لا غنى لأي مجتمع بشري عن تماسك، يحفظ وجوده ويضمن استمراره على قيد الحياة. فالتماسك قيمة مهمة مركزية، وفضيلة إنسانية ونفسية وثقافية يعمل من أجلها كثيرون، ممن يفهمون أن دونها خطرًا شديدًا على بلادهم، يصنعه التفكك والتشرذم والانقسام والتطاحن والتباغض، وتغذيه الأنانية واللامبالاة، وتهدده الخطط التي يضعها الأعداء الذين يدركون أن غيابه هو السلاح الأمضى، الذي يحقق لهم أهدافهم.
والتماسك لا يُبنى على سبب واحد، ولا يُهدم مرة واحدة. فأسباب قيامه تُنسج على مهل، وتصنع شروطه بإرادة الجماعة ووعيها، أو وفق تفاعلاتها الطبيعية التي تتم دون وعي، أو على الأقل دون دراية الأغلبية بها، أو وقوفهم عند هذه الشروط، أو قيامهم بإحصائها وتشريحها وتفكيكها، ومعرفة الروافد التي صبت فيها، والعوامل التي شكلتها.
إن التماسك يولد وينمو عبر سنوات طويلة، قد تكون عقودًا لدول جديدة، أو قرونًا لدول قديمة، لكن يمكن لجديد أن يتماسك سريعًا، ولقديم أن يتباطأ في تحقيق هذا، إن كان المجتمع الذي يشكل الدولة موزعًا على هويات عدة منحدرة أو راجعة إلى أعراق أو أديان أو مذاهب أو لغات أو لهجات أو طبقات وشرائح أو غايات ومقاصد.
فتحدي التماسك يختلف من مجتمع إلى آخر، وبالأحرى من دولة إلى أخرى، بعد أن صارت الدولة الوطنية الحديثة تريد أن تقوم على مجتمع متجانس مهما بلغت تعدديته، ليشكلها أو يمثل شعبها، الذي هو أحد أركانها، مع ثلاثة أخرى هي الأرض والحكومة والوظيفة أو المهمة، التي يجب أن تترجم في استراتيجية للدولة، معروف كيفية تبلورها، وما هي مآلاتها.
ومن الأشياء التي تُحمد للمجتمع المصري أنه يميل بكل كيانه إلى التماسك، حتى في المصائب والملمات، وطالما وضعته الظروف الصعبة، والتغيرات الجارفة، في اختبارات شديدة القسوة، لكنه كان قادرًا على تجاوزها، لا يدعها تشرخ جسده، أو تهز كيانه بعنف، أو تجعل أي من أفراده يكفر تماما ببقية الموجودين معه على هذه الأرض، والصانعين مثله لهذا التاريخ، والناظرين مثله إلى ما هو آت.
ويعود تماسك مجتمعنا إلى عوامل عدة، يمكن ذكرها على النحو التالي.
تستغل السلطة إدراك المصريين لقيمة الدولة، أحيانًا، لإخافتهم وابتزازهم
الخبرة التاريخية الطويلة
فالمجتمع المصري موغل في القِدم، يضع قدمًا عفية في قلب التاريخ البعيد، وقد استغرق تشكله على النحو الماثل أمامنا الآن آلاف السنين. وهذه العراقة جعلته يمر بكثير من التجارب، متقلبًا بين أفراح قليلة وأتراح كثيرة، تعلم منها كيف يواجه الظروف الطارئة التي تحمل معها أسبابًا للاهتزاز والتصدع والتفسخ.
الثقافة الأصلية الجامعة
وهي ثقافة تتمع بقدر كبير من التجانس والتناغم، وتغذيها في الوقت نفسه ثقافات فرعية لأهل النوبة والبدو. ومع وجود بعض التباينات بين سكان الدلتا وسكان الصعيد، فإن أغلب المعارف والقيم والاتجاهات والتصورات والطقوس متجانسة، فالأساطير والحكايات الشعبية واحدة أو متقاربة ومتجذرة ومتداولة، والأمثال والحكم متكررة تتناقلها الألسن عبر الأزمنة والأمكنة.
وهناك توافق عام على ما هو صواب وما هو خاطئ، وما هو حلال وما هو حرام. وهناك إدراك متقارب للهدف الأكبر في حياة المصريين وهو الاستمرار والبقاء، مهما اختلفت المطامح والمطامع.
إدراك قيمة الدولة
فالمصريون اعتادوا وجود الدولة في حياتهم، منجزة كانت أو متوعكة، نزيهة أو فاسدة، عادلة أو ظالمة، منكفئة على حدودها أم متوسعة في الجوار أو ما كان يمثل مجالًا حيويًا لها، ولهذا فإنهم، حتى في أيام الغضب من سلطة كرهوها وخاصموها، لا يسمحون لشيء أن يفكك دولتهم أو يفرط عقدها، الذي صنعته قرون متتابعة. وتستغل السلطة أحيانا هذا الشعور لإخافتهم وابتزازهم.
القدرة على التسيير الذاتي
فرغم إدراك المصريين قيمة الدولة أو مكانتها، فإنهم لم يعدموا القدرة على تسيير حياتهم، بعيدًا عنها. فحتى حين اعتمد بعضهم على الدولة من خلال التسابق على الوظائف المتاحة في دواوين الحكومة، ظلت الأغلبية منهم خارج الهياكل الرسمية، لا سيما القوة الفلاحية والعمالية. كما أن الموظفين أنفسهم سرعان ما أصبحت رواتبهم عاجزة عن تحقيق الكفاية لهم، فاضطروا إلى البحث عن مصادر دخل أخرى.
وتعتمد قوى كثيرة على عطاء المجتمع الأهلي، لا سيما بشقه الخيري، وتنشط النقابات، ويعلو صوت المؤسسات الدينية الكبرى مثل الأزهر والكنيسة، وينشأ دور لوجهاء الريف وأثرياء المدن، ويحدث نوع من الانتشار النسبي للقوة، ويدرك كثيرون أن هذه القوة تعود إلى المجتمع نفسه، فيتمسكون به، ويحافظون على تماسكه.
الأغلبية الكاسحة من المصريين لديهم اتجاه راسخ بأن الحفاظ على المجتمع ضرورة
نبذ الفوضى وكراهيتها
يفزع المصريون من الفوضى، حتى لو صنعتها أيديهم في بعض الأحيان. فهم ما إن يدركوا أن غضبهم العارم، الذي استهدفوا منه وصول أصواتهم المقموعة إلى سلطة لا تسمع أنينهم، قد تحول إلى هرج ومرج ساخن أعقبه تخريب وتدمير، فإنهم يعودون أدراجهم إلى التصرف بمسؤولية حيال بلدهم.
ولدى المصريون قدرة على استشعار الخطر والعمل على تفاديه، فهم طالما حازوا ملكة يقظة حيال الأخطار التي تحدق ببلادهم، ولهم في هذا فهمهم الخاص، بعيًدا عن دعايات السلطة وادعاءاتها، بحديث لا ينقطع عن مؤامرة تحاك ضد الدولة والمجتمع في مصر.
وقد رأينا ذلك جيدًا في العقود الأخيرة إبان انتفاضة الخبز في يناير 1977، حيث استجابوا لنداء العودة إلى البيوت بعد إيصال رسالتهم، وفي أحداث الأمن المركزي 1986 التي لم يستغلوها في اعتراض يزيد الطين بلة، وخلال ثورة يناير 2011 التي شكلوا فيها لجانًا شعبية لحماية البيوت والمؤسسات.
الشعور بوحدة الهدف
وهذا يسري في أوصال الناس، بلا ادعاء، ويستقر في العقل الجمعي بلا مواربة، إذ أن الأغلبية الكاسحة من المصريين لديهم اتجاه راسخ بأن الحفاظ على المجتمع ضرورة، واستمراره عبر الزمن أشبه باعتقاد سياسي، أو هو كذلك بالفعل، يتم التعبير عنه بوضوح في أيام الأزمات والمشكلات الحادة، ويحدو هؤلاء أمل عريض في تجاوز المحنة، دون إحداث جرح غائر في الجسد الاجتماعي الحي المتواصل.
هناك دور تمارسه المؤسسات في صهر المجتمع وتنشئة أفراده على التوافق، وفهم التنوع، مثل الجامعات، والجيش، والبيروقراطية العتيدة. ويتيح ذلك فرصة لأفراد مختلفين في الطبقات والثقافات والجهات والخلفيات الاجتماعية لتحاور طوعي، يتيح فرصة كبرى للثقافات الفرعية أن تصب في مجرى الثقافة الأصلية وتغذيها.
كذلك تسهم النصوص، لا سيما الدستور والقانون في تحقيق ذلك التماسك، لا سيما من زاوية وحدة القوانين المطبقة في الدولة، وإتاحة حرية التنقل للمصريين والسكن في أي من بقاع الوطن، وكل دعوة طرأت من حين إلى آخر أراد أصحابها الافتئات على هذا الحق قاومها الناس، وامتثلت لهم السلطة السياسية.
إن هذه العوامل هي استجابة قوية لتماسك المجتمع المصري، لكن هذا لا يعني أنها لا تواجه تحديات، قد تخدشها أو تجرحها، أو تهز بعض أركانها، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وحصار المجتمع الأهلي المدني، والتحلل الأخلاقي، وعاقبة الصراع السياسي المرير، والتفاوت الطبقي الواسع، والعزلة العمرانية مع ظهور المدن المسورة، وانتشار الفساد من نهب وسرقة ومحسوبية وتمييز، وهبوب العولمة التي تريد أن تكنس أمامها جدران الحماية الاجتماعية من قيم متوارثة، وتاريخ متتابع، وتوافق الجماعة الوطنية على الأهداف العامة والغايات الكبرى.