التلاعب والمخاتلة التي تصم عملية الانتخاب أو الاختيار، حتى في أكثر الحالات ديمقراطية.

إن وجود نظام حكم تتطابق فيه أفهام الجماهير وإدراكها لمصالحها مع من يجلسون في كراسي الحكم، يبدو وضعًا مثاليًا بعيد المنال، حتى في الديمقراطيات الراسخة، وإن كان لا يجب أن ييأس الناس في الكفاح سلميًا من أجل بلوغه، مهما كان الثمن الذي عليهم أن يدفعوه في سبيل هذا الهدف النبيل.

لكن هذا الكفاح بلغ حاله ومآله حين أدركت الشعوب من خلال الشد والجذب في الأفكار والممارسات، أن وجود "مجال مؤسسي" ضرورة لإبقاء دور المجتمع موجودًا ومتصاعدًا في صناعة القرار، ولو عند مستواه الأدنى.

وهنا ولد "المجتمع المدني" لسد الفراغ، حتى إن لم يرد على أذهان الذين سعوا على هذا الدرب في البداية أن وجوده مهم في ملء الفراغ بين السلطة والمجتمع.

الديمقراطية التشاركية

المجتمع المدني، الذي هو عبارة عن تجمعات وهيئات منظمة تحتل مركزًا وسطًا بين الأسرة والدولة، نشأ في الدول الديمقراطية نتيجة حاجة الناس إلى تمثيل مختلف في جمعيات ونقابات وهيئات هي أقرب إليهم ممن ينتخبونهم في مقاعد البرلمان. فأغلب هؤلاء ينفصلون عن منتخبيهم، بمرور الوقت، أو بفعل الهوة التي تقوم دومًا بين وعودهم للناخبين ونواياهم، لا سيما في الأنظمة الشمولية، أو تلك التي تأخذ من الديمقراطية شكلها الخارجي العابر، ولا يعنيها الالتزام بجوهرها.

ومع إدراك الناس تباعًا لحاجتهم إلى الديمقراطية التشاركية لتعويض نقص "الديمقراطية التمثيلية"، مهما سوقت لنفسها من دعايات، صارت الحاجة إلى المجتمع المدني ملحة.

انقضت السلطة السياسية على مساحات عمل المجتمع المدني فأخذت منها الكثير أو قلصتها إلى الحد الأدنى

والمجتمع المدني إن كان مصطلحًا حديثًا واكب تطورات ما بعد التفكير غير التقليدي في العلاقة بين الرأي العام والسلطة، أو الدولة والشعب، أو بالأحرى تحرك الناس في سبيل تحصيل ركائز لقوتهم، أو صناعة وزن نسبي معتبر لهم في القرار السياسي، فقد صار راسخًا إلى درجة أنه بات أحد المقاييس المهمة لتبيان ما إذا كنا أمام مجتمع حديث أم تقليدي، أو حيال نظام سياسي حر، أم مقيد أو مستبد.

نقطة توازن

ومهما كانت تصرفات الحكومات، في نظم سياسية مستبدة أو تعددية، فإن الحاجة إلى وجود مجتمع مدني فرضت نفسها، عبر الخبرة الطويلة التي خاضها الناس في سبيل تحسين النظر إليهم باعتبار وتقدير من قبل السلطة السياسية، وهو أمر لم يكن له أن يقام على وجه راسخ إلا مع اقتناع دوائر واسعة بأن السلطات التقليدية ليست وحدها القادرة على ضبط المجتمعات البشرية، بحيث تصبح أكثر عدلًا وحرية.

والفراغ الذي يكون على المجتمع المدني أن يملأه يرتبط بالحاجة الطبيعية إلى بلوغ نقطة توزان بين رغبة الناس وقدرة السلطة. وتزيد هذه الرغبة كلما كان النظام السياسي متسلطًا أو شموليًا، حتى لو عجز الناس عن التعبير عنها، خوفًا من العقاب.

وإذا كان التطور السياسي الطبيعي يوسع من المساحات التي يحط فيها المجتمع المدني قدميه، وكانت مطامح النخبة غير الرسمية لا تكف عن المنازعة أو المطالبة بهذا التوسع، فإن هناك حالات شهدت ردة على هذا التطور. فكثيرًا ما انقضت السلطة السياسية على هذه المساحات فأخذت منها الكثير، أو قلصتها إلى الحد الأدنى، عبر إجراءات وضوابط وقوانين وحملات إعلامية أضعفت المجتمع المدني وقللت من ثقة بعض الناس فيه.

في أزمة الاقتصاد الكل مدعو

إن وجود مجتمع مدني قوي يساعد، دون شك، في التصدي لمحاولات تفريغ السياسة من محتواها الإصلاحي والتنموي، وإعادة ملئها بما يخدم مصالح ورغبات طبقية، ويعوض كذلك النتائج السلبية المترتبة على انغلاق السلطة السياسية على ذاتها، حيث يصنع دوائر اجتماعية تقيها من الآثار غير الحميدة لتراجع شعبيتها، ومنها نقص الشرعية، لأن جوهرها لا يتحقق إلا برضا المجتمع، وهو أمر تساهم في جلبه المشاركة في صناعة القرار.

صار دور المجتمع المدني في ملء الفراغ الاقتصادي مقبولًا في الأنظمة غير الديمقراطية

وتزداد مهمة ملء الفراغ السياسي الواقعة على عاتق المجتمع المدني في البلاد التي تغيب فيها الأحزاب السياسية أو تكون ضعيفة مهمشة، وهي في هذا قد تلقى قبولًا أوسع نظرًا لحيادها، إذ لا تنطلق في آرائها ومواقفها العملية من منطق المعارضة والموالاة، ولا تصارع أو تنافس على السلطة، وتعد وسيطًا فاعلًا، يسعى إلى إصلاح الحال والمآل.

وهذا الموقف يحفظ للدولة توازنها، لأنه يساعدها على تلافي الفراغات السياسية التي قد تملأها ظنون تسري في أذهان القاعدة الشعبية ونفوسها. كما أن للمجتمع المدني دورًا في مدِّ الحياة العامة بتصورات ناضجة حول التغيير إلى الأفضل، وإمدادها بأشخاص قادرين على منح النظام الاجتماعي والسياسي الثقة، التي يجب أن يسعى إليها، ويحافظ عليها، كي يستمر مستقرًا.

لكن ملء المجتمع المدني للفراغ لا يقتصر على النواحي السياسية، بل يشمل أيضًا الجوانب الاقتصادية، عبر دعم جهود التنمية من قبيل مد يد العون إلى الطبقات الفقيرة، لا سيما حال انسحاب الدولة التدريجي من تقديم الخدمات والإعانات، خاصة أن السلطة الحاكمة لا تنشغل كثيرًا بمزاحمة المجتمع المدني على ملء الفراغ الاقتصادي بالدرجة نفسها التي تحدث بالنسبة للفراغ السياسي.

صار دور المجتمع المدني في ملء الفراغ الاقتصادي مقبولًا إلى حد كبير في ظل الأنظمة غير الديمقراطية، على العكس من دوره السياسي، الذي يقابل بالحذر والشك. وهنا نجد أن أنشطة المنظمات غير الحكومية تتركز على مجال الخدمات، والترويج للأنشطة الاجتماعية، في النظم التسلطية والشمولية.

وقد حظيت المنظمات غير الحكومية بدعم دولي لدورها في ملء الفراغ في مجال التنمية، منذ تسعينيات القرن العشرين، وتم التعامل معها على أنها شريك للحكومة في هذه الناحية، بل صارت مهمتها هذه محل اعتبار وموافقة وتقدير من الرأي العام، ودوائر رجال الأعمال، أو القطاع الخاص، والمؤسسات الدولية ذات الصلة بها، ما أدى إلى تنوع أنشطتها، وتعزيز قدرتها في الإنفاق على الخدمات الاجتماعية، مع زيادة عدد المستفيدين منها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.