أكثر ما غاب، أو غُيَّب، خلال السنوات العشر الفائتة، هو مشروع 25 يناير السياسي. فقد رسم ملايين المصريين في 2011، عبر هتافهم في الميادين خطوطًا عريضة لمستقبل طال انتظاره، غير أن تلك الخطط والشعارات الكبرى لم تجد سبيلًا للتحقق. فلا حزبًا سياسيًا تبناها وآمن بها بحق وترجمها إلى برامج عمل، ولا الشعب نفسه استطاع فرضها على سلطة جديدة، بدأت منذ عام 2013 في الارتداد عن كل ما رسمته الجموع المخلصة، التي فتحت طريقًا جديدًا مغايرًا في الخامس والعشرين من يناير.
أكثر ما أضرَّ بثورة 25 يناير منذ بدايتها وقوَّض أحلام أبنائها، غياب القائد. كانت الثورة بكل أحلامها النبيلة وشعاراتها المخلصة مجرد "حالة ثورية"، لم تبنِ أحزابًا أو تُترجم مبادئها العامة في برامج أو مشروع سياسي جاد، اكتفت بخلق سيولة كبيرة عظمت من مساحة الحريات المتاحة، وأعادت الشعب إلى دوره وتأثيره كمصدر للسلطات، دون تقديم خطوات واضحة للتغيير. وهو ما حال دون نجاحها في بناء نظام بديل، بعد أن أسقطت نظامًا ديكتاتوريًا فاسدًا.
ما العمل؟
"الآن صار لـ25 يناير مشروعًا سياسيًا"؛ بهذا الوضوح والثقة أعلن النائب السابق أحمد الطنطاوي مشروعه وخطته للمستقبل.
فبعد أن كشف في مؤتمره الصحفي الجمعة الماضية منع حملته من استكمال التوكيلات الشعبية اللازمة للترشح لرئاسة الجمهورية، وعدَّد صور التضييق التي لاحقتها، طرح أهم وأخطر ما ينتظره هذا البلد منذ سنوات، وما غاب عنه طوال الرحلة التي تلت ثورة يناير الخالدة.
اختصر الطنطاوي خطته في كونها "المشروع السياسي لثورة يناير"، ووعد بأن يعلن تفاصيل المشروع الجديد والتحالف الجبهوي الذي ينوي تشكيله في غضون أسبوعين.
في حسابات السياسة يبدو "التنظيم" هو الفريضة الغائبة عن المجتمع المصري، فمصر بلد بلا تنظيمات سياسية حقيقية، وما نراه هو مجموعة من الأحزاب المؤيدة والداعمة للسلطة، في مفارقة مدهشة لن تراها في أي بلد في العالم، مقابل أحزاب "معارضة" محاصرة وتعاني من وطأة القمع والتهميش.
يمكن الدفع بـ"الأمل" من مساحة الحلم إلى خطوات تحقيقه
هذا المشهد السياسي الهزيل أفرز واقعًا سياسيًا مشوهًا، لا يعبر عن بلد تحاصره الهموم والأزمات من كل اتجاه، وتضغط على أعصاب مواطنيه أحوال معيشية واقتصادية مهلكة وبائسة وغير مسبوقة.
في وسط هذا المشهد المتهافت تبدو الدعوة لتنظيم سياسي جديد، يضم كل المؤمنين بثورة يناير وكل الذين شاركوا فيها وكانوا جزءًا منها، لا سيما الأجيال الشابة، حدثًا جاء في موعده المناسب بالتمام والكمال. فهي ليست مجرد دعوة في الفراغ، بل فريضة أكثر من أي وقت مضى تسد فراغ السياسة الكبير، وتضخ دماءً جديدة في شرايين المشهد العام التي تيبّست، وتمضي بالأمل إلى مساحات جديدة يمكن معها الحلم بالتغيير، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تحتاجها مصر ويستحقها شعبها.
يبدو "ما العمل" هو السؤال الأهم في بناء التنظيم السياسي الجديد. وفي إجابته يمكن الدفع بـ"الأمل" من مساحة الحلم إلى خطوات تحقيقه، بمعنى آخر؛ ماذا على المشروع، الذي أعلنه الطنطاوي، أن يقدم ليكون إضافة حقيقية ومهمة للحياة السياسة، ولأحلام التغيير والتحول الديمقراطي؟
في مساحات التحول من الأمل إلى العمل، هناك قضيتان أكثر إلحاحًا على أجندة المشروع الجديد، عليه أن يعالجهما ليُحدِث فارقًا مهمًا في حياتنا السياسية الراكدة.
القضية الأولى؛ هي تجديد النخبة السياسية والدفع بوجوه جديدة وشابة لصدارة المشهد البائس. وهنا يبرز أعضاء حملة الأمل ممن قاموا بعمل شجاع ونبيل طوال الأسابيع الفائتة.
وبات الدفع بهم والاعتماد عليهم، والثقة في قدرتهم على العمل الجاد المخلص، هو العنصر الفارق والمهم في إقناع الجمهور العادي بأن شيئًا جديدًا يحدث. وبأن هناك تغييرًا حدث بالفعل، مع تحمُّل جيل جديد مسؤوليته في دفع قضية التغيير خطوات هامة إلى الأمام، ثم الإيمان الراسخ بأن هذه الأجيال هي صاحبة المصلحة الحقيقية في أي تغيير يحدث في هذا البلد. وأنهم لا بد أن يكونوا جزءًا فاعلًا ومهمًا في صناعته وبلورة خطواته.
أما القضية الثانية، فهي ضرورة طرح برنامج واضح للتغيير. أفكار علمية وجادة، لا مجرد تعبيرات بلاغية وإنشائية في وصف الخلاف مع السياسات الحالية. خطط تحمل قطيعة تامة مع السياسات الاقتصادية الفاشلة بكل صورها. خطط تُشعر المواطن أن هناك بديلًا حقيقيًا يمكن أن ينقذه من التراجع غير المسبوق في مستويات المعيشة .
على أن يجيب هذا البرنامج، الذي سيُطرح على الناس، عن الأسئلة بالغة الدقة والأهمية والتي تتعلق بحلول واضحة ومدروسة لأزمات وقضايا كبرى، تبدأ بالحريات العامة وحقوق الإنسان والمساواة والمواطنة ودولة القانون، وتمر على قضايا الأمن القومي وسد النهضة والحرب على الإرهاب، ولا تنتهي عند قضايا الحقوق والحريات الشخصية ومدنية الدولة وتداول السلطة.
بإمكان هذا البرنامج العلمي والتفصيلي أن يترجم بصدق شعارات ثورة يناير الكبرى، ويحولها من مجرد مبادىء عامة، إلى قضايا تفصيلية ومحددة تعطي أملًا للمواطن العادي في بديل سياسي، يملك من الأفكار والرؤى العلمية والجادة ما يمكِّنه من حكم بلد كبير كمصر، بكل تعقيداته ومشاكله المزمنة.
في طرح مشروع سياسي لـ25 يناير ما يدعو إلى الأمل، أو ما يستكمل مشروع الأمل، وفي الإعداد الجيد له ما يمكّن من تغيير آمن، يجنب البلد كل سيناريوهات التغيير التي لا تتحمل كلفتها على كل المستويات، فمهما تأخرت أحلام التحول الديمقراطي فإن التأني الذي يتوخى السلامة للبلد وأهله هو الأفضل والأعقل، وفي هذا الطريق الرشيد فليتنافس المتنافسون.