عاش المصريون قرونًا طويلة وهم يميلون في الغالب الأعم إلى الثبات والاستقرار، وليس بينهم اختلاف في هذا؛ وإن اختلفت مهنهم وتفاوتت طبقاتهم وتباينت ثقافاتهم وتباعدت المسافات بينهم. ولهذا ينظر أهل مصر إلى الراغب في التغيير السريع أو التنقل في المكان أو التمرد على السائد، نظرة شك وريبة أحيانًا، وقد ينعتونه بصفات سلبية.
وهناك أسباب ظاهرة لهذا الميل، كالتآلف مع الأرض زمنًا طويلًا، والخوف من المغامرة اتِّقاءً للاستهجان الاجتماعي أو بطش السلطة، وما يدعو له الدين، وقد تعاقبت العقائد على أرض النيل، من رضا بالمقسوم والقضاء والقدر. وتوجد أيضًا التجربة التاريخية الطويلة التي سكنت الجينات الاجتماعية، وجعلت أهل مصر يدركون أن بلدهم منساب في تاريخ الإنسانية، ويجب أن يبقى على حاله هذه.
وتعكس الأمثال المصرية المتداولة، والحِكم الراسخة، والحكايات التي تتناقلها الأجيال وتحافظ عليها، جانبًا كبيرًا من الميل إلى الثبات، وتقديمه في الآراء والمواقف والأحوال على التغيير، الذي يخشى أغلب الناس من أن يأتي بما لا يُقدِّرون عواقبه، ولا يعرفون مآلاته.
كل شيء مستقر على ضفاف النيل
وعلى مدار التاريخ نظر الفلاحون إلى المتمرد من بينهم نظرة سلبية، فهو "لا يريد أن يعيش عيشة أهله"، أو هو "فلاتي"، وفق المصطلح القديم الذي كان يطلق على أولئك الذين يفرون من الوادي الخصيب إلى الجبال، بعد أن اختلفوا مع أهل الحكم أو ارتكبوا جرائم، أو "مطارد" وفق الاصطلاح الذي أُطلِق على هؤلاء في القرن العشرين.
والموظف يمسك وظيفته بكلتا يديه وأسنانه، ويراها شيئًا ثمينًا لا يجب التفريط فيه، عملًا بالمثل القائل "إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه". ويُبدي الموظف في بلادنا استعدادًا قويًا منذ لحظة استلامه عمله، للبقاء فيه حتى التقاعد. وإن تحرك في وظيفته فهو لا يعدو أن يكون الترقي فيها حسب الدرجات الوظيفية التي تنص عليها القوانين واللوائح.
وفي الوقت الذي نجد الفرد في المجتمعات الغربية مثلًا، قادرًا على تغيير مهنته أو وظيفته عدة مرات طوال عمره، ابتغاءَ الترقّي في المعاش أو هروبًا من الملل أو الاغتراب الوظيفي، نجد نظيره في مجتمعنا لا يثق كثيرًا في الشخص الذي ينتقل من مهنة إلى أخرى، ويرى أن ذلك يعكس إخفاقًا في العمل، أو اضطرابًا نفسيًا، أو فقدانًا للصبر.
والساكن في مكان يحبُّ البقاء فيه منذ أن يُكوِّن أسرته الصغيرة وحتى مماته. وداخل الشقة الواحدة نجد قلة من المصريين التي تميل إلى تغيير وضع الأثاث فيها، بما يساعد على كسر الملل منها، حين يتبدل مرآها بين حين وآخر أمام عيون ساكنيها. فلا تتحرك قطع الأثاث إلا وقتًا قصيرًا ساعة التنظيف، ووقتًا أطول أيام طلاء الحوائط أو إدخال تغيير ضروري على أوضاع الغرف، ثم لا يلبث كل شيء أن يعود إلى ما كان عليه.
وتحت ضغط الحاجة إلى التقاط الرزق، نزح البعض من الأرياف إلى المدن، لكنَّ كثيرًا من هؤلاء، لا سيما في السنين الأولى لانتقالهم، يشعرون باغتراب شديد، عكسته شفاهة الحكايات والقصص والروايات والأشعار، وأحلام اليقظة، وموجات الحنين الجارف إلى الأيام التي خلت، وانعكس عمليًا في استمرار ارتباط كثيرين من النازحين بمساقط رؤوسهم، يعودون إليها في الراحات الأسبوعية، والإجازات السنوية، وفي الأعياد، وكلما سنحت فرصة لهذا.
وتحت ضغط حاجة أشد اضطر المصريون إلى الهجرة، لكن الأغلبية الكاسحة من المهاجرين، وحتى الآن، تظل نفوسهم معلقة بوطنهم، حتى لو حصلوا على جنسيات بلاد أخرى، يعودون إليه في زيارات متتابعة، ويشترون على أرضه مقابر ليدفنوا فيها إن انقضى أجلهم.
وهذا التغيير الذي يضطر إليه النازح من الريف إلى المدينة، والمهاجر من مصر إلى خارجها، لا يزيد أحيانًا عن أن يكون تطبيقًا للتصور الشعبي عن "تغيير العتبة"، حيث يُنصِح الرجل الذي ضاق رزقه، وزاد نكده، وتأخر ولده، أن يتزوج بامرأة أخرى، فلعلَّ السعد يأتي مع الزوجة الجديدة.
وبالطبع فإن جزءًا من هذا الميل النفسي والاجتماعي لا يخص المصريين وحدهم، إذ نراه عند آخرين في أمم أخرى، لكنني أعتقد أنه نسبة وجوده عند المصري أعلى من غيره، للأسباب التي سبق ذكرها، وأسباب إضافية يخلقها التغير الذي يحدث في السياقات المحلية والعالمية.
"اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش"
هذه الثقافة الاجتماعية تكون لها انعكاساتها على الحياة السياسية، فتجد الحركات المطالبة بالتغيير نفسها في مأزق دائم، لأن عليها أن تواجه تلك الرواسب النفسية والثقافية التي تجعل الأغلبية الكاسحة من المصريين أمْيلُ إلى الثبات، طالما وجدوا ما يبقيهم على قيد الحياة، حتى لو كانت حياة صعبة قاسية أو بائسة.
انتقل الراغبون في تغيير المعادلة من الرغبة في تثوير كل الناس إلى الاكتفاء ببناء "الكتلة الحرجة"
فالمطالِبون بالتغيير، لا سيما من الصفوة الثقافية والسياسية، يجدون أمامهم دومًا حائط صد يصنعه أولئك الذين يرفعون دومًا شعار "اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفوش"، حتى لو كان من يعرفونه ليس الأفضل بينهم، بل قد يكون ذلك الذي يسرق أقواتهم، ويجلد ظهورهم.
ولعلَّ الميالين إلى الثبات هم من تخاطبهم السلطة السياسية دومًا بحديثها عن "الاستمرار والاستقرار"، حتى لو كان الاستمرار يمضي في طريق خاطئة، وكان الاستقرار يعني الجمود والتكلس. ولعل هؤلاء هم من أطلق عليهم المنخرطون في ثورة 25 يناير 2011 اسم "حزب الكنبة"، الذي خاف من الثورة أو رفضها أو لم يستعد نفسيا لتغير الأوضاع، فقعد مكانه، مناديًا بالعودة مرة أخرى إلى الوراء.
وهؤلاء هم من مثلوا جزءًا أصيلًا من خطط القوى المضادة للثورة، التي انتهزت فرصة أن هؤلاء يشكلون الأغلبية العددية أو الكمية، فتحدثت باسمهم، على أنهم يمثلون "الإرادة الشعبية"، والسلطة في هذا لم تكن تمارس سوى نوع من المخاتلة أو الخداع، لأن البقاء في المكان، أو العودة إلى الوراء، ليست في صالح هذه الأغلبية الصامتة أو المترددة.
ويدرك الراغبون في التغيير هذه المعادلة، لهذا انتقلوا من الرغبة في تثوير كل الناس إلى الاكتفاء ببناء ما تسمى بـ"الكتلة الحرجة"، وهي تمثل قطاعًا محددًا من الشعب، امتلك الوعي، وامتلأ بالرغبة في التغيير، وحاز الإرادة في سبيل العمل من أجل ذلك.