لا يكف المصريون عن صناعة الضحك والسخرية ولو من أنفسهم، إن اقتضى الأمر. حتى حين ثاروا لم يتخلوا عن خفة ظلهم، ليطلق العالم على احتجاجهم الواسع في 25 يناير 2011 وصف "الثورة الضاحكة"، متكئًا على العبارة السائدة التي تنعت المصريين جميعًا بأنهم "شعب ابن نكتة"، ومستندًا على ما أنتجته القريحة الشعبية المصرية وقتها من تعبيرات ساخرة كُتبت على لوحات بسيطة رُفعت في ميدان التحرير.
ليس هذا بجديد على المصريين، فهم، ورغم تعاقب الأزمنة وتبدل الظروف، احتفظوا بخفة ظل، لا يبليها الزمن، ولا تبددها العاديات، وهنا يقول عالم الآثار زاهي حواس "احتفظت لنا الآثار المصرية القديمة بأقدم صور الكاريكاتير في العالم كله، التي تعكس خفة ظل المصري القديم، وميله إلى نقد الأوضاع المحيطة به، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وقد استخدم الفنان في هذا الزمن الغابر جدران المقابر وأوراق البردي لتسجيل كثير من المشاهد الكاريكاتيرية الصامتة.. ومعظم ألوان الفكاهة والسخرية ظهرت في الفن والأدب المصري القديم في فترات الاضطراب".
على جدران المعابد القديمة، وفوق جداريات شهيرة، توالت السخرية متعددة وعميقة. ومن شدة احتفاء قدماء المصريين بروح الفكاهة، تعارفوا على أنَّ هناك إلهًا هو "بس"، للمرح والموسيقى والرقص والثُمالة، وهو قزم صغير بأثداء مترهلة، وبطن ممتلئ، منتفخ الوجنتين وله لحية تشبه المروحة. ومن منطلق إيمانهم بأن الفكاهة أو السخرية أو خفة الظل لا تعني الهزل، أُسندت إلى "بس" مسؤوليات أخرى، فهو يقوم بحماية النساء أثناء الحمل والولادة، ورعاية الأطفال الرضع، وكذلك حماية النائمين حتى يستيقظوا، وحماية مقابر الموتى من السرقة، وخاصة إن كانوا من الملوك والأمراء الراحلين.
وقاد الحس الفكاهي للمصريين إلى نسج حكايات مضحكة وعميقة في آن على لسان الشخصية الأسطورية "جحا"، ومعه حماره. وللغرض نفسه اخترع المصريون فن "الأراجوز" وحملوا على لسانه سخرية من الواقع، ونقدًا لاذعًا لبعض تصاريفه وشخصياته المؤثرة، في مداراة ومواراة وتحايل لا يخفى على كل ذي عقل فهيم.
وانداحت هذه السخرية في كثير من الأعمال الدرامية والأفلام السينمائية والكتابات الصحفية وصولًا إلى فن الكاريكاتير، الذي أبدع فيه كثيرون منهم رخا وصاروخان وصلاح جاهين وحجازي وأحمد عز العرب وعمرو سليم. وظهر بين المصريين كتاب ساخرون مثل عبد العزيز البشري وفكري أباظة ومحمود السعدني ومحمد عفيفي وأحمد رجب وجلال عامر وعاصم حنفي وجمال فهمي وسليم عزوز وبلال فضل، وغيرهم.
ويحصر الكاتب الصحفي عادل حمودة النكت السياسية في كتابه النكتة السياسية، ويراها وسيلة يسخر بها المصريون من حكامهم، وفيه يجمع ما يدور في الشوارع، والحواري، والقهاوي، والمكاتب المكيفة، من أحاديث وكذلك رواية ما تحدث عنه رجال جمال عبد الناصر، وأنصار أنور السادات، ومؤيدو الوفد، وتابعو جماعة الإخوان المسلمين، وأساتذة الجامعة والظرفاء والأدباء، والمشغولون بتشخيص المجتمع، لنعرف من كل هذا أن خفة ظل المصريين كانت جزءًا أصيلًا من مقاومتهم بالحيلة.
يبدو أنَّ المصريين اكتسبوا روح السخرية حتى لا ينسحقوا في مواجهة ظروف قاسية، صنعها تحالف القصر والمعبد، أو الملك والكهنة، وصنعها أكثر الاحتلال الطويل لأرض النيل، الذي قهر الناس وأفقرهم. لكن هذا المُكتسب من الواقع الاجتماعي تسرب شيئًا فشيئًا إلى الجينات، فصارت خفة الظل تورث من جيل إلى جيل، حتى إذا وجدوا شخصًا ثقيل الظل، شككوا في مصريته، أو اعتبروه الاستثناء الذي يُثبت القاعدة.
نكات الأيام الثقال
إن التنكيت عند أهل مصر لا يكون في كل الأحوال هزلًا، بل أحيانًا ضحك كالبكاء، أو كوميديا سوداء، وهو قهقهة مجروحة، فيها من الشجن أكثر مما فيها من المرح. لذا فإنَّ أيام الهموم الثقيلة هي الوقت المناسب لإطلاق نكات أكثر، للتنفيس عن المكبوت، والتخلص من هموم الحياة، الضاغطة بقسوة على الأعصاب، والنيل من السلطة المتجبرة.
والتنكيت يجنب الناس المساءلة أو العقاب لأنه يشيع بينهم، ويصعب على أجهزة الأمن أن تحدد أول من أطلق النكتة، ولا تقدر بالطبع على تعقب سريانها على الألسنة، ولا تقدر على أن تجمعها من السوق الاجتماعية، وتبددها، كأنها لم تكن.
ولعبت النكتة أحيانًا دور "الاستبيان" أو "استطلاع الرأي" لدى أهل الحكم أنفسهم، وبها عرفوا اتجاهات الرأي العام في وقت من الأوقات، واتخذوا قرارات بناء على ذلك. في هذا، يمكن أن نضرب مثلًا بنكتة دارت على الألسنة أيام حكم جمال عبد الناصر تقول "مرة مواطن سمع أن السكر موجود في إسكندرية، فركب تاكسي وطلع على هناك. وفجأة السواق قال له اتفضل انزل، فسأله إزاي دا احنا لسه في بنها؟ السواق قال له هنا آخر الطابور".
وصلت هذه النكتة إلى سمع عبد الناصر، فعقد على الفور اجتماعًا للحكومة، لم ينتهِ حتى تم تقديم حلول لأزمة السكر.
تكرر الأمر في عهد السادات، ففي ظل حالة "اللاحرب واللاسلم" التي أعقبت توقف حرب الاستنزاف، التي استمرت من 1 يوليو 1967 إلى 7 أغسطس 1970، ومع تعلل الرئيس بأن "الضباب السياسي" يمنعه من شن حرب يريدها الشعب، لاسترداد سيناء، تداول المصريون نكتة تقول إن "صاحب عربية كارّو يجرها حمار، عطّل المرور فوق كوبري قصر النيل، ولما جاله ظابط يسأله "انت إيه اللي موقفك هنا؟ ياللا امشي"، قال له "عشان الضباب"، رغم أن الجو حلو. فسأله الظابط "هو فين الضباب دا؟"، رد "ابقى اسأل الحمار"."
ومع العالم الرقمي لم يقتصر المصريون على النكتة و"الإفيه"، بل انخرطوا في إبداع الكوميكس والميمز، وساعدهم في هذا أن تاريخ مصر الفني والثقافي والسياسي غني بالشخصيات والمقولات، والمجتمع قادر طوال الوقت على إنتاج المشاهد والصور اللافتة، من قلب واقعه.
وبعض هذه الكوميكس يطلقها الناس بشكل عفوي، ويعطونه من الوقت والجهد حبًا في المشاركة السياسية غير المباشرة، وبعضه تقف خلفه جماعات مناهضة للحكم، تعرف كيف أن السخرية واحدة من المداخل المهمة لقلوب المصريين وعقولهم، وبذا تسهم في تعبئتهم ضد السلطة، أو حفزهم على نقدها، أو الضغط الهائل على أعصابها المتبلدة.
ولأن الإنترنت جعل النكتة والإفيه والكوميكس والميمز تنتقل بسرعة شديدة، باتت تشكل بالنسبة للناس وسيلة تعبير عن موقفهم من السلطة، وبالنسبة للأخيرة، باتت واحدة من أدوات جس نبض الشارع، بل أدرك أهل الحكم أن الناس طالما يتضاحكون، ولو في سخرية، فإنهم لن يتحركوا غاضبين، وبذا يمكن تحمل سخريتهم طالما أنها تأخذهم إلى القعود أو تؤجل تمردهم وعصيانهم وخروجهم محتجين.
في هذه المسألة نشرت مقالًا في 7 أبريل/نيسان 2009 بعنوان "سر اختفاء النكتة السياسية" في المصري اليوم، خلصت فيه إلى أن تواري السخرية اللاذعة للمصريين يعنى أنهم يستعدون للانتقال من الأقوال إلى الأفعال، "ظني أن التفسير قد لا يخرج عن مسارين، الأول هو أن الهم والغم قد فاض واستحكم فوقع الناس جميعًا في كآبة سوداء، أفقدتهم القدرة على التندر والضحك وإطلاق النكات، مردها انسداد الأفق السياسي، وتردي الأوضاع الاقتصادية، وانهيار القيم، ... أما الثاني فيميل إلى أن سبب اختفاء النكات هو أن مصر باتت مهيأة للحظة مخاض سيفعل فيها الناس ما هو أعلى وأهم وأكبر من التندر".
ولكن هل التنكيت يعوق الحركة في سبيل التغيير؟
ليس بالضرورة، بل إنه هو الذي يحيى قدرة الشعب على المقاومة، ولو بالحيلة، أو يمنعه من الرضوخ والإذعان الكاملين، أو يبقي جذوة الاعتراض مشتعلة، ولو كان لهبها خافتًا، أو يعطي الناس فرصة للاختلاف مع سياسات السلطة دون تحد سافر، يعرضهم للخطر.
وحتى لو بقيت خفة الظل منزوعة السياسة، فإنها مهمة في حد ذاتها لتسري عن النفوس التي تكدح دون كلل ولا ملل من أجل التقاط الرزق. إنها إحدى زوايا رؤية المصريين للحياة، وواحدة من محددات نظرهم إلى الآخرين. إنها واحدة من السمات البارزة للشخصية المصرية على مر التاريخ، وضلع في القيمة الاجتماعية والسياسية المركزية لهم، وهي التحايل.